القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد ويشتمل هذا القطب على ثلاثة فنون: فن في الاجتهاد، وفين في التقليد، وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل عند التعارض.
الفن الأول في الاجتهاد والنظر في أركانه وأحكامه
أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس الاجتهاد الركن الأول في نفس الاجتهاد: وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الافعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب. الركن الثاني المجتهد: وله شرطان: أحدهما: أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره. والشرط الثاني: أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه، فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه. أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد، فإن قيل: متى يكون محيطا بمدارك الشرع، وما تفصيل العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد؟ قلنا: إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للاحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار والمدارك المثمرة للاحكام كما فصلناها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل. وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم: اثنان مقدمان، واثنان متممان، وأربعة في الوسط، فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الاصوليون، أما كتاب الله عزوجل فهو الأصل، ولا بد من معرفته ولنخفف عنه أمرين. أحدهما: إنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الاحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية. الثاني: لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، وأما السنة فلا بد من معرفة الاحاديث التي تتعلق بالاحكام، وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة وفيها التخفيفان المذكوران، إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الاحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني: لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام، كسنن أبي داود ومعرفة السنن لاحمد البيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى، وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل. وأما الإجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لاهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية، وأما العقل فنعني به مستند النفي الأصلي للاحكام، فإن العقل قد دل على نفي الحرج في الاقوال والافعال، وعلى نفي الاحكام عنها من صور لا نهاية لها، أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة، فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية، ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص، فيأخذ في طلب النصوص، وفي معنى النصوص الإجماع، وأفعال الرسول بالاضافة إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه هذه المدارك الاربعة. فأما العلوم الاربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار فعلمان مقدمان: أحدهما: معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الاربعة. والثاني: معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب، وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة، ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف وتثقيل، أما تفصيل العلم الأول فهو أن يعلم أقسام الأدلة وأشكالها وشروطها، فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع، ووضعية وهي العبارات اللغوية ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الاصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع، ولم يعرف مقدمة الشارع، ولا عرف من أرسل الشارع، ثم قالوا: لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه، وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وليكن عارفا بصدق الرسول، والنظر في معجزته، والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم، إذ به يصير مسلما، والاسلام شرط المفتي لا محالة، فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد، فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن، فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله، وذلك محصل للمعرفة الحقيقية، مجاوز بصاحبه حد التقليد وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الايمان لجاز له الاجتهاد في الفروع. أما المقدمة الثانية فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه، وأما العلمان المتممان فأحدهما: معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة، والتخفيف فيه أن لا يشترط أن يكون جميعه على حفظه، بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ، وهذا يعم الكتاب والسنة. الثاني: وهو يخص السنة معرفة الرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الامة، فلا حاجة، به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة، أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل، وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير. والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الامام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة و المشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الائمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله، بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الائمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الامر، وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الامر يزداد شدة بتعاقب الاعصار، فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون: علم الحديث، وعلم اللغة، وعلم أصول الفقه، فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط، نعم: إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك، ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا. دقيقة في التخفيف يغفل عنها الاكثرون: اجتماع هذه العلوم الثمانية، إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الاحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإلم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألمنها، ولا تعلق لتلك الاحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عمعرفتها نقصا، ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة: 6) وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله، بل الصحابة في المسائل، فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري. الركن الثالث المجتهد فيه: والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطئ آثم، وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثما، ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الامة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد، فهذه هي الاركان، فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي، وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا، فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة، فنرسم فيه مسألتين.