باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية.
فصل [في كتب الحسنات والسيئات]
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة).
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجيش الذين يقصدون الكعبة: "يخسف بأولهم وآخرهم".
-فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أشراف، ومن ليس منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم".
وثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية".
-قلت: اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء في معنى: "لا هجرة بعد الفتح" فقيل: معناه لا هجرة من مكة؛ إذا صارت دار إسلام. وقيل: لا هجرة بعد الفتح كاملة الفضل، كالتي قبل الفتح.
وأما الهجرة من دار الكفار اليوم فواجبة وجوبًا متأكدًا على من قدر عليها، إذا لم يقدر من إظهار دين الإسلام هناك، فإن قدر استحب ولا يجب، والله تعالى أعلم.
-ورُوِّينا عن السيد الجليل أبي ميسرة عمر بن شرحبيل التابعي الكوفي الهمْدَاني - بإسكان الميم وبالدال المهملة - رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا أخذ عطاءه تصدق منه، فإذا جاء إلى أهله فعدوه وجدوه سواء! فقال لابن أخيه: ألا تفعلون مثل هذا؟! فقالوا: لو علمنا أنه لا ينقص لفعلنا!.
-قال أبو ميسرة: إني لست أشرط هذا على ربي عز وجل.
وقال إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه: خير الدنيا والآخرة في خمس خصال:
(1) غنى النفس،
(2) وكف الأذى،
(3) كسب الحلال،
(4) ولباس التقوى،
(5) والثقة بالله عز وجل على كل حال.
-وروينا عن السيد الجليل حماد بن سلمة رحمه الله تعالى وكان يُعد من الأبدال، قال: "من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به".
وقال أحمد بن أبي الحواري السيد الجليل في كتاب الزهد الذي صنفه، وسترى ما أنقل من النفائس - إن شاء الله - ولم يحصل إلي الآن إسناده؛ ولكن عندي منه نسخة جيدة متقنة، ذكر لي بعض أهل العلم والخبرة أنها بخط الدارقطني رحمه الله تعالى.
قال أحمد: حدثنا إسحاق بن خلف قال: حدثنا حفص بن غياث قال: "كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله عنه لا يأكل الخبز إلا بنية".
-قلت لإسحاق: وأي شيء النية في أكل الخبز؟ قال: كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها؛ فإذا خف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها، وتركه لها.
قلت: معنى يخف: أي ينشط وتسهل عليه ويتلذذ بها.
وأحمد بن أبي الحواري يقال: بفتح الراء ويكسرها، والكسر أشهر، والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان أو عن بعضهم والله تعالى أعلم.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان -يعني- الداراني رحمه الله تعالى يقول: "عاملوا الله بقلوبكم". قلت: معناه طهروا قلوبكم وصفوها، وهذبوها، ولا تخلوا بشيء من الأعمال الظاهرة.
"والداراني" يقال: بالنون بعد الألف الثانية، ويقال: بهمزة بدل النون؛ وهو بالنون أشهر والوجهان فيه ذكرهما أبو سعيد السمعاني في الأنساب، لكن النون أشهر وأكثر استعمالًا؛ والهمز أقرب إلى الأصل.
وهو منسوب إلى داريا؛ القرية الكبيرة النفيسة بجانب دمشق.
وكان أبو سليمان من كبار العارفين، وأصحاب الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والحكم المتظاهرة،
واسمه: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية.
وسيمر بك -إن شاء الله تعالى- جمل ما أنقله عنه من النفائس، وهو أحد متأخري بلادنا دمشق وما حولها رضي الله تعالى عنه. ونسبه ما قاله: أبو سليمان، ما رويناه عن السيد الجليل أبي علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه. قال: "ما أدرك ما عندنا من أدرك! بكثرة صلاة، ولا صوم؛ ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة".
وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: "من أراد أن يقضيَ الله تعالى له بالخير فليحسن الظن بالناس".
أخبرنا شيخنا الإمام أبو البقاء بقراءتي عليه، قال: أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة، أخبرنا أبو طاهر السِّلَفي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأسد أبادي، أخبرنا: علي بن الحسين بن علي، أخبرنا: أبو منصور يحيى بن أحمد المروزي، قال: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور، قال: سمعت أبا طاهر محمد بن الحسين بن ميمون يقول: سمعت أبا موسى هارون بن موسى يقول: قال أبو حاتم محمد بن إدريس: سمعت [أبا] قبيصة يقول: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال:
نظرتُ إلى ربي كِفاحًا فقال لي *** هنيئًا رضائي عنك يا ابنَ سعيد
لقد كُنْتَ قوَّامًا إِذا أظلمَ الدُجا *** بعَبْرة مُشتاقٍ وقلبِ عميد
فدونَك فاخترْ أيَّ قَصْرٍ أردتَه *** وزُرْني فإِني منكَ غيرُ بَعيد
[ضبط اسم الدوني والسلفي]
قلت: "السِّلَفي" بكسر السين المهملة وفتح اللام، منسوب إلى جد له يقال له: سلفة. كان هذا الجد مشقوق الشفة، فقلب بالفارسية سِه لَفة بكسر السين وفتح اللام، أي: ذو ثلاث شفاه، ثم عُرِّبت فقيل: سلفة. وكان أبو طاهر السِّلَفي أحد حفَّاظ عصره.
وأما "الدُّوْني" بضم الدال وإسكان الواو، فمنسوب إلى الدون: قرية بخراسان من أعمال الدينور.
وأما "الأسد أبادي": فمنسوب لأسد أباد بُلَيدة على مرحلة من همذان إذا توجهت إلى العراق.
وأما "الثوري": فمنسوب إلى بثي ثور بن عبد مناف بن أدّ بن طابخة بن إلياس، بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
[شرح الكلمات]
-وأما قوله "نظرت إلى ربي كفاحًا": فهو بكسر الكاف، ومعناه: معاينة بغير حجاب ولا رسول.
وقوله: "إذا أظلم الدجا" هو الظلام.
وقوله: "عميد" أي محب صادق الحب لله.
قال أهل اللغة: العميد القلب الذي هزه العشق.
أخبرنا شيخنا: الإمام الحافظ أبو البقاء رحمه الله تعالى:
أخبرنا [أبو] محمد بن عبد العزيز بن معالي، أخبرنا القاضي أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، حدثنا الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، أخبرنا محمد بن أحمد الوراق، قال: سمعت عبد الله ابن سهل الرازي يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي رضي الله تعالى عنه يقول: كم من مستغفر ممقوت. وساكت مرحوم! [يقول] هذا: أستغفر الله، وقلبه فاجر! وهذا ساكت، وقلبه ذاكر.
-وبالإسناد إلى الخطيب قال: حدثنا أبو الحسن الواعظ، قال: سمعت أبا عبد الله بن عطا الروذباري رحمه الله يقول: "من خرج إلى العلم يريد العمل به نفعه قليل العلم".
وبهذا الإسناد قال أبو عبد الله بن عطاء: العلم موقوف على العمل به، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله تعالى يورث الفهم عن الله تعالى.
قلت: يعني العلم النافع المطلوب، كما قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: "ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع".
-وأخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا الخطيب، أخبرنا علي بن محمود الصوفي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز الحلبي قال: سمعت قاسما الجوعي رضي الله تعالى عنه يقول: "أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأفضل طريق الجنة سلامة الصدر".
قلت: "الجُوْعي" بضم الجيم وإسكان الواو.
قال الإمام الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب الأنساب: قاسم الجوعي هذا، له كرامات؛ منسوب إلى الجوع. قال: ولعله كان يبقى جائعًا كثيرًا.
-وأخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر. أخبرنا الخطيب، أخبرنا أحمد بن الحسين بن السماك قال: سمعت أبا بكر الدقي قال: سمعت أبا بكر الزقاق رضي الله عنه يقول: بني أمرنا هذا على أربع:
(1) لا نأكل إلا عن فاقة.
(2) ولا ننام إلا عن غلبة.
(3) ولا نسكت إلى عن خيفة.
(4) ولا نتكلم إلا عن وجد.
[ضبط اسم الدقي والزقاق]
قلت: "الدُّقِّي" بضم الدال وكسر القاف المشددة، وهو من كبار الصوفية وأهل المعارف والكرامات، توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة.
وأما "الزَّقَّاق" فبفتح الزاي، وتشديد القاف. قال السمعاني: هو نسبة إلى الزق وعمله وبيعه.
-كان أبو بكر الزقاق هذا من كبار الصوفية أصحاب الكرامات الظاهرات، والمعارف المتظاهرات.
وبهذا الإسناد إلى الزقاق قال: كل أحد ينسب إلى نسب إلا الفقراء، فإنهم ينسبون إلى الله عز وجل.
وكل حسب ونسب ينقطع، إلا حسبهم ونسبهم، فإن نسبهم الصدق، وحسبهم الفقر.
وبلغنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيما رواه البيهقي - رحمه الله - بإسناده عن يونس بن عبد الله، وقيل: ابن عبد الأعلى قال: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: "يا أبا موسى! لو اجتهدت كلَّ الجهد، على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل إليه، فإن كان كذلك، فأخلص عملك ونيتك لله عز وجل".
وأخبرنا شيخنا أبو البقاء أخبرنا أبو محمد أخبرنا أبو بكر أخبرنا الخطيب أخبرنا أحمد بن الحسين الواعظ قال: سمعت أبا بكر الطرسوسي يقول: سمعت [أبا بكر] إبراهيم بن شيبان يقول: سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: صوفي بلا صدق، الرُوْزجار أحسن منه".
قلت: هو "براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم زاي، ثم جيم ثم ألف، ثم راء". وهو الذي يعمل في الطين بالمجرفة ونجوها.