*3*
باب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
الشرح:
قوله: (باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر) هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه، ولأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله.
وظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر.
وفيه نظر لأن الذي ثبت عند المصنف وغيره أنه خرج في البر وسيأتي بلفظ " فخرجا يمشيان " وفي لفظ لأحمد " حتى أتيا الصخرة " وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله: " إلى الخضر " على أن فيه حذفا، أي إلى مقصد الخضر، لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه البحر، فأطلق على جميعها ذهابا مجازا، إما من إطلاق الكل على البعض أو من تسمية السبب باسم ما تسبب عنه.
وحمله ابن المنير على أن " إلى " بمعنى مع.
وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى يوجه في البحر لما طلب الخضر قلت: لعله قوي عنده أحد الاحتمالين في قوله " فكان يتبع أثر الحوت في البحر " فالظرف يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، ويؤيد الأول ما جاء عن أبي العالية وغيره، فروى عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر.
انتهى.
والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبا.
وعنده أيضا من طريق الربيع بن أنس قال: إنجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر.
فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه.
وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات.
قوله: (الآية) هو بالنصب بتقدير فذكر.
وقد ذكر الأصيلي في روايته باقي الآية وهي قوله: (مما علمت رشدا) .
الحديث:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لَا فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ
الشرح:
قوله: (حدثنا) وللأصيلي: " حدثني " بالإفراد.
قوله: (غرير) تقدم في المقدمة أنه بالغين المعجمة مصغرا، ومحمد وشيخه وأبوه إبراهيم بن سعد زهريون، وكذا ابن شهاب شيخ صالح وهو ابن كيسان.
قوله: (حدثه) للكشميهني: " حدث " بغير هاء، وهو محمول على السماع لأن صالحا غير مدلس.
قوله: (تمارى) أي تجادل.
قوله: (والحر) هو بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين، وهو صحابي مشهور ذكره ابن السكن وغيره، وله ذكر عند المصنف أيضا في قصة له مع عمر قال فيها: وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر، يعني لفضلهم.
قوله: (قال ابن عباس هو خضر) لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث.
وخضر بفتح أوله وكسر ثانيه أو بكسر أوله وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، وبإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما.
وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحر غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكالي، فإن هذا في صاحب موسى هل هو الخضر أو غيره.
وذاك في موسى هل هو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أو موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها معجمة.
وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لهذا بشيء كثير، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى.
ويقال إن اسم الخضر بليا بموحدة ولام ساكنة ثم تحتانية، وسيأتي في أحاديث الأنبياء النقل عن سبب تلقيبه بالخضر، وسيأتي نقل الخلاف في نسبه وهل هو رسول أو نبي فقط أو ملك بفتح اللام أو ولي فقط، وهل هو باق أو مات.
قوله: (فدعاه) أي ناداه.
وذكر ابن التين أن فيه حذفا والتقدير: فقام إليه فسأله، لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه، وأخباره في ذلك شهيرة.
قوله: (إذ جاء رجل) لم أقف على تسميته.
قوله: (بلى عبدنا) أي هو أعلم، وللكشميهني: " بل " بإسكان اللام، والتقدير فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر.
وإنما قال عبدنا - وإن كان السياق يقتضي أن يقول عبد الله - لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله سبحانه وتعالى، والإضافة فيه للتعظيم.
قوله: (يتبع أثر الحوت في البحر) في هذا السياق اختصار يأتي بيانه عند شرحه إن شاء الله تعالى.
قوله: (ما كنا نبغي) أي نطلب، لأن فقد الحوت جعل آية أي علامة على الموضع الذي فيه الخضر.
وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت، والرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، والعمل بخبر الواحد الصدوق، وركوب البحر في طلب العلم بل في طلب الاستكثار منه، ومشروعية حمل الزاد في السفر، ولزوم التواضع في كل حال، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع.
*3*
ذباب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
الشرح:
قوله: (باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم اللهم علمه الكتاب) استعمل لفظ الحديث ترجمة تمسكا بأن ذلك لا يختص جوازه بابن عباس، والضمير على هذا لغير مذكور، ويحتمل أن يكون لابن عباس نفسه لتقدم ذكره في الحديث الذي قبله، إشارة إلى أن الذي وقع لابن عباس من غلبته للحر بن قيس إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
الشرح:
قوله: (حدثنا أبو معمر) هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المعروف بالمقعد البصري.
قوله: (حدثنا خالد) هو ابن مهران الحذاء.
قوله: (ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد المصنف في فضل ابن عباس عن مسدد عن عبد الوارث " إلى صدره " وكان ابن عباس إذ ذاك غلاما مميزا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة.
قوله: (علمه الكتاب) بين المصنف في كتاب الطهارة من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس سبب هذا الدعاء ولفظه: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءا " زاد مسلم.
" فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر " ولمسلم قالوا ابن عباس، ولأحمد وابن حبان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة هي التي أخبرته بذلك، وأن ذلك كان في بيتها ليلا، ولعل ذلك كان في الليلة التي بات ابن عباس فيها عندها ليرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد أخرج أحمد من طريق عمرو بن دينار عن كريب عن ابن عباس في قيامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وفيه: " فقال لي ما بالك؟ أجعلك حذائي فتخلفني.
فقلت: أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله؟ فدعا لي أن يزيدني الله فهما وعلما " والمراد بالكتاب القرآن لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه.
ووقع في رواية مسدد " الحكمة " بدل الكتاب وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في الطرق كلها عن خالد الحذاء، كذا قال وفيه نظر، لأن المصنف أخرجه أيضا من حديث وهيب عن خالد بلفظ: " الكتاب " أيضا، فيحمل على أن المراد بالحكمة أيضا القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى.
وللنسائي والترمذي من طريق عطاء عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتي الحكمة مرتين، فيحتمل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة.
ويؤيده أن في رواية عبيد الله بن أبي يزيد التي قدمناها عند الشيخين: " اللهم فقهه في الدين " لكن لم يقع عند مسلم " في الدين".
وذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود ذكره في أطراف الصحيحين بلفظ " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " قال الحميدي: وهذه الزيادة ليست في الصحيحين.
قلت: وهو كما قال.
نعم هي في رواية سعيد بن جبير التي قدمناها عند أحمد وابن حبان والطبراني ورواها ابن سعد من وجه آخر عن عكرمة مرسلا.
وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر: كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوما فمسح رأسك وقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء في حديث الباب بلفظ: " اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب " وهذه الزيادة مستغربة من هذا الوجه، فقد رواه الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها، وقد وجدتها عند ابن سعد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: " اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب".
وقد رواه أحمد عن هشيم عن خالد في حديث الباب بلفظ: " مسح على رأسي " وهذه الدعوة مما تحقق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين رضي الله عنه.
واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل: القرآن كما تقدم، وقيل العمل به، وقيل السنة، وقيل الإصابة في القول، وقيل الخشية، وقيل الفهم عن الله، وقيل العقل، وقيل ما يشهد العقل بصحته، وقيل نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل سرعة الجواب مع الإصابة.
وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) .
والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن، وسيأتي مزيد لذلك في المناقب إن شاء الله تعالى.
*3*
باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ
الشرح:
قوله: (باب متى يصح سماع الصغير) زاد الكشميهني: " الصبي الصغير".
ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التحمل.
وقال الكرماني: إن معنى الصحة هنا جواز قبول مسموعه.
قلت: وهذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة.
وأشار المصنف بهذا إلى اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رواه الخطيب في الكفاية عن عبد الله بن أحمد وغيره أن يحيى قال: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر رد يوم أحد إذ لم يبلغها.
فبلغ ذلك أحمد فقال: بل إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال.
ثم أورد الخطيب أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم، وهذا هو المعتمد، وما قاله ابن معين إن أراد به تحديد ابتداء الطلب بنفسه فموجه، وإن أراد به رد حديث من سمع اتفاقا أو اعتنى به فسمع وهو صغير فلا، وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على قبول هذا، وفيه دليل على أن مراد ابن معين الأول، وأما احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد البراء وغيره يوم بدر ممن كان لم يبلغ خمس عشرة فمردود بأن القتال يقصد فيه مزيد القوة والتبصر في الحرب، فكانت مظنته سن البلوغ، والسماع يقصد فيه الفهم فكانت مظنته التمييز.
وقد احتج الأوزاعي لذلك بحديث: " مروهم بالصلاة لسبع".
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ
الشرح:
قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس، وقد ثبت ذلك في رواية كريمة.
قوله: (على حمار) هو اسم جنس يشمل الذكر والأنثى كقولك بعير.
وقد شذ حمارة في الأنثى حكاه في الصحاح.
وأتان بفتح الهمزة وشذ كسرها كما حكاه الصغاني هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى أتانة حكاه يونس وأنكره غيره، فجاء في الرواية على اللغة الفصحى.
وحمار أتان بالتنوين فيهما على النعت أو البدل، وروي بالإضافة.
وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة لأنهن أشرف، وهو قياس صحيح من حيث النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يدفع بمثله كما سيأتي البحث فيه في الصلاة إن شاء الله تعالى.
قوله: (ناهزت) أي قاربت، والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي.
قوله: (إلى غير جدار) أي إلى غير سترة قاله الشافعي.
وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته.
ويؤيده رواية البزار بلفظ: " والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس لشيء يستره".
قوله: (بين يدي بعض الصف) و مجاز عن الإمام بفتح الهمزة، لأن الصف ليس له يد.
وبعض الصف يحتمل أن يراد به صف من الصفوف أو بعض من أحد الصفوف قاله الكرماني.
قوله: (ترتع) بمثناتين مفتوحتين وضم العين أي تأكل ما تشاء، وقيل تسرع في المشي، وجاء أيضا بكسر العين بوزن يفتعل من الرعي، وأصله ترتعي لكن حذفت الياء تخفيفا، والأول أصوب، ويدل عليه رواية المصنف في الحج نزلت عنها فرتعت.
قوله: (ودخلت) وللكشميهني: " فدخلت " بالفاء.
قوله: (فلم ينكر ذلك علي أحد) قيل فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة، واستدل ابن عباس على الجواز بعدم الإنكار لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولا يقال منع من الإنكار اشتغالهم بالصلاة لأنه نفى الإنكار مطلقا فتناول ما بعد الصلاة.
وأيضا فكان الإنكار يمكن بالإشارة.
وفيه ما ترجم له أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية وإنما يشترط عند الأداء.
ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر.
وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره مقام حكاية قوله، إذ لا فرق بين الأمور الثلاثة في شرائط الأداء.
فإن قيل: التقييد بالصبي والصغير في الترجمة لا يطابق حديث ابن عباس، أجاب الكرماني بأن المراد بالصغير غير البالغ، وذكر الصبي معه من باب التوضيح.
ويحتمل أن يكون لفظ الصغير يتعلق بقصة محمود، ولفظ الصبي يتعلق بهما معا والله أعلم.
وسيأتي باقي مباحث هذا الحديث في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ عَقَلْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ
الشرح:
قوله: (حدثنا محمد بن يوسف) هو البيكندي كما جزم به البيهقي وغيره، وأما الفريابي فليست له رواية عن أبي مسهر، وكان أبو مسهر شيخ الشاميين في زمانه وقد لقيه البخاري وسمع منه شيئا يسيرا، وحدث عنه هنا بواسطة، وذكر ابن المرابط فيما نقله ابن رشيد عنه أن أبا مسهر تفرد برواية هذا الحديث عن محمد بن حرب.
وليس كما قال ابن المرابط فإن النسائي رواه في السنن الكبرى عن محمد بن المصفى عن محمد بن حرب.
وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية محمد بن جوصاء - وهو بفتح الجيم والصاد المهملة - عن سلمة بن الخليل وأبي التقي وهو بفتح المثناة وكسر القاف كلاهما عن محمد بن حرب.
فهؤلاء ثلاثة غير أبي مسهر رووه عن محمد بن حرب فكأنه المتفرد به عن الزبيدي، وهذا الإسناد إلى الزهري شاميون.
وقد دخلها هو وشيخه محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو الأنصاري الخزرجي وحديثه هذا طرف من حديثه عن عتبان بن مالك الآتي في الصلاة من رواية صالح بن كيسان وغيره عن الزهري.
وفي الرقاق من طريق معمر عن الزهري أخبرني محمود.
قوله: (عقلت) و بفتح القاف أي حفظت.
قوله: (مجة) بفتح الميم وتشديد الجيم، والمج هو إرسال الماء من الفم، وقيل لا يسمى مجا إلا إن كان على بعد.
وفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع محمود إما مداعبة منه، أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة.
قوله: (وأنا ابن خمس سنين) لم أر التقصد بالسن عند تحمله في شيء من طرقه لا في الصحيحين ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد إلا في طريق الزبيدي هذه، والزبيدي من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري حتى قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري.
وقال أبو داود: ليس في حديثه خطأ.
وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري لكن لفظه عند الطبراني والخطيب في الكفاية من طريق عبد الرحمن بن نمر - وهو بفتح النون وكسر الميم - عن الزهري وغيره قال: حدثني محمود بن الربيع، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين، فأفادت هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين وهو ابن أربع وتسعين سنة وهو مطابق لهذه الرواية.
وذكر القاضي عياض في الإلماع وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلا إن كان ذلك مأخوذا من قول صاحب الاستيعاب إنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أو خمس، وكان الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن ثلاث وتسعين لما مات، والأول أولى بالاعتماد لصحة إسناده، على أن قول الواقدي يمكن حمله إن صح على أنه ألغى الكسر وجبره غيره.
والله أعلم.
وإذا تحرر هذا فقد اعترض المهلب على البخاري لكونه لم يذكر هنا حديث ابن الزبير في رؤيته والده يوم بني قريظة ومراجعته له في ذلك، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربعا، فهو أصغر من محمود.
وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء فكان ذكر حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين.
وأجاب ابن المنير بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي صلى الله عليه وسلم مج مجة في وجهه، بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية تثبت كونه صحابيا.
وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية حتى تدخل في هذا الباب.
ثم أنشد وصاحب البيت أدرى بالذي فيه انتهى.
وهو جواب مسدد.
وتكملته ما قدمناه قبل أن المقصود بلفظ السماع في الترجمة هو أو ما ينزل منزلته من نقل الفعل أو التقرير، وغفل البدر الزركشي فقال: يحتاج المهلب إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري.
انتهى.
والبخاري قد أخرج قصة ابن الزبير المذكورة في مناقب الزبير في الصحيح، فالإيراد موجه وقد حصل جوابه.
والعجب من متكلم على كتاب يغفل عما وقع فيه في المواضع الواضحة ويعترضها بما يؤدي إلى نفي ورودها فيه.
قوله: (من دلو) زاد النسائي: " معلق " ولابن حبان " معلقة " والدلو يذكر ويؤنث.
وللمصنف في الرقاق من رواية معمر " من دلو كانت في دارهم " وله في الطهارة والصلاة وغيرهما: " من بئر " بدل دلو، ويجمع بينهما بأن الماء أخذ بالدلو من البئر وتناوله النبي صلى الله عليه وسلم من الدلو.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث وزيارة الإمام أصحابه في دورهم ومداعبته صبيانهم، واستدل به بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس، ومن كان دونها يكتب له حضور.
وليس في الحديث ولا في تبويب البخاري ما يدل عليه بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم الخطاب سمع وإن كان دون ابن خمس وإلا فلا.
وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه، والله أعلم.
وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجح أنها مظنة لا تحديد.
ومن أقوى ما يتمسك به في أن المرد في ذلك إلى الفهم فيختلف باختلاف الأشخاص ما أورده الخطيب من طريق أبي عاصم قال: ذهبت بابني - وهو ابن ثلاث سنين - إلى ابن جريج فحدثه، قال أبو عاصم: ولا بأس بتعليم الصبي الحديث والقرآن وهو في هذا السن، يعني إذا كان فهما.
وقصة أبي بكر بن المقري الحافظ في تسميعه لابن أربع بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة.