عرض مشاركة واحدة
قديم 01-28-2013, 11:55 AM   #3
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المنقذ من الضلال للامام الغزالى رضى الله عنه


- مَدَاخِلُ السَفْسَطة وجَحْد العُلوم

ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس ، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليَّات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي[23] بالمحسوسات ، وأماني من الغلط في الضروريات ، من جنس أماني الذي كان من قَبلُ في التقليديات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محققٌ لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ، فانتهي بي طول التشكك[24]إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً ، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول[25] : من أين الثقة بالمحسوسات[26] ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن[27] له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار[28] ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنهأكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحسأو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه[29] الصوفية أنها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي ( لهم ) ، إذا غاصوا في أنفسهم ، وغابواعن حواسهم ، أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك الحالة هي الموت ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
(( الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا ))[30]
فلعلالحياة الدنيا نوم بالإضافة إلىالآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف مايشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك:
(( فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ )) (ق: 22)
فلما خطرت[31] لي هذه الخواطر وانقدحت فيالنفس ، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لميكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليلإلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء[32] ، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلةالمحررة فقد ضيق رحمة الله [ تعالى ] الواسعة ؛ ولما سئل رسولالله صلى الله عليهوسلّم عن ( الشرح ) ومعناه في قوله تعالى:
(( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام))(الأنعام: 125)
قال: (( هو نور يقذفه الله تعالى في القلب )) فقيل: (وما علامته؟) قال: (( التجافي عن دار الغُرُورِ والإنابة إلى دارِ الخُلُود ))[33]. وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:
(( إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ ))[34]
فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ، وذلك النور ينبجس من الجودالإلهي في بعض الأحايين ، ويجب الترصد له كما قال صلى الله عليه وسلّم:
(( إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ ألا فتعرضُوا لها ))[35]
والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة ، فأنهاحاضرة. والحاضر إذا طلب فقد[36] واختفى. ومن طلب ما لا يطلب ، فلا يتهم بالتقصير في طلب مايطلب.


حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس