*3*
باب الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
الشرح:
قوله (باب الإبراد بالظهر في السفر) أراد بهذه الترجمة أن الإبراد لا يختص بالحضر، لكن محل ذلك ما إذا كان المسافر نازلا، أما إذا كان سائرا أو على سير ففيه جمع التقديم أو التأخير كما سيأتي في بابه.
وأورد فيه حديث أبي ذر الماضي مقيدا بالسفر، مشيرا به إلى أن تلك الرواية المطلقة محمولة على هذه المقيدة.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى لِبَنِي تَيْمِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَتَفَيَّأُ تَتَمَيَّلُ
الشرح:
قوله (فأراد المؤذن) في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن شبابة، ومسدد عن أمية بن خالد، والترمذي من طريق أبي داود الطيالسي وأبي عوانة من طريق حفص بن عمر، ووهب بن جرير والطحاوي والجوزقي من طريق وهب أيضا، كلهم عن شعبة التصريح بأنه بلال.
قوله (ثم أراد أن يؤذن فقال له أبرد) زاد أبو داود في روايته عن أبي الوليد عن شعبة " مرتين أو ثلاثا " وجزم مسلم بن إبراهيم عن شعبة بذكر الثالثة، وهو عند المصنف في " باب الأذان للمسافرين " فإن قيل: الإبراد للصلاة فكيف أمر المؤذن به للأذان؟ فالجواب أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو للصلاة؟ وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوي القول بأنه للصلاة.
وأجاب الكرماني بأن عادتهم جرت بأنهم لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالإبراد بالأذان لغرض الإبراد بالعبادة، قال: ويحتمل أن المراد بالتأذن هنا الإقامة.
قلت: ويشهد له رواية الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ " فأراد بلال أن يقيم " لكن رواه أبو عوانة من طريق حفص بن عمر عن شعبة بلفظ " فأراد بلال أن يؤذن " وفيه " ثم أمره فأذن وأقام " ويجمع بينهما بأن إقامته كانت لا تتخلف عن الأذان لمحافظته صلى الله عليه وسلم على الصلاة في أول الوقت، فرواية " فأراد بلال أن يقيم " أي أن يؤذن ثم يقيم، ورواية " فأراد أن يؤذن " أي ثم يقيم.
قوله (حتى رأينا فيء التلول) هذه الغاية متعلقة بقوله " فقال له أبرد " أي كان يقول له في الزمان الذي قبل الرؤية أبرد، أو متعلقة بأبرد أي قال له أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي قال له أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء بفتح الفاء وسكون الياء بعدها همزة هو ما بعد الزوال من الظل، والتلول جمع تل بفتح المثناة وتشديد اللام: كل ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة فلا يظهر لها ظل إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر، وقد اختلف العلماء في غاية الإبراد، فقيل: حتى يصير الظل ذراعا بعد ظل الزوال، وقيل ربع قامة، وقيل ثلثها، وقيل نصفها، وقيل غير ذلك.
ونزلها المازري على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت، وأما ما وقع عند المصنف في الأذان عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ " حتى ساوى الظل التلول " فظاهره يقتضي أنه أخرها إلى أن صار ظل كل شيء مثله، ويحتمل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التل بعد أن لم يكن ظاهرا فساواه في الظهور لا في المقدار، أو يقال: قد كان ذلك في السفر فلعله أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر.
قوله (وقال ابن عباس: يتفيأ: يتميل) أي قال في تفسير قوله تعالى (يتفيأ ظلاله) معناه يتميل، كأنه أراد أن الفيء سمي بذلك لأنه ظل مائل من جهة إلى أخرى، وتتفيأ في روايتنا بالمثناة الفوقانية أي الظلال، وقرئ أيضا بالتحتانية، أي الشيء، والقراءتان شهيرتان.
وهذا التعليق في رواية المستملي وكريمة، وقد وصله ابن أبي حاتم في تفسيره.
*3*
باب وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ
وَقَالَ جَابِرٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ
الشرح:
قوله (باب) بالتنوين (وقت الظهر) أي ابتداؤه (عند الزوال) أي زوال الشمس، وهو ميلها إلى جهة المغرب.
وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم من الكوفيين أن الصلاة لا تجب بأول الوقت كما سيأتي.
ونقل ابن بطال أن الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نقل عن الكرخي عن أبي حنيفة أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، انتهى.
والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول.
ونقل بعضهم أن أول الظهر إذا صار الفيء قدر الشراك.
قوله (وقال جابر) هو طرف من حديث وصله المصنف في " باب وقت المغرب " بلفظ " كان يصلي الظهر بالهاجرة " والهاجرة اشتداد الحر في نصف النهار، قيل سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ فَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ
الشرح:
حديث أنس تقدم في العلم في " باب من برك على ركبتيه " بهذا الإسناد لكن باختصار، وسيأتي الكلام على فوائده مستوعبا إن شاء الله تعالى في كتاب الاعتصام.
قوله (زاغت) أي مالت، وقد رواه الترمذي بلفظ " زالت " والغرض منه هنا صدر الحديث وهو قوله " خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر " فإنه يقتضي أن زوال الشمس أول وقت الظهر، إذ لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع، وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوز صلاة الظهر قبل الزوال.
وعن أحمد وإسحاق مثله في الجمعة كما سيأتي في بابه.
قوله (في عرض هذا الحائط) بضم العين، أي جانبه أو وسطه.
قوله (فلم أر كالخير والشر) أي المرئي في ذلك المقام.
الحديث:
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ وَقَالَ مُعَاذٌ قَالَ شُعْبَةُ لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ
الشرح:
قوله (عن أبي المنهال) في رواية الكشميهني " حدثنا أبو المنهال " وهو سيار بن سلامة الآتي ذكره في " باب وقت العصر " من رواية عوف عنه.
قوله (يعرف جليسه) أي الذي بجنبه، ففي رواية الجوزقي من طريق وهب بن جرير عن شعبة " فينظر الرجل إلى جليسه إلى جنبه فيعرف وجهه " ولأحمد " فينصرف الرجل فيعرف وجه جليسه " وفي رواية لمسلم " فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه".
وله في أخرى " وننصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض".
قوله (والعصر) بالنصب أي ويصلي العصر.
قوله (وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة رجع والشمس حية) كذا وقع هنا في رواية أبي ذر والأصيلي.
وفي رواية غيرهما " ويرجع " بزيادة واو وبصيغة المضارعة عليها شرح الخطابي، وظاهره حصول الذهاب إلى أقصى المدينة والرجوع من ثم إلى المسجد، لكن في رواية عوف الآتية قريبا " ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية " فليس فيه إلا الذهاب فقط دون الرجوع، وطريق الجمع بينها وبين رواية الباب أن يقال: يحتمل أن الواو في قوله " وأحدنا " بمعنى " ثم " على قول من قال إنها ترد للترتيب مثل ثم، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير ثم يذهب أحدنا أي ممن صلى معه.
وأما قوله " رجع " فيحتمل أن يكون بمعنى يرجع ويكون بيانا لقوله يذهب، ويحتمل أن يكون رجع في موضع الحال أي يذهب راجعا، ويحتمل أن أداة الشرط سقطت إما لو أو إذا، والتقدير ولو يذهب أحدنا الخ، وجوز الكرماني أن يكون رجع خبرا للمبتدأ الذي هو أحدنا ويذهب جملة حالية، وهو وإن كان محتملا من جهة اللفظ لكنه يغاير رواية عوف، وقد رواه أحمد عن حجاج بن محمد عن شعبة بلفظ " والعصر يرجع الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية " ولمسلم والنسائي من طريق خالد بن الحارث عن شعبة مثله لكن بلفظ " يذهب " بدل يرجع.
وقال الكرماني أيضا بعد أن حكى احتمالا آخر وهو أي قوله رجع عطف على يذهب والواو مقدرة ورجع بمعنى يرجع.
انتهى.
وهذا الاحتمال الأخير جزم به ابن بطال، وهو موافق للرواية التي حكيناها.
ويؤيد ذلك رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ المصنف فيه بلفظ " وإن أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية " وقد قدمنا ما يرد عليها وأن رواية عوف أوضحت أن المراد بالرجوع الذهاب أي من المسجد، وإنما سمي رجوعا لأن ابتداء المجيء كان من المنزل إلى المسجد فكان الذهاب منه إلى المنزل رجوعا، وسيأتي الكلام على بقية مباحث هذا الحديث في " باب وقت العصر " قريبا.
قوله (وقال معاذ) هو ابن معاذ البصري (عن شعبة) أي بإسناده المذكور.
وهذا التعليق وصله مسلم عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به، والإسناد كله بصريون، وكذا الذي قبله.
وجزم حماد بن سلمة عن أبي المنهال عند مسلم بقوله " إلى ثلث الليل " وكذا لأحمد عن حجاج عن شعبة.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ
الشرح:
قوله (حدثنا محمد) كذا للأصيلي وغيره، ولأبي ذر " ابن مقاتل".
قوله (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك.
قوله (أخبرنا خالد بن عبد الرحمن) كدا وقع هنا مهملا، وهو السلمي واسم جده بكير، وثبت الأمران في مستخرج الإسماعيلي، وليس له عند البخاري غير هذا الحديث الواحد، وفي طبقته خالد بن عبد الرحمن الخراساني نزيل دمشق وخالد بن عبد الرحمن الكوفي العبدي ولم يخرج لهما البخاري شيئا.
قوله (بالظهائر) جمع ظهيرة وهي الهاجرة، والمراد صلاة الظهر.
قوله (سجدنا على ثيابنا) كذا في رواية أبي ذر والأكثرين.
وفي رواية كريمة " فسجدنا " بزيادة فاء وهي عاطفة على شيء مقدر.
قوله (اتقاء الحر) أي للوقاية من الحر، وقد روى هذا الحديث بشر بن المفضل عن غالب كما مضى، ولفظه مغاير للفظه، لكن المعنى متقارب، وقد تقدم الكلام عليه في " باب السجود على الثوب في شدة الحر " وفيه الجواب عن استدلال من استدل به على جواز السجود على الثوب ولو كان يتحرك بحركته، وفيه المبادرة لصلاة الظهر ولو كان في شدة الحر.
ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، بل هو لبيان الجواز وإن كان الإبراد أفضل، والله أعلم.
*3*
باب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
الشرح:
قوله (باب تأخير الظهر إلى العصر) أي إلى أول وقت العصر.
والمراد أنه عند فراغه منها دخل وقت صلاة العصر كما سيأتي عن أبي الشعثاء راوي الحديث.
وقال الزين بن المنير: أشار البخاري إلى إثبات القول باشتراك الوقتين، لكن لم يصرح بذلك على عادته في الأمور المحتملة لأن لفظ الحديث يحتمل ذلك ويحتمل غيره، قال: والترجمة مشعرة بانتفاء الفاصلة بين الوقتين، وقد نقل ابن بطال عن الشافعي وتبعه غيره فقالوا: قال الشافعي بين وقت الظهر وبين وقت العصر فاصلة لا تكون وقتا للظهر ولا للعصر ا ه.
ولا يعرف ذلك في كتب المذهب عن الشافعي، وإنما المنقول عنه أنه كان يذهب إلى أن آخر وقت الظهر ينفصل من أول وقت العصر، ومراده نفي القول بالاشتراك.
ويدل عليه أنه احتج بقول ابن عباس " وقت الظهر إلى العصر والعصر إلى المغرب " فكما أنه لا اشتراك بين العصر والمغرب فكذلك لا اشتراك بين الظهر والعصر.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَقَالَ أَيُّوبُ لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ عَسَى
الشرح:
قوله (عن جابر بن زيد) هو أبو الشعثاء، والإسناد كله بصريون.
قوله (سبعا وثمانيا) أي سبعا جميعا وثمانيا جميعا كما صرح به في " باب وقت المغرب " من طريق شعبة عن عمرو بن دينار.
قوله (فقال أيوب) هو السختياني، والمقول له هو أبو الشعثاء.
قوله (عسى) أي أن يكون كما قلت، واحتمال المطر قال به أيضا مالك عقب إخراجه لهذا الحديث عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه.
وقال بدل قوله بالمدينة " من غير خوف ولا سفر " قال مالك: لعله كان في مطر، لكن رواه مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير بلفظ " من غير خوف ولا مطر " فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر، وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقواه النووي، وفيه نظر، لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته، قال النووي: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلا فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، قال وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء ا ه.
وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه، وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء، فعلى هذا فالاحتمال قائم.
قال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري، بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها.
قال: وهو احتمال ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ا ه.
وهذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، فذكر هذا الحديث وزاد: قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه.
قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدري بالمراد من غيره.
قلت: لكن لم يجزم بذلك، بل لم يستمر عليه، فقد تقدم كلامه لأيوب وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر، لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع.
فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراح الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى والله أعلم صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.
وللنسائي من طريق عمرو ابن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء.
وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه.
وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع، وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعا أخرجه الطبراني ولفظه " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي " وإرادة نفي الحرج يقدح في حمله على الجمع الصوري، لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج.