*3*
باب عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
الشرح:
قوله: (باب عظة الإمام النساء) نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه.
واستفيد الوعظ بالتصريح من قوله في الحديث: " فوعظهن " وكانت الموعظة بقوله: " إني رأيتكن أكثر أهل النار " لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير".
واستفيد التعليم من قوله: " وأمرهن بالصدقة " كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن.
الحديث:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح:
قوله: (عن أيوب) هو السختياني، وعطاء هو ابن أبي رباح.
قوله: (أو قاله عطاء أشهد) معناه أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من قول ابن عباس أو من قول عطاء؛ وقد رواه أيضا حماد بن زيد عن أيوب أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر عن شعبة جازما بلفظ " أشهد " عن كل منهما، وإنما عبر بلفظ الشهادة تأكيدا لتحققه ووثوقا بوقوعه.
قوله: (ومعه بلال) كذا للكشميهني وسقطت الواو للباقين.
قوله: (القرط) هو بضم القاف وإسكان الراء بعدها طاء مهملة، أي الحلقة التي تكون في شحمة الأذن، وسيأتي مزيد في هذا المتن في العيدين إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال إسماعيل) هو المعروف بابن علية، وأراد بهذا التعليق أنه جزم عن أيوب بأن لفظ " أشهد " من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم به أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، وكذا قال وهيب عن أيوب ذكره الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يكون قوله وقال إسماعيل عطفا على حدثنا شعبة، فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل فلا يكون تعليقا انتهى.
وهو مردود بأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلا لا لهذا الحديث ولا لغيره، وقد أخرجه المصنف في كتاب الزكاة موصولا عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل كما سيأتي، وقد قلنا غير مرة: إن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النقلية.
ولو استرسل فيها مسترسل لقال: يحتمل أن يكون إسماعيل هنا آخر غير ابن علية، وأن أيوب آخر غير السختياني، وهكذا في أكثر الرواة، فيخرج بذلك إلى ما ليس بمرضي.
وفي هذا الحديث جواز المعاطاة في الصدقة، وصدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، وأن الصدقة تمحو كثيرا من الذنوب التي تدخل النار.
*3*
باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ
الشرح:
قوله: (باب الحرص على الحديث) لمراد بالحديث في عرف الشرع ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه أريد به مقابلة القرآن لأنه قديم.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد العزيز) هو أبو القاسم الأويسي، وسليمان هو ابن بلال، وعمرو بن أبي عمرو هو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، واسم أبي عمرو ميسرة.
والإسناد كله مدنيون.
قوله: (أنه قال: قيل يا رسول الله) كذا لأبي ذر وكريمة.
وسقطت " قيل " للباقين وهو الصواب، ولعلها كانت قلت فتصحفت، فقد أخرجه المصنف في الرقاق كذلك، وللإسماعيلي أنه سأل، ولأبي نعيم أن أبا هريرة قال يا رسول الله.
قوله: (أول منك) قع في روايتنا برفع اللام ونصبها، فالرفع على الصفة لأحد أو البدل منه والنصب على أنه مفعول ثان لظننت قاله القاضي عياض.
وقال أبو البقاء: على الحال، ولا يضر كونه نكرة لأنها في سياق النفي كقولهم ما كان أحد مثلك.
و " ما " في قوله لما موصولة و " من " بيانية أو تبعيضية، وفيه فضل أبي هريرة وفضل الحرص على تحصيل العلم.
قوله: (من قال لا إله إلا الله) احتراز من المشرك، والمراد مع قوله محمد رسول الله، لكن قد يكتفى بالجزء الأول من كلمتي الشهادة لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان.
قوله: (خالصا) احتراز من المنافق، ومعنى أفعل في قوله " أسعد " الفعل لا أنها أفعل التفضيل أي سعيد الناس، كقوله تعالى: (وأحسن مقيلا) ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى الله عليه وسلم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف، ويشفع في بعض الكفار، بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها.
فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص.
والله أعلم.
قوله: (من قلبه، أو نفسه) شك من الراوي، وللمصنف في الرقاق " خالصا من قبل نفسه " وذكر ذلك على سبيل التأكيد كما في قوله تعالى: (فإنه آثم قلبه) وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة لتعبيره بالقول في قوله: " من قال".
*3*
باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ
الشرح:
قوله: (باب كيف يقبض العلم) أي كيفية قبض العلم.
قوله: (إلى أبي بكر بن حزم) هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه.
ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر وقيل اسمه كنيته.
قوله: (انظر ما كان) أي اجمع الذي تجد.
ووقع هنا للكشميهني عندك أي في بلدك.
قوله: (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي.
وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطا له وإبقاء.
وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه.
قوله: (ولا يقبل) هو بضم الياء التحتانية وسكون اللام وبسكونها وكسرها معا في وليفشوا وليجلسوا.
قوله: (حتى يعلم) هو بضم أوله وتشديد اللام، وللكشميهني يعلم بفتح أوله وتخفيف اللام.
قوله: (يهلك) بفتح أوله وكسر اللام.
قوله: (حدثنا العلاء) لم يقع وصل هذا التعليق عند الكشميهني ولا كريمة ولا ابن عساكر إلى قوله ذهاب العلماء، وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل في هذه الرواية، والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم في المستخرج ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف أورده تلو كلام عمر، ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا قَالَ الْفِرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ
الشرح:
قوله: (حدثني مالك) قال الدارقطني: لم يروه في الموطأ إلا معن بن عيسى، ورواه أصحاب مالك كابن وهب وغيره عن مالك خارج الموطأ، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضا في الموطأ والله أعلم.
وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسا عنه من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر وغيرها، ووافقه على روايته عن أبيه عروة أبو الأسود المدني وحديثه في الصحيحين، والزهري وحديثه في النسائي، ويحيي بن أبي كثير وحديثه في صحيح أبي عوانة، ووافق أباه على روايته عن عبد الله بن عمرو بن الحكم بن ثوبان وحديثه في مسلم.
قوله: (لا يقبض العلم انتزاعا) أي محوا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامه قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع " فقال أعرابي: كيف يرفع؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته.
ثلاث مرات.
قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه.
قوله: (حتى إذا لم يبق عالم) هو بفتح الياء والقاف، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف، وعالما منصوب أي لم يبق الله عالما.
وفي رواية مسلم: " حتى إذا لم يترك عالما"، قوله: (رءوسا) قال النووي: ضبطناه بضم الهمزة والتنوين جمع رأس.
قلت: وفي رواية أبي ذر أيضا بفتح الهمزة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة جمع رئيس.
قوله: (بغير علم) وفي رواية أبي الأسود في الاعتصام عند المصنف: " فيفتون برأيهم " ورواها مسلم كالأولى.
قوله: (قال الفربري) هذا من زيادات الراوي عن البخاري في بعض الأسانيد، وهي قليلة.
قوله: (نحوه) أي بمعنى حديث مالك.
ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه، وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم.
واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء.
وسيكون لنا في المسألة عود في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.