-ويكفي في شدة خفائه ما رويناه عن الأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - في رسالته بإسنادنا المتقدم عنه قال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر [يقول]: سمعت الحسن بن علوية يقول: قال أبو يزيد رضي الله تعالى عنه:
-كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زنار ظاهر، فعملت في قطعة ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار، فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطع؟ فكشف لي فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى، فكبرت عليهم أربع تكبيرات!.
-قلت: يكفي في شدة خفاء الرياء، اشتباهه هذا الاشتباه على هذا السيد الذي عز عن نظيره في هذا الطريق.
-وأما قوله: "فرأيتهم موتى" فهو في غاية النفاسة والحسن، قل أن يوجد في غير كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام يحصل معناه. وأنا أشير إلى شرحه بعبارة وجيزة:
-فمعناه أنه لما جاهد هذه المجاهدة، وتهذبت نفسه، واستنار قلبه، واستولى على نفسه فقهرها، وملكها ملكًا تامًا، وانقادت له انقيادًا خالصًا، نظر إلى جميع المخلوقين فوجدهم موتى لا حكم لهم. فلا يضرون ولا ينفعون، ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يحيون ولا يميتون، ولا يصلون ولا يقطعون، ولا يقربون ولا يبعدون، ولا يسعدون ولا يشقون، ولا يرزقون ولا يحرمون، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
-وهذه صفة الأموات، فينبغي أن يعاملوا معاملة الموتى في هذه الأمور المذكورة.
-وأن لا يخافوا ولا يرجوا، ولا يطمع فيما عندهم، ولا يراءوا ولا يداهنوا، ولا يشتغل بهم، ولا يحتقروا ولا ينتقصوا، ولا تذكر عيونهم، ولا تتبع غرائزهم، ولا ينقب عن زلاتهم، ولا يحسدوا، ولا يستكثر فيهم ما أعطاهم الله تعالى من نعمه، ويرحموا ويعذروا فيما يأتونه من النقائص، مع أنا نقيم الحدود عليهم ما جاء الشرع به من الحدود.
-ولا يمنعنا إقامة الحد ما قدمناه، ولا يمنعنا - أيضًا - ما قدمناه من إقامة الحد[ود] إنَّا نحرص على ستر عوراتهم من غير نقص لهم، كما يفعل ذلك بالميت.
-وإذا ذكرهم ذاكر بشين نهيناه عن الخوض في ذلك، كما تنهاه عن ذلك في الميت، ولا نفعل شيئًا لهم، ولا تتركه لهم، ولا نتمتع من القيام بشيء من طاعات الله بسببهم، كما لا نتمتع من ذلك بسبب الميت، فنكترث بمحدهم ولا نحبه، ولا نكره سبهم إيانًا ولا نقابله.
-فالحاصل أنهم كالعدم في جميع ما ذكرناه، فهم مدبرون تجري فيهم أحكام الله تعالى. فمن عاملهم هذه المعاملة جمع خير الآخرة والدنيا، نسأل الله الكريم التوفيق لذلك.
-فهذه الأحرف كافية الإشارة إلى شرح كلامه رضي الله تعالى عنه، والله أعلم.
باب في نفائس مأثورة.
[وصية السري السقطي للشباب]
-وروينا بإسنادنا إلى القشيري رحمه الله تعالى قال: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي إمام الصوفية في زمانه وبعده قال: سمعت العباس البغدادي يقول: سمعت جعفرًا يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري - رحمه الله تعالى - يقول: "يا معشر الشباب! جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي، فتضعفوا أو تقصروا كما قصرت"!.
-قال: وكان في ذلك الوقت لا تلحقه الشباب في العبادة!.
-وقال أحمد بن أبي الحواري في "كتاب الزهد": حدثنا سويد قال: رأيت ابن أبي مرثد في السوق وفي يده عرق ورغيف، وهو يأكل - وكان طلب للقضاء - ففعل ذلك حتى تخلص.
-قلت: العرق بفتح العين وإسكان الراء هو العظم عليه قليل لحم.
-ومما يشبه هذا ما رواه الإمام البيهقي بإسناده عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: دخل سفيان الثوري رضي الله تعالى إنه على أمير المؤمنين فجعل يتجانن عليهم، ويمسح البساط ويقول: ما أحسنه! لكم أخذتم هذا؟ قال: البول البول!.
-حتى أخرج، يعني أنه احتال ليتباعد عنهم ويسلم من أمرهم.
باب في نفائس مأثورة.
[ما قاله الحسين عند موت ابنه]
-وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: مات ابن للحسين بن عليٍّ رضي الله تعالى عنهما فلم ير عليه كآبةٌ! فعوقب في ذلك، فقال:
-إنا أهل بيتٍ نسأل الله تعالى فيعطينا، فإِذا أراد ما نكره فيما يحب رضينا؟.
-وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: "ما نحبُّ من نحب إلا لطاعتهم لمؤدبهم، وأنت تعصيني قد أمرتك أن لا تفتح أصابعك في الثريد، ضمها".
-وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه أنه نظر إلى ابنه فقال: إني لأعلم خير خلَّةً فيك. قيل: وما هي؟ قال: يموت فأحتسبه.
-وعن أبي الحسن المدائني قال: قيل لأعرابية: ما أحسن عزاك على ابنك؟ [فقالت]: إن فقد أبيه أنسى المثائبَ بعده!.