بعد موت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، سمعسيدنا عمر يبكي ويقول :
( بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد كان جذع تخطب الناسعليه ، فلما كثر الناس اتخذت منبراً لتسعهم ، فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليهفسكن ، فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتها ) يروي البخاري ومسلم ، وكتبالسنة كلها تقريباً وكتب السيرة ( حادث حنين الجذع ) بعدة روايات ، وننقل هنا إحدىروايات البخاري :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كان النبي صلي الله عليهوسلم يخطب إلي جذع ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه ) .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد بلغ من فضيلتك عنده : أن جعل طاعتك طاعته،فقال عز وجل :
(مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ............{80}(1) .
يأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد أبلغ من فضيلتك عنده : ان بعثك آخر الأنبياء ، وذكرك في أولهم ، فقال عز وجل :
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَالنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{7}(2) .
يأبي أنت وأمييا رسول الله ، لقد أبلغ من فضيلتك عنده : ان أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوكوهم بين أطباقها يعذبون .
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا{66} (3) .
يأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجراً تتفجرمنه الأنهار فماذا ( فليس ذلك ) بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلي الله عليك .
( لقد دمي وجهه صلوات الله وسلامه عليه وكسرت رباعيته في ( غزوة أحد) . رويذلك البخاري ومسلم . أما حديث :
( اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) فقد رواهالبيهقي في دلائل النبوة .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد اتبعك في قلة سنك ،وقصر عمرك ما لم يتبع نوحاً في كثرة سنه ، وطول عمره ، ولقد آمن بك الكثير وما آمنمعه إلا القليل .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لو لم تجالس إلا كفئاً لك ماجالستنا ، ولو لم تنكح إلا كفئاً لك ما نكحت إلينا ، ولو لم تواكل إلا كفئاً لك ماواكلتنا ، فقد والله جالستنا ، ونكحت إلينا ، وواكلتنا ، ولبست الصوف ، وركبتالحمار ، وأردفت خلفك ، ووضعت طعامك علي الأرض تواضعاً منك صلي الله عليك وسلم ..
هذه الصورة :
ومن الطريف أن نذكر صورة أخرى استنتاجيه ، استنتجها رجللم يكن يعرف الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ولكنه رجل واسع الأفق رحب الخيال دقيقالتفكير .
وقد أتخذ الاحتياط اللازم حتى لا يشوب الصورة أي مطعن هذا الرجلهو(هرقل).
أتاه كتاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، يدعوه إلي الإسلام ،فلم يهمل الكتاب ولم يمزقه ، وإنما قرأه في عناية وانتباه ، ثم أراد أن يكون صورةصحيحة عن صاحب الخطاب ، فسأل عما إذا كان بالمدينة بعض العرب الذي يعرفون الرسولفقيل له : إن بالمدينة تجاراً من مكة يعرفون محمداً باعتباره من مواطنيهم فأمربإحضارهم وكان منهم أبو سفيان :
وسأل هرقل عن أقربهم نسباً إلي الرسول / فكانأبا سفيان فقربه منه وأدناه وقال لهم : إني سائله عن أمور فإن كذبني فكذبوه :
يقول :أبو سفيان ، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عليه .
وسنترك المقدمات والأسئلة الأولي لأنها واضحة من النتائج التي أنتهي إليهاهرقل :
إن هرقل بعد أن أنتهي من الأسئلة : بدأ – عن طريق الترجمان – يقول لأبيسفيان ، علي مشهد من الملأ الحاضر من أصحاب هرقل ، ومن أصحاب أبي سفيان : سألتك عننسبه :
فذكرت أنه فيكم ذو نسب .
فكذلك الرسل : تبعث في نسب قومها .
وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول ؟
فذكرت : أن لا .
فقلت : لو كان أحد قال هذاالقول قبله لقلت : رجل يأتسى يقول قيل قبله .
وسألتك : هل كان من آبائه من ملك؟
فذكرت : أن لا .
قلت : فلو كان آبائه من ملك قلت : رجل يطلب ملك أبيه ؟
وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
فذكرت : أن لا .
فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب علي الناس ويكذب علي الله .
وسألتك : أشرفالناس الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم .
فذكرت : أن ضعفائهم اتبعوه .
وهم : اتباعالرسل .
وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟
فذكرت : أنهم يزيدون .
وكذلك أمرالإيمان حتي يتم :
وسألتك : أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
فذكرت : أن لا .
وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
وسألتك :هل يغدر ؟
فذكرت : أن لا .
وكذلك الرسل : لا تغدر .
وسألك : بم يأمركم ؟
فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركمبالصلاة ، والصدق والعفاف فإن كان تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين .
وقد كنتأعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ،ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .
هذه الصورة التي كونها هرقل بمنطقة ، ويمكن أنيكونها أو يكون مثيلات لها كل إنسان اتسع أفقه ، ورحب تفكيره ، وكل إنسان يصدق اللهوالحق : لا بد أن ينتهي بما انهي إليه هرقل من قوله : ( لو كنت عنده لغسلت عن قدمه) وإنما يغسل عن قدمه ، من أجل : ( يوحي إلي ) إذ أن من اصطفناه الله لرسالته جديربأن يكون أهلاً لذلك .
بيد أن هذه النهاية التي انتهى إليها هرقل ، إنما هيالشعار الدائم الذي لا ينتهي بانتقال الرسول إلي الملأ الأعلي ، فالرسول حتي بينناالآن برسالته وهديه وتعاليمه والغسل عن قدمه الآن أو بتعبير آخر احترامه : إنما هوباتباع هديه ، والتزام رسالته ، وتقديره تقديراً يتناسب مع اصطفناء الله له صليالله عليه وسلم .