الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه وفيه أربع مسائل:
مسألة (تعريف التقليد)
التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الاصول، ولا في الفروع، وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، ويدل على بطلان مذهبهم مسالك. الأول: هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة، فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة، فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته، وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه، وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم، ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم، لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب، ويجب على العامي اتباع المفتي، إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب فنقول: قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع، فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا، فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة، فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل. المسلك الثاني: أن نقول: أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه، فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته؟ بضرورة أم بنظر أو تقليد ولا ضرورة ولا دليل؟ فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه؟ وإن قلدتم فيه غيره، فبم عرفتم صدق المقلد الآخر وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله، فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم؟ ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد هل تعلمون وجوب التقليد أم لا، فإن لم تعلموه فلم قلدتم؟ وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد، ويعود عليهم السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل، فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم، فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب للاكثرين فهو أولى بالاتباع؟ قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الاقلون ويعجز عنه الاكثرون، لانه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل، ويدل على أنه عليه السلام محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة، على خلاف الاكثرين، وقد قال تعالى: (وان تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) (الانعام: 611) كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر، ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا، كيف وهو على خلاف نص القرآن، قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 31} (ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الانعام: 37 الاعراف 131، القصص 13 الدخان 39، الطور: 47} (وأكثرهم للحق كارهون} (المؤمنون: 70) فإن قيل: فقد قال عليه السلام: عليكم بالسواد الاعظم، ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد قلنا: أولا: بم عرفتم صحة هذه الاخبار وليست متواترة؟ فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها؟ ثم لو صح فمتبع السواد الاعظم ليس بمقلد، بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه، وذلك قبول، قول بحجة وليس بتقليد، ثم المراد بهذه الاخبار ذكرناه في كتاب الإجماع، وأنه الخروج عن موافقة الامام أو موافقة الإجماع، ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم: إن الناظر متورط في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى؟ قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى، فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا: انا وجدنا اباءنا على امه؟ ثم نقول: إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا، فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب، وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطئ في العلاج، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر. الشهبة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} (غافر: 4) وأنه نهى عن الجدال في القدر، والنظر يفتح باب الجدال؟ قلنا: نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} (غافر: 5) بدليل قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 521) فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه، إما لانه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص، أو كان في بدء الاسلام، فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول: هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين، أو لانهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم، ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الاسراء: 63} (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة: 961} (قل هاتوا برهانكم} (البقرة: 111) هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم، ولذلك عظم شأن العلماء، وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11) وقال عليه السلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم، وقالابن مسعود: لا تكونن إمعة، قيل: وما إمعة، قال: أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس.
مسألة (تقليد العامي للعلماء)
العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء، وقال قوم من القدرية: يلزمهم النظر في الدليل واتباع الامام المعصوم، وهذا باطل بمسلكين: أحدهما: إجماع الصحابة، فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم، فإن قال قائل من الامامية: كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته، وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة؟ قلن: هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الائمة في حال ولايته إلى آخر عمره، لانه لم يزل في اضطراب من أمره، فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية. المسلك الثاني: إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالاحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لانه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل، وتتعطل الحرف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، ويؤدي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء، فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد، وهذا عين التقليد؟ قلنا: التقليد قبول قول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع، كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود، ووجب علينا قبول خبر الواحد، وذلك عند ظن الصدق، والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم، بدليل سمعي قاطع، فهذا الحكم قاطع، والتقليد جهل، فإن قيل: فقد رفعتم التقليد من الدين، وقد قال الشافعي رحمه الله: ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام، فقد أثبت تقليدا؟ قلنا: قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد، نعم: يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه، ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة، فكأنه تصديق بغير حجة خاصة، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا.
مسألة (فتوى العامي للعلماء العدول)
لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم: يجوز، وليس عليه البحث، وهذا فساد لان كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله، فيجب على الامة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته، فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله، ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة، وعلى المفتي معرف حال الراوي، وعلى الرعية معرفة حال الامام والحاكم، وعلى الجملة: كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل؟ فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة، لان من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم؟ قلنا: من عرفه بالفسق فلا يسأله، ومن عرفه بالعدالة فيسأله، ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال: ظاهر حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتوى، ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى، والجهل أغلب على الخلق، فالناس كلهم عوام إلا الافراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد، فإن قيل: فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه، قيل يحتمل أن يقال ذلك، فإن ذلك ممكن، ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين، وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد، وهذا يقرب منه من وجه.
مسألة (تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي)
إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد، وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الاعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول، ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء، وقال قوم: تجب مراجعة الافضل، فإن استووا تخير بينهم، وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة، وقد عرف كلهم بذلك، نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى، وقال: تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني؟ فإن خيراه تخير، وإن اتفقا على الامر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل، وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير، فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر، والائمة كالنجوم، فبأيهم اقتدى اهتدى، أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده اختار القاضي أنه يتخير أيضا لان المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد، فكذلك إذا كان معه غيره، فزيادة الفضل لا تؤثر، والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الافضل، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا، وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الاعلم أبعد لا محالة، وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب، فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون، يمنعهم من جانب إلى جانب، فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان، أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة، والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال: كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد، فلا يجب على المجتهد فيها النظر، بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد، والإجماع منعقد على أنه يلزمه، أولا تحصيل الظن، ثم يتبع ما ظنه، فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر، فإن قيل: المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال، والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه، فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام، وهذا سؤال واقع، ولكنا نقول: من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا، ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا، فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الافضل عد مقصرا، ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الاخبار، وبإذعان المفضول له، وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء يعلم الافضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم، والعامي أهل له، فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي، فهذا هو الاصح عندنا والاليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم.