*3*
باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
الشرح:
قوله: (باب فضل من علم وعلم) الأولى بكسر اللام الخفيفة أي صار عالما، والثانية بفتحها وتشديدها.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ
الشرح:
قوله: (حدثنا محمد بن العلاء) هو أبو كريب مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكذا شيخه أبو أسامة، وبريد بضم الموحدة وأبو بردة حده وهو ابن أبي موسى الأشعري.
وقال في السياق عن أبي موسى ولم يقل عن أبيه تفننا، والإسناد كله كوفيون.
قوله: (مثل) بفتح المثلثة والمراد به الصفة العجيبة لا القول السائر.
قوله: (الهدى) أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية.
قوله: (نقية) كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر ثغبة بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطابي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور.
قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى.
لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء.
قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق إلا " نقية " بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: " طائفة طيبة".
قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي.
وروي: " بقعة " قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين.
ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) .
قوله: (قبلت) بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول، كذا في معظم الروايات.
ووقع عند الأصيلي: " قيلت " بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف كما سنذكره بعد.
قوله: (الكلأ) بالهمزة بلا مد.
قوله: (والعشب) هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا، والعشب للرطب فقط.
قوله: (إخاذات) كذا في رواية أبي ذر بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء.
وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: " أجادب " بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء.
وضبطه المازري بالذال المعجمة.
ووهمه القاضي.
ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: " أحارب " بحاء وراء مهملتين، قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء.
قال: وقال بعضهم: " أجارد " بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطابي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية.
وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي.
قوله: (فنفع الله بها) أي بالإخاذات.
وللأصيلي به أي بالماء.
قوله: (وزرعوا) كذا له بزيادة زاي من الزرع، ووافقه أبو يعلى ويعقوب بن الأخرم وغيرهما عن أبي كريب، ولمسلم والنسائي وغيرهما عن أبي كريب: " ورعوا " بغير زاي من الرعي، قال النووي.
كلاهما صحيح.
ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية زرعوا تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات.
وقيل إنه روي " ووعوا " بواوين، ولا أصل لذلك.
وقال القاضي قوله: " ورعوا " راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات انتهى.
ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت.
قوله: (فأصاب) أي الماء.
وللأصيلي وكريمة أصابت أي طائفة أخرى.
ووقع كذلك صريحا عند النسائي.
والمراد بالطائفة القطعة.
قوله: (قيعان) بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.
قوله: (فقه) بضم القاف أي صار فقيها.
وقال ابن التين: رويناه بكسرها والضم أشبه.
قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت.
ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم.
فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: " نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها".
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها.
والله أعلم.
ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يرفع بذلك رأسا " أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع.
والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض السماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولم يقبل هدى الله الذي جئت به".
وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره.
قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما.
وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: " من لم يرفع بذلك رأسا " والله أعلم.
قوله: (قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت) أي بتشديد الياء التحتانية.
أي إن إسحاق وهو ابن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف.
قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق.
وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة.
وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة.
وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزا.
وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت.
قال: والأظهر أنه تصحيف.
قوله: (قاع يعلوه الماء.
والصفصف المستوي من الأرض) هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جريا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد.
ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف وهو تصحيف.
(تنبيه) : وقع في رواية كريمة: وقال ابن إسحاق: وكان شيخنا العراقي يرجحها ولم أسمع ذلك منه، وقد وقع في نسخة الصغاني: وقال إسحاق عن أبي أسامة.
وهذا يرجح الأول.
*3*
باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ
وَقَالَ رَبِيعَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ
الشرح:
قوله: (باب رفع العلم) مقصود الباب الحث على تعلم العلم، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء كما سيأتي صريحا.
وما دام من يتعلم العلم موجودا لا يحصل الرفع.
وقد تبين في حديث الباب أن رفعه من علامات الساعة.
قوله: (وقال ربيعة) هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي - بإسكان الهمزة - قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد.
ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم.
أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم.
أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.
وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا.
وهذا معنى حسن، لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم.
وقد وصل أثر ربيعة المذكور الخطيب في الجامع والبيهقي في المدخل من طريق عبد العزيز الأويسي عن مالك عن ربيعة.
الحديث:
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا
الشرح:
قوله: (حدثنا عمران بن ميسرة) في بعضها عمران غير مذكور الأب، وقد عرف من الرواية الأخرى أنه ابن ميسرة.
وقد خرجه النسائي عن عمران بن موسى القزاز، وليس هو شيخ البخاري فيه.
قوله: (عبد الوارث) هو ابن سعيد (عن أبي التياح) بمثناة مفتوحة فوقانية بعدها تحتانية ثقيلة وآخره حاء مهملة كما تقدم.
قوله: (عن أنس) زاد الأصيلي وأبو ذر: " ابن مالك " وللنسائي: " حدثنا أنس".
ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون، وكذا الذي بعده.
قوله: (أشراط الساعة) أي علاماتها كما تقدم في الإيمان، وتقدم أن منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة.
قوله: (أن يرفع العلم) هو في محل نصب لأنه اسم أن، وسقطت " أن " من رواية النسائي حيث أخرجه عن عمران شيخ البخاري فيه، فعلى روايته يكون مرفوع المحل.
والمراد برفعه موت حملته كما تقدم.
قوله: (ويثبت) هو بفتح أوله وسكون المثلثة وضم الموحدة وفتح المثناة.
وفي رواية مسلم: " ويبث " بضم أوله وفتح الموحدة بعدها مثلثة أي ينتشر.
وغفل الكرماني فعزاها للبخاري، وإنما حكاها النووي في الشرح لمسلم.
قال الكرماني: وفي رواية " وينبت " بالنون بدل المثلثة من النبات، وحكى ابن رجب عن بعضهم: " وينث " بنون ومثلثة من النث وهو الإشاعة.
قلت: وليست هذه في شيء من الصحيحين.
قوله: (ويشرب الخمر) هو بضم المثناة أوله وفتح الموحدة على العطف، والمراد كثرة ذلك واشتهاره.
وعند المصنف في النكاح من طريق هشام عن قتادة: " ويكثر شرب الخمر " فالعلامة مجموع ما ذكر.
قوله: (ويظهر الزنا) أي يفشو كما في رواية مسلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ
الشرح:
قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان.
قوله: (عن أنس) زاد الأصيلي: " ابن مالك".
قوله: (لأحدثنكم) فتح اللام وهو جواب قسم محذوف أي والله لأحدثنكم، وصرح به أبو عوانة من طريق هشام عن قتادة، ولمسلم من رواية غندر عن شعبة ألا أحدثكم فيحتمل أن يكون قال لهم أولا: ألا أحدثكم؟ فقال نعم، فقال: لأحدثنكم.
قوله: (لا يحدثكم أحد بعدي) كذا له ولمسلم بحذف المفعول، ولابن ماجه من رواية غندر عن شعبة لا يحدثكم به أحد بعدي، وللمصنف من طريق هشام لا يحدثكم به غيري، ولأبي عوانة من هذا الوجه: " لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي " وعرف أنس أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة، فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة، أو كان عاما وكان تحديثه بذلك في آخر عمره، لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النادر ممن لم يكن هذا المتن في مرويه.
وقال ابن بطال: يحتمل أنه قال ذلك لما رأى من التغيير ونقص العلم، يعني فاقتضى ذلك عنده أنه لفساد الحال لا يحدثهم أحد بالحق.
قلت: والأول أولى.
قوله: (سمعت) هو بيان، أو بدل لقوله لأحدثنكم.
قوله: (أن يقل العلم) هو بكسر القاف من القلة.
وفي رواية مسلم عن غندر وغيره عن شعبة: " أن يرفع العلم " وكذا في رواية سعيد عند ابن أبي شيبة وهمام عند المصنف في الحدود وهشام عنده في النكاح كلهم عن قتادة، وهو موافق لرواية أبي التياح، وللمصنف أيضا في الأشربة من طريق هشام: " أن يقل " فيحتمل أن يكون المراد بقلته أول العلامة وبرفعه آخرها، أو أطلقت القلة وأريد بها العدم كما يطلق العدم ويراد به القلة، وهذا أليق لاتحاد المخرج.
قوله: (وتكثر النساء) قيل سببه أن الفتن تكثر فيكثر القتل في الرجال لأنهم أهل الحرب دون النساء.
وقال أبو عبد الملك: هو إشارة إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات.
قلت: وفيه نظر، لأنه صرح بالقلة في حديث أبي موسى الآتي في الزكاة عند المصنف فقال: " من قلة الرجال وكثرة النساء " والظاهر أنها علامة محضة لا لسبب آخر، بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسبة لظهور الجهل ورفع العلم.
وقوله: " لخمسين " يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازا عن الكثرة.
ويؤيده أن في حديث أبي موسى: " وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة".
قوله: (القيم) أي من يقوم بأمرهن، واللام للعهد إشعارا بما هو معهود من كون الرجال قوامين على النساء.
وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين لأن رفع العلم يخل به، والنقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما.
قال الكرماني: وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذنا بخراب العالم لأن الخلق لا يتركون هملا، ولا نبي بعد نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، فيتعين ذلك.
وقال القرطبي في " المفهم ": في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت، خصوصا في هذه الأزمان.
وقال القرطبي في التذكرة: يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن سواء كن موطوءات أم لا.
ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول الله الله فيتزوج الواحد بغير عدد جهلا بالحكم الشرعي.
قلت: وقد وجد ذلك من بعض أمراء التركمان وغيرهم من أهل هذا الزمان مع دعواه الإسلام.
والله المستعان.