*3*
باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ
الشرح:
قوله: (باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها سنين كسني يوسف) أورد فيه حديث أبي هريرة في الدعاء في القنوت للمؤمنين، والدعاء على الكافرين، وفيه معنى الترجمة.
ووجه إدخاله في أبواب الاستسقاء التنبيه على أنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع الفريقين بإضعاف عدو المؤمنين ورقة قلوبهم ليذلوا للمؤمنين.
وقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم برفع القحط، كما في الحديث الثاني.
ويمكن أن يقال: إن المراد أن مشروعية الدعاء على الكافرين في الصلاة تقتضي مشروعية الدعاء للمؤمنين فيها، فثبت بذلك صلاة الاستسقاء خلافا لمن أنكرها.
والمراد بسني يوسف ما وقع في زمانه عليه السلام من القحط في السنين السبع كما وقع في التنزيل، وقد بين ذلك في الحديث الثاني حيث قال " سبعا كسبع يوسف " وأضيفت إليه لكونه الذي أنذر بها، أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها.
الحديث:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ
الشرح:
قوله: (حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن) هو الحزامي بالمهملة والزاي لا المخزوي، وهما مدنيان من طبقة واحدة لكن الحزامي معروف بالرواية عن أبي الزناد دون المخزومي، وقد بينه ابن معين والنسائي، لكنه لم ينفرد بهذا الحديث فسيأتي في الجهاد من رواية الثوري، وفي أحاديث الأنبياء من رواية شعيب، وأخرجه الإسماعيلي من رواية موسى بن عقبة كلهم عن أبي الزناد.
قوله: (اللهم اجعلها سنين) في الرواية الماضية في " باب يهوى بالتكبير من صفة الصلاة ": " اللهم اجعلها علهم " والضمير في قوله " اجعلها " يعود على المدة التي تقع فيها الشدة المعبر عنها بالوطأة، وزاد بعد قوله فيها كسني يوسف " وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له " وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفي في تفسير آل عمران إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غفار غفر الله لها الخ) هذا حديث آخر، وهو عند المصنف بالإسناد المذكور وكأنه سمعه هكذا فأورده كما سمعه.
وقد أخرجه أحمد عن قتيبة كما أخرجه البخاري، ويحتمل أن يكون له تعلق بالترجمة من جهة أن الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يخص بمن كان محاربا دون من كان مسالما.
قوله: (غفار غفر الله لها) فيه الدعاء بما يشتق من الاسم كأن يقول لأحمد: أحمد الله عاقبتك، ولعلى: أعلاك الله.
وهو من جناس الاشتقاق، ولا يختص بالدعاء بل يأتي مثله في الخبر، ومنه قوله تعالى (وأسلمت مع سليمان) وسيأتي في المغازي حديث " عصية عصت الله ورسوله " وإنما اختصت القبيلتان بهذا الدعاء لأن غفارا أسلموا قديما، وأسلم سالموا النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيان ذلك في أوائل المناقب إن شاء الله تعالى.
قوله: (قال ابن أبي الزناد عن أبيه: هذا كله في الصبح) يعني أن عبد الرحمن بن أبي الزناد روى هذا الحديث عن أبيه بهذا الإسناد، فبين أن الدعاء المذكور كان في الصبح، وقد تقدم بعض بيان الاختلاف في ذلك في أثناء صفة الصلاة.
الحديث:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ
الشرح:
قوله: (كنا عند عبد الله) يعني ابن مسعود، وسيأتي في تفسير الدخان سبب تحديث عبد الله بن مسعود بهذا الحديث.
قوله: (لما رأى من الناس إدبارا) أي من الإسلام، وسيأتي في تفسير الدخان أن قريشا لما أبطئوا عن الإسلام.
قوله: (فأخذتهم سنة) بفتح المهملة بعدها نون خفيفة أي أصابهم القحط، وقوله "حصت " بفتح الحاء والصاد المهملتين أي استأصلت النبات حتى خلت الأرض منه.
قوله: (حتى أكلنا) في رواية المستملي والحموي " حتى أكلوا " وهو الوجه، وكذا قوله " ينظر أحدكم " عند الأكثر " ينظر أحدهم " وهو الصواب.
وسيأتي بقية الكلام عليه بعد تسعة أبواب.
*3*
باب سُؤَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا
الشرح:
قوله: (باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) قال ابن رشيد: لو أدخل تحت هذه الترجمة حديث ابن مسعود الذي قبله لكان أوضح مما ذكر.
انتهى.
ويظهر لي أنه لما كان من سأل قد يكون مسلما وقد يكون مشركا وقد يكون من الفريقين، وكان في حديث ابن مسعود المذكور أن الذي سأل قد يكون مشركا، ناسب أن يذكر في الذي بعده ما يدل على ما إذا كان الطلب من الفريقين كما سأبينه، ولذلك ذكر لفظ الترجمة عاما لقوله " سؤال الناس " وذلك أن المصنف أورد في هذا الباب تمثل ابن عمر بشعر أبي طالب وقول أنس " إن عمر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس " وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: حديث ابن عمر خارج عن الترجمة، إذ ليس فيه أن أحدا سأله أن يستسقى له ولا في قصة العباس التي أوردها أيضا.
وأجاب ابن المنير عن حديث ابن عمر بأن المناسبة تؤخذ من قوله فيه " يستسقى الغمام " لأن فاعله محذوف وهم الناس، وعن حديث أنس بأن في قول عمر " كنا نتوسل إليك بنبيك " دلالة على أن للإمام مدخلا في الاستسقاء.
وتعقب بأنه لا يلزم من كون فاعل " يستسقى " هو الناس أن يكونوا سألوا الإمام أن يستسقى لهم كما في الترجمة، وكذا ليس في قول عمر أنهم كانوا يتوسلون به دلالة على أنهم سألوه أن يستسقى لهم، إذ يحتمل أن يكونوا في الحالين طلبوا السقيا من الله مستشفعين به صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون أراد بالترجمة الاستدلال بطريق الأولى لأنهم إذا كانوا يسألون الله به فيسقيهم فأحرى أن يقدموه للسؤال.
انتهى.
وهو حسن ويمكن أن يكون أراد من حديث ابن عمر سياق الطريق الثانية عنه، وأن يبين أن الطريق الأولى مختصرة منها، وذلك أن لفظ الثانية " ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى فدل ذلك على أنه هو الذي باشر الطلب صلى الله عليه وسلم، وأن ابن عمر أشار إلى قصة وقعت في الإسلام حضرها هو لا مجرد ما دل عليه شعر أبي طالب.
وقد علم من بقية الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما استسقى إجابة لسؤال من سأله في ذلك كما في حديث ابن مسعود الماضي وفي حديث أنس الآتي وغيرهما من الأحاديث، وأوضح من ذلك ما أخرجه البيهقي في " الدلائل " من رواية مسلم الملائي عن أنس قال " جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط.
ثم أنشده شعرا يقول فيه: وليس لنا إلا إليك فرارنا وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فقال " اللهم اسقنا " الحديث وفيه " ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه.
من ينشدنا قوله؟ فقام علي فقال: يا رسول الله، كأنك أردت قوله " وأبيض يستسقى الغمام بوجهه " الأبيات، فظهرت بذلك مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، وإسناد حديث أنس وإن كان فيه ضعف لكنه يصلح للمتابعة، وقد ذكره ابن هشام في زوائده في السيرة تعليقا عمن يثق به.
وقوله "يئط " بفتح أوله وكسر الهمزة وكذا " يغط " بالمعجمة، والأطيط صوت البعير المثقل، والغطيط صوت النائم كذلك، وكني بذلك عن شدة الجوع، لأنهما إنما يقعان غالبا عند الشبع.
وأما حديث أنس عن عمر فأشار به أيضا إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو عند الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن الأنصاري بإسناد البخاري إلى أنس قال " كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقى لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر " فذكر الحديث.
وقد أشار إلى ذلك الإسماعيلي فقال: هذا الذي رويته يحتمل المعنى الذي ترجمه، بخلاف ما أورده هو: قلت: وليس ذلك بمبتدع، لما عرف بالاستقراء من عادته من الاكتفاء بالإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده.
وقد روى عبد الرزاق من حديث ابن عباس " أن عمر استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فأستسق، فقام العباس " فذكر الحديث، فتبين بهذا أن في القصة المذكورة أن العباس كان مسئولا وأنه ينزل منزلة الإمام إذا أمره الإمام بذلك.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري - وكان خازن عمر - قال " أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر " الحديث.
وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة، وظهر بهذا كله مناسبة الترجمة لأصل هذه القصة أيضا والله الموفق.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ
الشرح:
قوله: (يتمثل) أي ينشد شعر غيره.
قوله: (وأبيض) بفتح الضاد وهو مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار أعني أو أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على قوله " سيدا " في البيت الذي قبله.
قوله: (ثمال) بكسر المثلثة وتخفيف الميم هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي، قد أطلق على كل من ذلك.
وقوله "عصمة للأرامل " أي يمنعهم مما يضرهم، والأرامل جمع أرملة وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضا مجازا، ومن ثم لو أوصى للأرامل خص النساء دون الرجال.
وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتا، قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام، أولها: ولما رأيت القوم لا ود فيهم وقد قطعوا كل العرا والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى وقد طاوعوا أمر العدو المزايل يقول فيها: أعبد مناف أنتم خير قومكم فلا تشركوا في أمركم كل واغل فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم تكونوا كما كانت أحاديث وائل يقول فيها: أعوذ برب الناس من كل طاعن علينا بسوء أو ملح بباطل وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه وراق لبر في حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة وبالله أن الله ليس بغافل يقول فيها: كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل يقول فيها: وما ترك قوم لا أبالك سيدا يحوط الذمار بين بكر بن وائل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل قال السهيلي: فإن قيل كيف قال أبو طالب " يستسقى الغمام بوجهه " ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة! وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه غلام.
انتهى.
ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد وقوعه، وسيأتي في الكلام على حديث ابن مسعود ما يشعر بأن سؤال أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وقع بمكة.
وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا أو غيره من شأنه، وفيه نظر لما تقدم عن ابن إسحاق أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث، ومعرفة أبي طالب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت في كثير من الأخبار، وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلما.
ورأيت لعلي بن حمزة البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب وزعم في أوله أنه كان مسلما وأنه مات على الإسلام وأن الحشوية تزعم أنه مات على الكفر وأنهم لذلك يستجيزون لعنه، ثم بالغ في سبهم والرد عليهم، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه.
وقد بينت فساد ذلك كله في ترجمة أبي طالب من كتاب الإصابة، وسيأتي بعضه في ترجمة أبي طالب من كتاب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وقال عمر بن حمزة) أي ابن عبد الله بن عمر، وسالم شيخه هو عمه، وعمر مختلف في الاحتجاج به وكذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المذكور في الطريق الموصولة، فاعتضدت إحدى الطريقين بالأخرى، وهو من أمثلة أحد قسمي الصحيح كما تقرر في علوم الحديث، وطريق عمر المعلقة وصلها أحمد وابن ماجة والإسماعيلي من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل الثقفي عنه، وعقيل فيهما بفتح العين.
قوله: (يستسقى) بفتح أوله زاد ابن ماجة في روايته " على المنبر " وفي روايته أيضا " في المدينة".
قوله: (يجيش) بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة يقال: جاش الوادي إذا زخر بالماء، وجاشت القدر إذا غلت، وجاش الشيء إذا تحرك.
وهو كناية عن كثرة المطر.
قوله: (كل ميزاب) بكسر الميم وبالزاي معروف، وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال.
ووقع في رواية الحموي " حتى يجيش لك " بتقديم اللام على الكاف وهو تصحيف.
الحديث:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ
الشرح:
قوله: (حدثني الحسن بن محمد) هو الزعفراني والأنصاري شيخه يروي عنه البخاري كثيرا وربما أدخل بينهما واسطة كهذا الموضع، ووهم من زعم أن البخاري أخرج هذا الحديث عن الأنصاري نفسه.
قوله: (أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط، وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال " اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث.
فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس " وأخرج أيضا من طريق داود عن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال " استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب " فذكر الحديث وفيه " فخطب الناس عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله " وفيه " فما برحوا حتى سقاهم الله " وأخرجه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال " عن أبيه " بدل ابن عمر، فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر، وقد تقدم من رواية الإسماعيلي رفع حديث أنس المذكور في قصة عمر والعباس، وكذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن المثنى بالإسناد المذكور.
ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.