*3*
باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ قَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَقَالَ عَطَاءٌ تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ
الشرح:
قوله: (باب المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره فاسعوا إلى ذكر الله) ومن قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى وسعى لها سعيها) .
قال ابن المنير في الحاشية: لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع دل أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا كالبيع والصناعة، والحاصل أن المأمور به سعي الآخرة، والمنهي عنه سعي الدنيا.
وفي الموطأ عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن هذه الآية فقال: كان عمر يقرؤها " إذا نودي للصلاة فامضوا " وكأنه فسر السعي بالذهاب، قال مالك: وإنما السعي العمل لقول الله تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض) وقال (وأما من جاءك يسعى) قال مالك: وليس السعي الاشتداد ا ه.
وقراءة عمر المذكورة سيأتي الكلام عليها في التفسير.
وقد أورد المصنف في الباب حديث " لا تأتوها وأنتم تسعون " إشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث، والحجة فيه أن السعي في الآية فسر بالمضي، والسعي في الحديث فسر بالعدو.
لمقابلته بالمشي حيث قال: لا تأتوها تسعون وأتوها تمشون.
قوله: (وقال ابن عباس يحرم البيع حينئذ) أي إذا نودي بالصلاة، وهذا الأثر ذكره ابن حزم من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ " لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادي للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع " ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا، وإلى القول بالتحريم ذهب الجمهور، وابتداؤه عندهم من حين الأذان بين يدي الإمام لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبا.
وروى عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق مكحول أن النداء كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع، وهو مرسل يعتضد بشواهد تأتي قريبا.
وأما الأذان الذي عند الزوال فيجوز عندهم البيع فيه مع الكراهة، وعن الحنفية يكره مطلقا ولا يحرم، وهل يصح البيع مع القول بالتحريم؟ قولان مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقا أو لا؟ .
قوله: (وقال عطاء تحرم الصناعات كلها) وصله عبد بن حميد في تفسيره بلفظ " إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا " وبهذا قال الجمهور أيضا.
قوله: (وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري الخ) لم أره من رواية إبراهيم، وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري وقال: إنه اختلف عليه فيه فقيل عنه هكذا، وقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على مسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري، قال ابن المنذر: وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك، لأن الزهري اختلف عليه فيه ا ه.
ويمكن حمل كلام الزهري على حالين، فحيث قال " لا جمعة على مسافر " أراد على طريق الوجوب، وحيث قال " فعليه أن يشهد " أراد على طريق الاستحباب.
ويمكن أن تحمل رواية إبراهيم بن سعد هذه على صورة مخصوصة، وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء لها، لا أنها تلزم المسافر مطلقا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازا مثلا، وكأن ذلك رجح عند البخاري، ويتأيد عنده بعموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) فلم يخص مقيما من مسافر، وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعا بعرفة وكان يوم جمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على مسافر فهو عمل صحيح، إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها.
وقال الزين بن المنير: قرر البخاري في هذه الترجمة إثبات المشي إلى الجمعة مع معرفته بقول من فسرها بالذهاب الذي يتناول المشي والركوب، وكأنه حمل الأمر بالسكينة والوقار على عمومه في الصلوات كلها فتدخل الجمعة كما هو مقتضى حديث أبي هريرة، وأما حديث أبي قتادة فيؤخذ من قوله " وعليكم السكينة " فإنه يقتضي عدم الإسراع في حال السعي إلى الصلاة أيضا.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ
الشرح:
قوله: (حدثني علي بن عبد الله) هو ابن المديني.
قوله: (يزيد) بالتحتانية والزاي، و (عباية) بفتح المهملة بعدها موحدة وهو ابن رفاعة بن رافع ابن خديج.
قوله: (أدركني أبو عبس) بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة واسمه عبد الرحمن على الصحيح، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
قوله: (وأنا أذهب) كذا وقع عند البخاري أن القصة وقعت لعباية مع أبي عبس، وعند الإسماعيلي من رواية علي بن بحر وغيره عن الوليد بن مسلم أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وكذا أخرجه النسائي عن الحسين بن حريث عن الوليد ولفظه " حدثني يزيد قال: لحقني عباية بن رفاعة وأنا ماش إلى الجمعة " زاد الإسماعيلي في روايته " وهو راكب، فقال: احتسب خطاك هذه " وفي رواية النسائي " فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، فإني سمعت أبا عبس بن جبر " فذكر الحديث، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون القصة وقعت لكل منهما، وسيأتي الكلام على المتن في كتاب الجهاد، وأورده هنا لعموم قوله " في سبيل الله " فدخلت فيه الجمعة، ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك.
وقال ابن المنير في الحاشية: وجه دخول حديث أبي عبس في الترجمة من قوله " أدركني أبو عبس " لأنه لو كان يعدو لما احتمل وقت المحادثة لتعذرها مع الجري، ولأن أبا عبس جعل حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد.
وليس العدو من مطالب الجهاد فكذلك الجمعة، انتهى.
وحديث أبي هريرة تقدم الكلام عليه في أواخر أبواب الأذان، وقد سبق في أول هذا الباب توجيه إيراده هنا.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ
الشرح:
قوله: (عن عبد الله بن أبي قتادة قال أبو عبد الله: لا أعلمه إلا عن أبيه) انتهى.
أبو عبد الله هذا هو المصنف.
وقع قوله " قال أبو عبد الله " في رواية المستملي وحده، وكأنه وقع عنده توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، وهو في الأصل موصول لا ريب فيه، فقد أخرجه الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أبي حفص - وهو عمرو بن علي شيخ البخاري فيه - فقال " عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه " ولم يشك، وأغرب الكرماني فقال: إن هذا الإسناد منقطع وإن حكم البخاري بكونه موصولا لأن شيخه لم يروه إلا منقطعا، انتهى.
وقد تقدم في أواخر الأذان أن البخاري علق هذه الطريق من جهة على ابن المبارك ولم يتعرض للشك الذي هنا، وتقدم الكلام على المتن أيضا، وموضع الحاجة منه هنا قوله " وعليكم السكينة " قال ابن رشيد: والنكتة في النهي عن ذلك لئلا يكون مقامهم سببا لإسراعه في الدخول إلى الصلاة فينافي مقصوده من هيئة الوقار، قال: وكأن البخاري استشعر إيراد الفرق بين الساعي إلى الجمعة وغيرها بأن السعي إلى الصلاة غير الجمعة منهي لأجل ما يلحق الساعي من التعب وضيق النفس فيدخل في الصلاة وهو منبهر فينافي ذلك خشوعه، وهذا بخلاف الساعي إلى الجمعة فإنه في العادة يحضر قبل إقامة الصلاة فلا تقام حتى يستريح مما يلحقه من الانبهار وغيره، وكأنه استشعر هذا الفرق فأخذ يستدل على أن كل ما آل إلى إذهاب الوقار منع منه، فاشتركت الجمعة مع غيرها في ذلك، والله أعلم.
*3*
باب لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الشرح:
قوله: (باب لا يفرق) أي الداخل (بين اثنين) كذا ترجم ولم يثبت الحكم، وقد نقل الكراهة عن الجمهور ابن المنذر واختار التحريم، وبه جزم النووي في " زوائد الروضة " والأكثر على أنها كراهة تنزيه، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص، والمشهور عند الشافعية الكراهة كما جزم به الرافعي، والأحاديث الواردة في الزجر عن التخطي مخرجة في المسند والسنن وفي غالبها ضعف، وأقوى ما ورد فيه ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزاهرية قال " كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن رجلا جاء يتخطى والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: اجلس فقد آذيت " ولأبي داود من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه " ومن تخطى رقاب الناس كانت له ظهرا " وقيد مالك والأوزاعي الكراهة بما إذا كان الخطيب على المنبر، قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين يتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه، وقد استثنى من كراهة التخطي ما إذا كان في الصفوف الأول فرجة فأراد الداخل سدها فيغتفر له لتقصيرهم.
أورد فيه حديث سلمان، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب الدهن للجمعة".
*3*
باب لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
الشرح:
قوله: (باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه) هذه الترجمة المقيدة بيوم الجمعة ورد فيها حديث صحيح لكنه ليس على شرط البخاري، أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيه ولكن يقول تفسحوا " ويؤخذ منه أن الذي يتخطى بعد الاستئذان خارج عن حكم الكراهة، وقوله في الحديث " لا يقيم الرجل أخاه " لا مفهوم له بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه، لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا، وإن فعله من جهة الأثرة كان أقبح، كأن البخاري اغتنى عنه بعموم حديث ابن عمر المذكور في الباب، وبالعموم المذكور احتج نافع حين سأله ابن جريج عن الجمعة، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم بيان دخول هذه الصورة في التفرقة التي قبلها.
وشيخ البخاري فيه هو محمد بن سلام كما وقع منسوبا في رواية أبى ذر.
*3*
باب الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الشرح:
قوله: (باب الأذان يوم الجمعة) أي متى يشرع.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الزَّوْرَاءُ مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ بِالْمَدِينَةِ
الشرح:
قوله: (عن السائب بن يزيد) في رواية عقيل عن ابن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره.
وفي رواية يونس عن الزهري سمعت السائب، وسيأتيان بعد هذا.
قوله: (كان النداء يوم الجمعة) في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة، وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب " كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة " قال ابن خزيمة: قوله أذانين يريد الأذان والإقامة، يعني تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام كما تقدم في أبواب الأذان.
قوله: (إذا جلس الإمام على المنبر) في رواية أبي عامر المذكورة " إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة " وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري ولفظه " وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر " وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون قوله " يعني " وللنسائي رواية سليمان التيمي عن الزهري " كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.
فإذا نزل أقام " وقد تقدم نحوه في مرسل مكحول قريبا، قال المهلب: الحكمة في جعل الأذان في هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب، كذا قال وفيه نظر، فإن في سياق ابن إسحاق عند الطبراني وغيره عن الزهري في هذا الحديث " إن بلالا كان يؤذن على باب المسجد صلى الله عليه وسلم " فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات، نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام، وكان الذي بين يدي الخطيب للإنصات.
قوله: (فلما كان عثمان) أي خليفة.
قوله: (وكثر الناس) أي بالمدينة، وصرح به في رواية الماجشون، وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في رواية أبي ضمرة عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته.
قوله: (زاد النداء الثالث) في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعي من هذا الوجه، ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا، ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين " أن التأذين بالثاني أمر به عثمان " وتسميته ثانيا أيضا متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة.
قوله: (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء ممدودة، وقوله "قال أبو عبد الله " هو المصنف، وهذا في رواية أبي ذر وحده، وما فسر به الزوراء هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ " زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء " وفي روايته عند الطبراني " فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء، فكان يؤذن له عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة".
وفي رواية له من هذا الوجه " فأذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت " ونحوه في مرسل مكحول المتقدم.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس " أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق " الحديث، زاد أبو عامر عن ابن أبي ذئب " فثبت ذلك حتى الساعة " وسيأتي نحوه قريبا من رواية يونس بلفظ " فثبت الأمر كذلك " والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال " الأذان الأول يوم الجمعة بدعة " فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك.
وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى.
(تنبيهان) الأول: ورد ما يخالف هذا الخبر أن عمر الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن الضحاك من زيادة الراوي عن برد سنان عن مكحول عن معاذ " أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين " انتهى.
وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت لأن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام واستمر إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس، وقد تواردت الروايات أن عثمان هو الذي زاده فهو المعتمد ثم وجدت لهذا الأثر ما يقويه، فقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى " أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس دعاء ولا يؤذن غير أذان واحد " انتهى.
وعطاء لم يدرك عثمان فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره، ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي كان في زمن عمر واستمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال ففعل ذلك فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان فعله عمر لكونه مجرد إعلام.
الثاني: تواردت الشراح على أن معنى قوله " الأذان الثالث " أن الأولين الأذان والإقامة لكن نقل الداودي أن الأذان أولا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام - يعني ابن عبد الملك - جعل من يؤذن بين يديه فصاروا ثلاثة، فسمى فعل عثمان ثالثا لذلك، انتهى.
وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة.
واستدل البخاري بهذا الحديث أيضا على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافا لبعض الحنفية، واختلف من أثبته هل هو للأذان أو لراحة الخطيب؟ فعلى الأول لا يسن في العيد إذ لا أذان هناك.
واستدل به أيضا على أن التأذين قبيل الخطبة، وعلى ترك تأذين اثنين معا، وعلى أن الخطبة يوم الجمعة سابقة على الصلاة، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبق الخطبة على الصلاة.
*3*
باب الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الشرح:
قوله: (باب المؤذن الواحد يوم الجمعة) أورد فيه حديث السائب بن يزيد المذكور في الباب قبله وزاد فيه " ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد " ومثله للنسائي وأبي داود من رواية صالح ابن كيسان، ولأبى داود وابن خزيمة من رواية ابن إسحاق كلاهما عن الزهري، وفي مرسل مكحول المتقدم نحوه، وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا، والمراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم.
قال الإسماعيلي لعل قوله " مؤذن " يريد به التأذين فعبر عنه بلفظ المؤذن لدلالته عليه.
انتهى.
وما أدرى ما الحامل له على هذا التأويل؟ فإن المؤذن الراتب هو بلال، وأما أبو محذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه، وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح كما تقدم في الأذان، فلعل الإسماعيلي استشعر إيراد أحد هؤلاء فقال ما قال، ويمكن أن يكون المراد بقوله " مؤذن واحد " أي في الجمعة فلا ترد الصبح مثلا، وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها.
ثم وجدته في مختصر البويطي صلى الله عليه وسلم عن الشافعي.
*3*
باب يُجِيبُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
الشرح:
قوله: (باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء) في رواية كريمة " يؤذن " بدل يجيب، فكأنه سماه أذانا لكونه بلفظه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ مُعَاوِيَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي
الشرح:
قوله: (عن أبي أمامة) في رواية الإسماعيلي من طريق حبان وعبدان عن عبد الله - وهو ابن المبارك - سمعت أبا أمامة.
قوله: (وأنا) أي أشهد، أو أنا أقول مثله.
قوله: (فلما أن قضى) أي فرغ " وأن " زائده، وسقطت في رواية الأصيلي، وللكشميهني " فلما أن انقضى " أي انتهى.
وفي هذا الحديث من الفوائد تعلم العلم وتعليمه من الإمام وهو على المنبر، وأن الخطيب يجيب المؤذن وهو على المنبر، وأن قول المجيب " وأنا كذلك " ونحوه يكفي في إجابة المؤذن، وفيه إباحة الكلام قبل الشروع في الخطبة، وأن التكبير في أول الأذان غير مرجع وفيهما نظر، وفيه الجلوس قبل الخطبة.
وبقية مباحثه تقدمت في أبواب الأذان.