الباب الثالث في قياس الشبه
ويتعلق النظر فهذا الباب بثلاثة أطراف: الطرف الأول: في حقيقة الشبه وأمثلته وتفصيل المذاهب فيه وإقامة الدليل على صحته. أما حقيقته فاعلم أن اسم الشبه يطلق على كل قياس، فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه، فهو إذا يشبهه، وكذلك اسم الطرد، لان الاطراد شرط كل علة جمع فيها بين الفرع والأصل، ومعنى الطرد السلامة عن النقض، لكن العلة الجامعة إن كانت مؤثرة أو مناسبة عرفت بأشرف صفاتها وأقواها وهو التأثير، والمناسبة دون الاخس الاعم الذي هو الاطراد والمشابهة فإن لم يكن للعلة خاصية إلا الاطراد الذي هو أعم أوصاف العلل وأضعفها في الدلالة على الصحة خص باسم الطرد لا لاختصاص الاطراد بها لكن لانه لا خاصية لها سواه، فإن انضاف إلى الاطراد زيادة ولم ينته إلى درجة المناسب والمؤثر سمي شبها وتلك الزيادة هي مناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب نفس الحكم، بيانه أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم سرا وهو مصلحة مناسبة للحكم، وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة، لكن يطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة ويظن أنه مظنتها وقالبها الذي يتضمنها وإن كنا لا نطلع على عين ذلك السر، فالاجتماع في ذلك الوصف الذي يوهم الاجتماع في المصلحة الموجبة للحكم يوجب الاجتماع في الحكم، ويتميز عن المناسب بأن المناسب هو الذي يناسب الحكم ويتقاضاه بنفسه، كمناسبة الشدة للتحريم، ويتميز عن الطرد بأن الطرد لا يناسب الحكم ولا المصلحة المتوهمة للحكم بل نعلم إن ذلك الجنس لا يكون مظنة المصالح وقالبها، كقول القائل، الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن، وكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبنى القنطرة على جنسه واحترز من الماء القليل. فإنه وإن كان لا تبنى القنطرة عليه فإنه تبنى على جنسه، فهذه علة مطردة لا نقض عليها ليس فيها خصلة سوى الاطراد ونعلم أنه لا يناسب الحكم ولا يناسب العلة التي تقتضي الحكم بالتضمن لها، والاشتمال عليها، فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة لخاصية وعلة وسبب يعلمه الله تعالى وإن لم نعلمها ونعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها فإذا معنى التشبيه الجمع بين الفرع، والأصل بوصف مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم بخلاف قياس العلة، فإنه جمع بما هو علة الحكم، فإن لم يرد الاصوليون بقياس الشبه هذا الجنس فلست أدري ما الذي أرادوا وبم فصلوه عن الطرد المحض وعن المناسب وعلى الجملة فنحن نريد هذا بالشبه، فعلينا الآن تفهيمه بالامثلة وإقامة الدليل على صحته، أما أمثلة قياس الشبه فهي كثيرة ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إليها إذ يعسر إظهار تأثير العلل بالنص والإجماع والمناسبة المصلحية: المثال الأول: قول أبي حنيفة: مسح الرأس لا يتكرر تشبيها له بمسح الخف والتيمم، والجامع أنه مسح، فلا يستحب فيه التكرار قياسا على التيمم ومسح الخف، ولا مطمع فيما ذكره أبو زيد من تأثير المسح، فإنه أورد هذا مثالا للقياس المؤثر وقال: ظهر تأثير المسح في التخفيف في الخف والتيمم، فهو تعليل بمؤثر وقد غلط فيه، إذ ليس يسلم الشافعي أن الحكم في الأصل معلل بكونه مسحا بل لعله تعبد ولا علة له أو معلل بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا والنزاع واقع في علة الأصل، وهو أن مسح الخف لم لا يستحب تكراره. أيقال أنه تعبد لا يعلل؟ أو لان تكراره يؤدي إلى تمزيق الخف، أو لانه وظيفة تعبدية تمرينية لا تفيد فائدة الأصل إذ لا نظافة فيه، لكن وضع لكيلا تركن النفس إلى الكسل، أو لانه وظيفة على بدل محل الوضوء لا على الأصل، فمن سلم أن العلة المؤثرة في الأصل هي المسح يلزمه فالشافعي يقول: أصل يؤدي بالماء، فيتكرر كالاعضاء الثلاثة، فكأنه يقول: هي إحدى الوظائف الاربع في الوضوء، فالاشبه التسوية بين الاركان الاربعة، ولا يمكن ادعاء التأثير والمناسبة في التعلتين على المذهبين ولا ينكر تأثير كل واحد من الشبهين في تحريك الظن إلى أن يترجح. المثال الثاني: قال الشافعي رحمه الله: في مسألة النية طهارتان، فكيف يفترقان؟ وقد يقال: طهارة موجبها في غير محل موجبها، فتفتقر إلى النية كالتيمم، وهذا يوهم الاجتماع في مناسب هو مأخذ النية وإن يطلع على ذلك المناسب. المثال الثالث: تشبيه الارز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين، فإن ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق، إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة، والطعم والقوت وصف ينبئ عن معنى به قوام النفس، والاغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنهما لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الاجسام. المثال الرابع: تعليلنا وجوب الضمان في يد السوم بأنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق ونعديه إلى يد العارية، وتعليل أبي حنيفة بأنه أخذ على جهة الشراء، والمأخوذ على جهة الشراء كالمأخوذ على حقيقته ويعديه إلى الرهن، فكل واحدة من العلتين ليست مناسبة ولا مؤثرة، إذ لم يظهر بالنص أو الإجماع إضافة الحكم إلى هذين الوصفين في غير يد السوم وهو في يد السوم متنازع فيه. المثال الخامس: قولنا إن قليل أرش الجناية يضرب على العاقلة لانه بدل الجناية على الآدمي كالكثير، فإنا نقول: ثبت ضرب الدية وضرب أرش اليد والاطراف، ونحن لا نعرف معنى مناسبا يوجب الضرب على العاقلة، فإنه على خلاف المناسب، لكن يظن أن ضابط الحكم الذي تميز به عن الاموال هو أنه بدل الجناية على الآدمي فهو مظنة المصلحة التي غابت عنا. المثال السادس: قولنا في مسألة التبييت: أنه صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت كالقضاء، وهم يقولون: صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، وكأن الشرع رخص في التطوع ومنع من القضاء فظهر لنا أن فاصل الحكم هو الفرضية، فهذا وأمثاله مما يكثر شبهه ربما ينقدح لبعض المنكرين للشبه، في بعض هذه الامثلة إثبات العلة بتأثير أو مناسبة، أو بالتعرض للفارق وإسقاط أثره، فيقول: هي مأخذ الذي الذي ظهر لهذا الناظر، وعند انتفائه يبقى ما ذكرناه من الايهام، وهو كتقديرنا في تمثيل المناسب بإسكار الخمر عدم ورود الايماء في قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} (المائدة: 19) والمقصود أن المثال ليس مقصودا في نفسه، فإن انقدح في بعض الصور معنى زائد على الايهام المذكور فليقدر انتفاؤه، هذا حقيقة الشبه وأمثلته. وأما إقامة الدليل على صحته فهو: أن الدليل إما أن يطلب من المناظر أو يطلبه المجتهد من نفسه، والأصل هو المجتهد، وهذا الجنس مما يغلب على ظن بعض المجتهدين، وما من مجتهد يمارس النظر في مأخذ الاحكام إلا ويجد ذلك من نفسه، فمن أثر ذلك في نفسه حتى غلب ذلك على ظنه فهو كالمناسب، ولم يكلف إلا غلبة الظن، فهو صحيح في حقه، ومن لم يغلب ذلك على ظنه فليس له الحكم به، وليس معنا دليل قاطع يبطل الاعتماد على هذا الظن بعد حصوله بخلاف الطرد على ما ذكرناه، أما المناظر فلا يمكنه إقامة الدليل على على الخصم المنكر فإنه إن خرج إلى طريق السبر والتقسيم كان ذلك طريقا مستقلا لو ساعد مثله في الطرد لكان دليلا، وإذا لم يسبر فطريقه أن يقول: هذا يوهم الاجتماع في مأخذ الحكم ويغلب على الظن، والخصم يجاحد، إما معاندا جاحدا وإما صادقا من حيث أنه لا يوهم عنده ولا يغلب على ظنه، وإن غلب على ظن خصمه، والمجتهدون الذين أفضى بهم النظر إلى أن هذا الجنس مما يغلب على الظن لا ينبغي أن يصطلحوا في المناظرة على فتح باب المطالبة أصلا كما فعله القدماء من الاصحاب، فإنهم لم يفتحوا هذا الباب، واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان، وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة، لان إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن، فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل، والمطالبة تحسم سبيل النظر، وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه، والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الاتنفاع فإن قيل: وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة، وذلك أيضا شنيع، قلنا: الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع، فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد، وهو مسكت معلوم على الفور، والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الاصحاب أولى، بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه، فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول: لا بد للحكم من مناط، وعلامة ضابطة، ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا، وما ذكرته أولى من غيره أو ما ذكرته فهو منقوض وباطل، فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول: مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله: الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى، وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها، أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره، ولا يلزمني أن أذكره، وعليك تصحيح علة نفسك، وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة، إذ يقال له: إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر، وإن ظهر لك شئ آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك، فإن قال: هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول، وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول: ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الاحوال من طعم أو قوت أو كيل. والقوت لا يشهد له الملح، فالطعم الذي يشهد له الملح أولى، والكيل ينبئ عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم. فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام، فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر، وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الإجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب، وإن كان ملائما، فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول: إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه، وما أنت إلا كمن رأى إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره، لانه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك، ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن، فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول: هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي، فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه. وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله. أما تفصيل المذاهب فيه ونقل الاقاويل المختلفة في تفهيمه فقد آثرت الاعراض عنه لقلة فائدته، فمن عرف ما ذكرناه لم يخف عليه غور ما سواه ومن طلب الحق من أقاويل الناس دار رأسه وحار عقله، وقد استقصيت ذلك في تهذيب الاصول. الطرف الثاني في بيان التدريج في منازل هذه الاقيسة من أعلاها إلى أدناها وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس، وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقربه كل منكر للقياس، وبيانه أن القياس أربعة أنواع: المؤثر، ثم المناسب، ثم الشبه، ثم الطرد، والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر، وأعلاها المؤثر، وهو ما ظهر تأثيره في الحكم، أي الذي عرف إضافة الحكم إليه وجعله مناطا وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها، وعين الحكم وجنسه أربعة، لانه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس ذلك الحكم، أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم، فإن ظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الدي يقال له أنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس، إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل، فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر، والنبيذ ملحق به قطعا، وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا، إذ لا يقى إلا اختلاف عدد الاشخاص التي هي مجازي المعنى، ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الاعرابي، إذ يكون الهندي والتركي في معناه. الثاني في المرتبة: أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه، كتأثير أخوة الاب والام في التقديم في الميراث، فيقاس عليه ولاية النكاح، فإن الولاية ليس هي عين الميراث، لكن بينهما مجانسة في الحقيقة، فإن هذا حق، وذلك حق، فهذا دون الأول: لان المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير. الثالث في المرتبة: أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم، كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالجرح والمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة، كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر، وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم، وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه. الرابع في المرتبة: ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم وهو الذي سميناه المناسب الغريب، لان الجنس الاعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة، وقد ظهر أثر المصالح في الاحكام، إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح، فلاجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن. ولاجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن لانه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الاحكام بجنسها، ككون الصيام فرضا في مسألة التبييت، وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها، وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة، بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات، فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه، والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع، والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين، ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها أعم من بعض، وبعضها أخص، وإلى العين أقرب، فإن أعم أوصاف الاحكام كونه حكما، ثم تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة، والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة وغير عبادة، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة، وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات، وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الاحكام. وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الاحكام بجنسه حتى يدخل فيه الاشباه، وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه، وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة، كالردع والزجر، أو معنى سد الحاجات، أو معنى حفظ العقل بالاحتراز عن المسكوات، فليس كل جنس على مرتبة واحدة، فالاشباه أضعفها، لانها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث أنه من جنس الاوصاف التي قد يضبط الشرع الاحكام بها، وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم، فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فإن الصغر إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر، فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فقد عرفت بهذا أن الظن ليس بتحريك، والنفس ليست تميل إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه، وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر، فلاجل ذلك تتفاوت درجات الظن، والاعلى مقدم على الاسفل، والاقرب مقدم على الابعد في الجنسية، ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد. ومن حاول حصر هذه الاجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر، وما ذكرناه هو النهاية في الاشارة إلى الاجناس ومراتبها وفي مقنع وكفاية. تنبيه آخر على خواص الاقيسة إعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغنى عن السبر والحصر، فلا يحتاج إلى نفي ما عداه، لانه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما، فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة، ويعلل تحريم الوطئ بالجميع لانه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه، أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه، فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى، كما في إعطاء الفقير القريب، فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الامرين، فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى ولم يتوصل بالسبر إليه. أما المناظر فينبغي أن يكتفي منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر، لان المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر، فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه، وإلا فليعترض بطريق آخر فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر، وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم، فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبوان إلى أنه لا يجوز اعتباره، وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع، فإنه إذا أمكن قصر الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب، فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال: لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا، فإذا هو العلامة كما تقول: الربا جار في الدقيق والعجين، فلم ينضبط باسم البر، فلا بد من ضابط، ولا ضابط أولى من الطعم. والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال، فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي وهذا يجري في القليل، والتطوع يستغني عن التبييت، و القضاء لا يستغنى، والاداء دائر بينهما، ولا بد من فاصل للقسمين، والفرضية أولى الفواصل، وهذا بخلاف المناسب، فإنه يجذب الظن ويحركه وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة، فإن قيل: فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال: لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه خاصية تنفي الشبه وإيهام الاشتمال على مخيل، قلنا: لهذا السؤال قال قائلون: لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب، فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق، لكن من حيث الاضافة إلى القرب و البعد، فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشئ كبناء القنطرة فيقضي بادئ الرأي ببطلانه، لانه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة، فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته، وعلى الجملة فمهما ظهر الأقرب والاخص أمحق الظن الحاصل بالابعد، وقد يكون ظهور الاقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل، فيصير بطلان الابعد بديهيا، فيظن أنه لذاته وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب، وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير، بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها، فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد، وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط، وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة، والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به فإن الشعور بالشئ غير الشعور بالشعور، فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا. الطرف الثالث في بيان ما يظن أنه من الشبه المختلف فيه وليس منه وهي ثلاثة أقسام: الأول: ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط، مثاله: طلب الشبه في جزاء الصيد، وبه فسر بعض الاصوليين الشبه وهذا خطأ، لان صحة ذلك مقطوع به لانه قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} (المائدة: 59) فعلم أن المطلوب هو المثل، وليس في النعم ما يماثل الصيد من كل وجه، فعلم أن المراد به الاشبه الامثل، فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وقيمة المثل وكفاية المثل في الاقارب، ولا سبيل إلا المقايسة بينها وبين نساء العشيرة وبين شخص القريب المكفى في السن والحال والشخص وبين سائر الاشخاص لتعرف الكفاية، فذلك مقطوع به، فكيف يمثل به الشبه المختلف فيه الذي يصعب الدليل على إثباته.