*3*
باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ
الشرح:
قوله: (باب أصحاب الحراب في المسجد) الحراب بكسر المهملة جمع حربة، والمراد جواز دخولهم فيه ونصال حرابهم مشهورة، وأظن المصنف أشار إلى تخصيص الحديث السابق في النهي عن المرور في المسجد بالنصل غير مغمود، والفرق بينهما أن التحفظ في هذه الصورة وهي صورة اللعب بالحراب سهل، بخلاف مجرد المرور فإنه قد يقع بغتة فلا يتحفظ منه.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ زَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ
الشرح:
قوله في الإسناد (عن صالح) هو ابن كيسان.
قوله: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد) فيه جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة: أما القرآن فقوله تعالى (في بيوت أذن الله أن ترفع) وأما السنة فحديث " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم".
وتعقب بأن الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه، ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ.
وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " دعهم".
واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو.
وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه.
وفي الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح، وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله، وكرم معاشرته، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده.
وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب العيدين إن شاء الله تعالى.
قوله: (في باب حجرتي) عند الأصيلي وكريمة على باب حجرتي.
قوله: (يسترني بردائه) يدل على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأة إلى الرجل.
وأجاب بعض من منع بأن عائشة كانت إذ ذاك صغيرة، وفيه نظر لما ذكرنا.
وادعى بعضهم النسخ بحديث " أفعمياوان أنتما؟ " وهو حديث مختلف في صحته.
وسيأتي للمسألة مزيد بسط في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وزاد إبراهيم المنذر) يريد أن إبراهيم رواه من رواية يونس - وهو ابن يزيد - عن ابن شهاب كرواية صالح، لكن عين أن لعبهم كان بحرابهم وهو المطابق للترجمة، وفي ذلك إشارة إلى أن البخاري يقصد بالترجمة أصل الحديث لا خصوص السياق الذي يورده، ولم أقف على طريق يونس من رواية إبراهيم بن المنذر موصولة، نعم وصلها مسلم عن أبي طاهر بن السرح عن ابن وهب، ووصلها الإسماعيلي أيضا من طريق عثمان بن عمر عن يونس وفيه الزيادة.
*3*
باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ
الشرح:
قوله: (باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد) مطابقة هذه الترجمة لحديث الباب من قوله " ما بال أقوام يشترطون " فإن فيه إشارة إلى القصة المذكورة، وقد اشتملت على بيع وشراء وعتق وولاء.
ووهم بعض من تكلم على هذا الكتاب فقال: ليس فيه أن البيع والشراء وقعا في المسجد، ظنا منه أن الترجمة معقودة لبيان جواز ذلك، وليس كما ظن، للفرق بين جريان ذكر الشيء والإخبار عن حكمه فإن ذلك حق وخير، وبين مباشرة العقد فإن ذلك يفضي إلى اللغط المنهي عنه، قال المازري: واختلفوا في جواز ذلك في المسجد مع اتفاقهم على صحة العقد لو وقع.
ووقع لابن المنير في تراجمه وهم آخر، فإنه زعم أن حديث هذه الترجمة هو حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال، وشرع يتكلف لمطابقته لترجمة البيع والشراء في المسجد، وإنما الذي في النسخ كلها في ترجمة البيع والشراء حديث عائشة، وأما حديث أبي هريرة المذكور فسيأتي بعد أربعة أبواب بترجمة أخرى، وكأنه انتقل بصره من موضع لموضع، أو تصفح ورقة فانقلبت ثنتان.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي وَقَالَ أَهْلُهَا إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَنَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ قَالَ عَلِيٌّ قَالَ يَحْيَى وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ نَحْوَهُ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ
الشرح:
قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة (عن يحيى) هو ابن سعيد.
وللحميدي في مسنده " عن سفيان حدثنا يحيى".
قوله: (قالت أتتها) فيه التفات إن كان فاعل قالت عائشة، ويحتمل أن يكون الفاعل عمرة فلا التفات.
قوله: (تسألها في كتابتها) ضمن " تسأل " معنى تستعين، وثبت كذلك في رواية أخرى، والمراد بقولها " أهلك " مواليك، وحذف مفعول " أعطيت " الثاني لدلالة الكلام عليه، والمراد بقية ما عليها، وسيأتي تعيينه في كتاب العتق إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال سفيان مرة) أي أن سفيان حدث به على وجهين، وهو موصول غير معلق.
قوله: (ذكرته ذلك) كذا وقع هنا بتشديد الكاف، فقيل: الصواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ " ذكرت له ذلك " لأن التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية لاحتمال السبق أولا على وجه الإجمال.
قوله: (يشترطون شروطا ليس في كتاب الله) كأنه ذكر باعتبار جنس الشرط ولفظ " مائة " للمبالغة فلا مفهوم له.
قوله: (في كتاب الله) قال الخطابي: ليس المراد أن ما لم ينص عليه في كتاب الله فهو باطل، فإن لفظ " الولاء لمن أعتق " من قوله صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر بطاعته في كتاب الله فجاز إضافة ذلك إلى الكتاب.
وتعقب بأن ذلك لو جاز لجازت إضافة ما اقتضاه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، والجواب عنه أن تلك الإضافة إنما هي بطريق العموم لا بخصوص المسألة المعينة، وهذا مصير من الخطابي إلى أن المراد بكتاب الله هنا القرآن، ونظير ما جنح إليه ما قاله ابن مسعود لأم يعقوب في قصة الواشمة: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله.
ثم استدل على كونه في كتاب الله بقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه) .
ويحتمل أن يكون المراد بقوله هنا " في كتاب الله " أي في حكم الله، سواء ذكر في القرآن أم في السنة.
أو المراد بالكتاب المكتوب أي في اللوح المحفوظ.
وحديث عائشة هذا في قصة بريرة قد أخرجه البخاري في مواضع أخرى من البيوع والعتق وغيرهما، واعتنى به جماعة من الأئمة فأفردوه بالتصنيف.
وسنذكر فوائده ملخصة مجموعة في كتاب العتق إن شاء الله تعالى.
قوله: (ورواه مالك) وصله في باب المكاتب عن عبد الله بن يوسف عنه، وصورة سياقه الإرسال، وسيأتي الكلام عليه هناك.
قوله: (قال علي) يعني ابن عبد الله المذكور أول الباب، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي.
والحاصل أن علي بن عبد الله حدث البخاري عن أربعة أنفس حدثه كل منهم به عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وإنما أفرد رواية سفيان لمطابقتها الترجمة بذكر المنير فيها، ويؤيد ذلك أن التعليق عن مالك متأخر في رواية كريمة عن طريق جعفر بن عون.
قوله: (عن عمرة نحوه) يعني نحو رواية مالك، وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار عن يحيى القطان وعبد الوهاب كلاهما عن يحيى بن سعيد قال " أخبرتني عمرة أن بريرة " فذكره، وليس فيه ذكر المنبر أيضا، وصورته أيضا الإرسال، لكن قال في آخره " فزعمت عائشة أنها ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث، فظهر بذلك اتصاله.
وأفادت رواية جعفر بن عون التصريح بسماع يحيى من عمرة وبسماع عمرة من عائشة فأمن بذلك ما يخشى فيه من الإرسال المذكور وغيره.
وقد وصله النسائي والإسماعيلي أيضا من رواية جعفر بن عون وفيه عن عائشة قالت " أتتني بريرة " فذكر الحديث وليس فيه ذكر المنبر أيضا.