*3*
باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
الشرح:
قوله: (باب غسل ما يصيب) أي الرجل (من فرج المرأة) أي من رطوبة وغيرها.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح:
قوله: (عن الحسين) زاد أبو ذر " المعلم".
قوله: (قال يحيى) هو ابن أبي كثير، أي قال الحسين قال يحيى، ولفظ قال الأولى تحذف في الخط عرفا.
قوله: (وأخبرني) هو عطف على مقدر، أي أخبرني بكذا وأخبرني بكذا.
ووقع في رواية مسلم بحذف الواو، قال ابن العربي: لم يسمعه الحسين من يحيى فلهذا قال " قال يحيى " كذا ذكره، ولم يأت بدليل.
وقد وقع في رواية مسلم في هذا الموضع عن الحسين عن يحيى، وليس الحسين بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع إذا لقيه على الصحيح.
على أنه وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين عن يحيى بالتحديث ولفظه " حدثني يحيى بن أبي كثير " ولم ينفرد الحسين مع ذلك به، فقد رواه عن يحيى أيضا معاوية بن سلام أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن أخرجه المصنف كما تقدم في باب الوضوء من المخرجين، وسبق الكلام هناك على فوائد هذا الإسناد وألفاظ المتن.
قوله: (فأمروه بذلك) فيه التفات، لأن الأصل أن يقول فأمروني، أو هو مقول عطاء بن يسار فيكون مرسلا.
وقال الكرماني: الضمير يعود على الجامع الذي في ضمن " إذا جامع " وجزم أيضا بأنه عن عثمان إفتاء ورواية مرفوعة وعن الباقين إفتاء فقط.
قلت: وظاهره أنهم أمروه بما أمره به عثمان فليس صريحا في عدم الرفع، لكن في رواية الإسماعيلي: فقالوا مثل ذلك، وهذا ظاهره الرفع لأن عثمان أفتاه بذلك وحدثه به عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمثلية تقتضي أنهم أيضا أفتوه وحدثوه، وقد صرح الإسماعيلي بالرفع في رواية أخرى له ولفظه " فقالوا مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " وقال الإسماعيلي: لم يقل ذلك غير يحيى الحماني، وليس هو من شرط هذا الكتاب.
قوله: (أخبرني أبو سلمة) كذا لأبي ذر، وللباقين " قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة " وهو المراد، وهو معطوف بالإسناد الأول وليس معلقا، وقد رواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه بالإسنادين معا.
قوله: (أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الدارقطني: هو وهم لأن أبا أيوب إنما سمعه من أبي بن كعب كما قال هشام بن عروة عن أبيه.
قلت: الظاهر أن أبا أيوب سمعه منهما لاختلاف السياق، لأن في روايته عن أبي بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن أبا سلمة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرا وسنا وعلما من هشام بن عروة، وروايته عن عروة من باب رواية الأقران لأنهما تابعيان فقهان من طبقة واحدة، وكذلك رواية أبي أيوب عن أبي بن كعب لأنهما فقيهان صحابيان كبيران، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الدارمي وابن ماجه، وقد حكى الأثرم عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول، لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني أنه شاذ.
والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة عن عطاء أخرجه ابن أبي شيبة وغيره فليس هو فردا، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية.
وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل الجامع منسوخ بما دل عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب قبله، والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد، صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري، كذا قال، وكأنه لم يطلع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل.
نعم أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق أبي حازم عن سهل، ولهذا الإسناد أيضا علة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم، وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به، وهو صريح في النسخ.
على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح من حديث الماء من الماء، لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء بالمفهوم، أو بالمنطوق أيضا لكن ذاك أصرح منه.
وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث " الماء من الماء " على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض.
(تنبيه) : في قوله " الماء من الماء " جناس تام، والمراد بالماء الأول ماء الغسل وبالثاني المني وذكر الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن معه إنزال، فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل، قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الحد هو الجماع ولو لم يكن معه إنزال.
وقال ابن العربي: إيجاب الغسل بالإيلاج بالنسبة إلى الإنزال نظير إيجاب الوضوء بمس الذكر بالنسبة إلى خروج البول فهما متفقان دليلا وتعليلا.
والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ قَالَ أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ قَالَ يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْغَسْلُ أَحْوَطُ وَذَاكَ الْآخِرُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا لِاخْتِلَافِهِمْ
الشرح:
قوله: (عن هشام بن عروة قال أخبرني أبي) عني أباه عروة وهو واضح، وإنما نبهت عليه لئلا يظن أنه نظير أبي بن كعب لكونه ذكر في الإسناد.
قوله: (ما مس المرأة منه) أي يغسل الرجل العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لأن المراد رطوبة فرجها قوله: (ثم يتوضأ) ريح في تأخير الوضوء عن غسل الذكر، زاد عبد الرزاق عن الثوري عن هشام فيه " وضوءه للصلاة".
قوله: (ويصلي) هو أصرح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث الذي قبله.
قوله: (قال أبو عبد الله) و المصنف، وقائل ذلك هو الراوي عنه.
قوله: (الغسل أحوط) أي على تقدير أن لا يثبت الناسخ ولا يظهر الترجيح، فالاحتياط للدين الاغتسال.
قوله: (الأخير) كذا لأبي ذر، ولغيره " الآخر " بالمد بغير ياء، أي آخر الأمرين من الشارع أو من اجتهاد الأئمة.
وقال ابن التين: ضبطناه بفتح الخاء، فعلى هذا الإشارة في قوله " وذاك " إلى حديث الباب قوله: (إنما بينا لاختلافهم) وفي رواية كريمة " إنما بينا اختلافهم " وللأصيلي " إنما بيناه لاختلافهم " وفي نسخة الصغاني " إنما بينا الحديث الآخر لاختلافهم، والماء أنقى " واللام تعليلية أي حتى لا يظن أن في ذلك إجماعا.
واستشكل ابن العربي كلام البخاري فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين.
ثم أخذ يتكلم في تضعيف حديث الباب بما لا يقبل منه، وقد أشرنا إلى بعضه ثم قال: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله " الغسل أحوط " أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، قال: وهو أشبه بإمامة الرجل وعلمه.
قلت: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة كما استدل به على إيجاب الوضوء فيما تقدم، وأما نفي ابن العربي الخلاف فمعترض، فإنه مشهور بين الصحابة، ثبت عن جماعة منهم، لكن ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضا فقد قال الخطابي: أنه قال به من الصحابة جماعة فسمي بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش وتبعه عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترض أيضا فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عطاء أنه قال لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى اغتسل من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى.
وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث " الماء من الماء " ثابت لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل ا ه.
فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب، والله أعلم.