*3*
باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي الثِّيَابِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ لَأَجَزْتُهُ
الشرح:
قوله: (باب) بالتنوين (في كم) بحذف المميز أي كم ثوبا (تصلي المرأة) من الثياب، قال ابن المنذر بعد أن حكى عن الجمهور أن الواجب على المرأة أن تصلي في درع وخمار: المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها، فلو كان الثوب واسعا فغطت رأسها بفضله جاز.
قال: وما رويناه عن عطاء أنه قال " تصلي في درع وخمار وإزار " وعن ابن سيرين مثله وزاد " وملحفة " فإني أظنه محمولا على الاستحباب.
قوله: (وقال عكرمة) يعني مولى ابن عباس.
قوله (جاز) وفي رواية الكشميهني " لأجزته " بفتح الجيم وسكون الزاي، وأثره هذا وصله عبد الرزاق ولفظه " لو أخذت المرأة ثوبا فتقنعت به حتى لا يرى من شعرها شيء أجزأ عنها".
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ
الشرح:
قوله: (أن عائشة قالت: لقد) اللام في لقد جواب قسم محذوف.
قوله: (متلفعات) قال الأصمعي: التلفع أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك، وفي شرح الموطأ لابن حبيب: التلفع لا يكون إلا بتغطية الرأس، والتلفف يكون بتغطية الرأس وكشفه، و (المروط) جمع مرط بكسر أوله، كساء من خز أو صوف أو غيره.
وعن النضر بن شميل ما يقتضى أنه خاص بلبس النساء.
وقد اعترض على استدلال المصنف به على جواز صلاة المرأة في الثوب الواحد بأن الالتفاع المذكور يحتمل أن يكون فوق ثياب أخرى.
والجواب عنه أنه تمسك بأن الأصل عدم الزيادة على ما ذكر، على أنه لم يصرح بشيء إلا أن اختياره يؤخذ في العادة من الآثار التي يودعها في الترجمة.
قوله: (ما يعرفهن أحد) زاد في المواقيت " من الغلس " وهو يعين أحد الاحتمالين: هل عدم المعرفة بهن لبقاء الظلمة أو لمبالغتهن في التغطية؟ وسيأتي الكلام على بقية مباحثه في المواقيت إن شاء الله تعالى.
*3*
باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا
الشرح:
قوله: (باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها) قال الكرماني: في رواية " ونظر إلى علمه " والتأنيث في علمها باعتبار الخميصة.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي
الشرح:
قوله: (خميصة) بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة، كساء مربع له علمان، والأنبجانية بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء النسبة: كساء غليظ لا علم له.
وقال ثعلب: يجوز فتح همزته وكسرها، وكذا الموحدة، يقال كبش أنبجاني إذا كان ملتفا، كثير الصوف.
وكساء أنبجاني كذلك، وأنكر أبو موسى المديني على من زعم أنه منسوب إلى منبج البلد المعروف بالشام.
قال صاحب الصحاح: إذا نسبت إلى منبج فتحت الباء فقلت: كساء منبجاني أخرجوه مخرج منظراني.
وفي الجمهرة: منبج موضع أعجمي تكلمت به العرب ونسبوا إليه الثياب المنبجانية.
وقال أبو حاتم السجستاني: لا يقال كساء أنبجاني وإنما يقال منبجاني، قال: وهذا مما تخطئ فيه العامة.
وتعقبه أبو موسى كما تقدم فقال: الصواب أن هذه النسبة إلى موضع يقال له أنبجان، والله أعلم.
قوله: (إلى أبي جهم) هو عبيد الله - ويقال عامر - بن حذيفة القرشي العدوي صحابي مشهور، وإنما خصه صلى الله عليه وسلم بإرسال الخميصة لأنه كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم كما رواه مالك في الموطأ من طريق أخرى عن عائشة قالت " أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها علم فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: ردى هذه الخميصة إلى أبي جهم " ووقع عند الزبير بن بكار ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بخميصتين سوداوين فلبس إحداهما وبعث الأخرى إلى أبي جهم " ولأبي داود من طريق أخرى " وأخذ كرديا لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة كانت خيرا من الكردي".
قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به، قال: وفيه أن الواهب إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله أن يقبلها من غير كراهة.
قلت: وهذا مبني على أنها واحدة، ورواية الزبير والتي بعدها تصرح بالتعدد.
قوله: (ألهتني) أي شغلتني، يقال لهي بالكسر إذا غفل، ولها بالفتح إذا لعب.
قوله: (آنفا) أي قريبا، وهو مأخوذ من ائتناف الشيء أي ابتدائه.
قوله: (عن صلاتي) أي عن كمال الحضور فيها، كذا قيل، والطريق الآتية المعلقة تدل على أنه لم يقع له شيء من ذلك وإنما خشي أن يقع لقوله " فأخاف".
وكذا في رواية مالك " فكاد " فلتؤول الرواية الأولى.
قال ابن دقيق العيد: فيه مبادرة الرسول إلى مصالح الصلاة، ونفى ما لعله يخدش فيها.
وأما بعثه بالخميصة إلى أبي جهم فلا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة.
ومثله قوله في حلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها " ويحتمل أن يكون ذلك من جنس قوله " كل فإني أناجي من لا تناجي " ويستنبط منه كراهية كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش ونحوها.
وفيه قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم والطلب منهم.
واستدل به الباجي على صحة المعاطاة لعدم ذكر الصيغة.
وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية، يعني فضلا عمن دونها.
قوله: (وقال هشام بن عروة) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود من طريقه، ولم أر في شيء من طرقهم هذا اللفظ.
نعم اللفظ الذي ذكرناه عن الموطأ قريب من هذا اللفظ المعلق، ولفظه: " فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني " والجمع بين الروايتين بحمل قوله " ألهتني " على قوله " كادت " فيكون إطلاق الأولى للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء.
(تنبيه) : قوله " فأخاف أن تفتنني " في روايتنا بكسر المثناة وتشديد النون.
وفي رواية الباقين بإظهار النون الأولى وهو بفتح أوله من الثلاثي.
*3*
باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ
الشرح:
قوله: (باب إن صلى في ثوب مصلب) بفتح اللام المشددة، أي فيه صلبان منسوجة أو منقوشة أو تصاوير، أي في ثوب ذي تصاوير، كأنه حذف المضاف لدلالة المعنى عليه.
وقال الكرماني: هو عطف على ثوب لا على مصلب، والتقدير أو صلى في تصاوير.
ووقع عند الإسماعيلي " أو بتصاوير " وهو يرجح الاحتمال الأول، وعند أبي نعيم " في ثوب مصلب أو مصور".
قوله: (هل تفسد صلاته) جرى المصنف على قاعدته في ترك الجزم فيما فيه اختلاف، وهذا من المختلف فيه.
وهذا مبني على أن النهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ والجمهور إن كان لمعنى في نفسه اقتضاه، وإلا فلا.
قوله: (وما ينهى من ذلك) أي وما ينهى عنه من ذلك.
وفي رواية غير أبي ذر " وما ينهى عن ذلك " وظاهر حديث الباب لا يوفى بجميع ما تضمنته الترجمة إلا بعد التأمل، لأن الستر وإن كان ذا تصاوير لكنه لم يلبسه ولم يكن مصلبا ولا نهي عن الصلاة فيه صريحا.
والجواب أما أو لا فإن منع لبسه بطريق الأولى، وأما ثانيا فبإلحاق المصلب بالمصور لاشتراكهما في أن كلا منهما قد عبد من دون الله تعالى.
وأما ثالثا فالأمر بالإزالة مستلزم للنهي عن الاستعمال.
ثم ظهر لي أن المصنف أراد بقوله مصلب الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق هذا الحديث كعادته، وذلك فيما أخرجه في اللباس من طريق عمران عن عائشة قالت " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئا فيه تصليب إلا نقضه".
وللإسماعيلي " سترا أو ثوبا".
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي
الشرح:
قوله: (عبد الوارث) هو ابن سعيد، والإسناد كله بصريون.
قوله: (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء: ستر رقيق من صوف ذو ألوان.
قوله: (أميطي) أي أزيلي وزنا ومعنى.
قوله: (لا تزال تصاوير) كذا في روايتنا، وللباقين بإثبات الضمير، والهاء في روايتنا في " فإنه " ضمير الشأن، وعلى الأخرى يحتمل أن تعود على الثوب.
قوله: (تعرض) بفتح أوله وكسر الراء أي تلوح، وللإسماعيلي " تعرض " بفتح العين وتشديد الراء، أصله تتعرض.
ودل الحديث على أن الصلاة لا تفسد بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقطعها ولم يعدها، وسيأتي في كتاب اللباس بقية الكلام على طرق حديث عائشة في هذا، والتوفيق بين ما ظاهره الاختلاف منها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.