*3*
باب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ
الشرح:
قوله: (باب ترك الحائض الصوم) قال ابن رشيد وغيره: جرى البخاري على عادته في إيضاح المشكل دون الجلي، وذلك أن تركها الصلاة واضح من أجل أن الطهارة مشترطة في صحة الصلاة وهي غير طاهر، وأما الصوم فلا يشترط له الطهارة فكان تركها له تعبدا محضا فاحتاج إلى التنصيص عليه بخلاف الصلاة.
الحديث:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا
الشرح:
قوله: (حدثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المصري الجمحي، لقيه البخاري وروى مسلم وأصحاب السنن عنه بواسطة، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير أخو إسماعيل، والإسناد منه فصاعدا مدنيون، وفيه تابعي عن تابعي، زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله وهو ابن أبي سرح العامري، لأبيه صحبة.
قوله: (في أضحى أو فطر) شك من الراوي.
قوله (إلى المصلى فمر على النساء) اختصره المؤلف هنا، وقد ساقه في كتاب الزكاة تاما ولفظه: " إلى المصلى فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: أيها الناس تصدقوا، فمر على النساء"، وقد تقدم في كتاب العلم من وجه آخر أبي سعيد أنه كان وعد النساء بأن يفردهن بالموعظة فأنجزه ذلك اليوم، وفيه أنه وعظهن وبشرهن.
قوله: (يا معشر النساء) المعشر كل جماعة أمرهم واحد، ونقل عن ثعلب أنه مخصوص بالرجال، وهذا الحديث يرد عليه، إلا إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث.
قوله: (أريتكن) بضم الهمزة وكسر الراء على البناء للمفعول، والمراد أن الله تعالى أراهن له ليلة الإسراء، وقد تقدم في العلم من حديث ابن عباس، بلفظ " أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء " ويستفاد من حديث ابن عباس أن الرؤية المذكورة وقعت في حال صلاة الكسوف كما سيأتي واضحا في باب صلاة الكسوف جماعة.
قوله: (وبم؟) الواو استئنافية والباء تعليلية والميم أصلها ما الاستفهامية فحذفت منها الألف تخفيفا.
قوله: (وتكفرن العشير) أي تجحدن حق الخليط - وهو الزوج - أو أعم من ذلك.
قوله: (من ناقصات) صفة موصوف محذوف قال الطيبي في قوله " ما رأيت من ناقصات الخ " زيادة على الجواب تسمى الاستتباع، كذا قال وفيه نظر، ويظهر لي أن ذلك من جملة أسباب كونهن أكثر أهل النار، لأنهن إذا كن سببا لإذهاب عقل الرجل الحازم حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي فقد شاركنه في الإثم وزدن عليه: قوله: (أذهب) أي أشد إذهابا، واللب أخص من العقل وهو الخالص منه، (الحازم الضابط لأمره، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى، واستعمال أفعل التفضيل من الإذهاب جائز عند سيبويه حيث جوزه من الثلاثي والمزيد.
قوله: (قلن: وما نقصان ديننا) ؟ كأنه خفي عليهن ذلك حتى سألن عنه، ونفس السؤال دال على النقصان لأنهن سلمن ما نسب إليهن من الأمور الثلاثة - الإكثار والكفران والإذهاب - ثم استشكلن كونهن ناقصات.
وما ألطف ما أجابهن به صلى الله عليه وسلم من غير تعنيف ولا لوم، بل خاطبهن على قدر عقولهن، وأشار بقوله " مثل نصف شهادة الرجل " إلى قوله تعالى (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) لأن الاستظهار بأخرى مؤذن بقلة ضبطها وهو مشعر بنقص عقلها، وحكى ابن التين عن بعضهم أنه حمل العقل هنا على الدية وفيه بعد قلت: بل سياق الكلام يأباه.
قوله: (فذلك) بكسر الكاف خطابا التي تولت الخطاب، ويجوز فتحها على أنه للخطاب العام.
قوله: (لم تصل ولم تصم) فيه إشعار بأن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتا بحكم الشرع قبل ذلك المجلس.
وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية الخروج إلى المصلى في العيد، وأمر الإمام الناس بالصدقة فيه، واستنبط منه بعض الصوفية جواز الطلب من الأغنياء للفقراء وله شروط، وفيه حضور النساء العيد، لكن بحيث ينفردن عن الرجال خوف الفتنة، وفيه جواز عظة الإمام النساء على حدة وقد تقدم في العلم، وفيه أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم، استدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليها بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج عن الملة تغليظا على فاعلها لقوله في بعض طرقه " بكفرهن " كم تقدم في الإيمان، وهو كإطلاق نفي الإيمان، وفيه الإغلاظ في النصح بما يكون سببا لإزالة الصفة التي تعاب، وأن لا يواجه بذلك الشخص المعين لأن التعميم تسهيلا على السامع، وفيه أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها قد تكفر الذنوب التي بين المخلوقين، وأن العقل يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك الإيمان كما تقدم، وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرا من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس، نقص، الدين منحصرا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك قاله النووي، لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهري أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليست كذلك.
وعندي - في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب - وقفة، وفي الحديث أيضا مراجعة المتعلم لمعلمه والتابع لمتبوعه فيما لا يظهر له معناه، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم والصفح الجميل والرفق والرأفة، زاده الله تشريفا وتكريما وتعظيما.
*3*
باب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الْآيَةَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ الْآيَةَ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ حَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا تُصَلِّي وَقَالَ الْحَكَمُ إِنِّي لَأَذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
الشرح:
قوله: (باب تقضي الحائض) أي تؤدي (المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) قيل مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار أن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافها، إلا الطواف فقط.
وفي كون هذا مراده نظر، لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه، والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال وغيره: إن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبيه ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إن كان لكونه ذكرا لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث " كان يذكر الله على كل أحيانه " لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم وهو النخعي بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ " أربعة لا يقرءون القرآن: الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام، إلا الآية ونحوها للجنب والحائض"، وروي عن مالك نحو قول إبراهيم وروي عنه الجواز مطلقا وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل إنه قول الشافعي في القديم، ثم أورد أثر ابن عباس، وقد وصله ابن المنذر بلفظ " إن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب " وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين.
وقوله فيه " ويدعون " كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني " يدعين " بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم وهم كفار والكافر جنب، كأنه يقول: إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملا على آيتين فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رشيد.
وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط، وقد أجيب ممن منع ذلك - وهم الجمهور - بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ.
وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين، قال الثوري: لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب، وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه إن رجى منه الهداية جاز وإلا فلا.
وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن، لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر.
وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) : ذكر صاحب المشارق أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا (ويا أهل الكتاب) بزيادة واو قال: وسقطت لأبي ذر والأصيلي وهو الصواب.
قلت فافهم أن الأولى خطأ لكونها مخالفة للتلاوة، وليست خطأ، وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي.
قوله: (وقال عطاء عن جابر) هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب الأحكام وفي آخره " غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي، وأما أثر الحكم - وهو الفقيه الكوفي - فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه، ووجه الدلالة منه أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه.
واستدل الجمهور على المنع بحديث علي " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء، ليس الجنابة " رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة، لكن قيل: في الاستدلال به نظر، لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة، وأما حديث ابن عمر مرفوعا " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " فضعيف من جميع طرقه، وقد تقدم الكلام على حديث عائشة في أول كتاب الحيض، وقولها " طمثت " بفتح الميم وإسكان المثلثة أي حضت، ويجوز كسر الميم يقال طمثت المرأة بالفتح والكسر في الماضي تطمث بالضم في المستقبل.