عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 08:00 PM   #19
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


الباب الأول في إثبات القياس على منكريه
وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة‏:‏ يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم‏:‏ يجب التعبد به عقلا، وقال قوم‏:‏ لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه، فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا، ففرق المبطلة له ثلاث‏:‏ المحيل له عقلا، والموجب له عقلا والحاظر له شرعا، فنفرض على كل فريق مسألة، ونبطل عليهم خيالهم ونقول للمحيل للتعبد به عقلا‏:‏ بم عرفت إحالته، بضرورة أو نظر‏؟‏ ولا سبيل إلى دعوى شئ من ذلك ولهم مسالك‏.‏ الأول‏:‏ قولهم كلما نصب الله تعالى دليلا قاطعا، على معرفته فلا نحيل التعبد به، إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته، لان رحم الظن جهل، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه، ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله، بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى فهذا أصلان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الصلاح واجب على الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لا صلاح في التعبد بالقياس، ففي أيهما النزاع‏؟‏‏.‏ والجواب‏:‏ إننا ننازعكم في الأصلين جميعا، أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه، فلا نسلم، وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس، بعض من أوجب الصلاح، وقال‏:‏ لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد وكد القلب والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 11‏)‏ وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات، فإن قيل‏:‏ كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن، وذلك أصلح، قلنا‏:‏ من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح، ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبقوا وعصوا، وإذا فرض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم وظنونهم، ثم نقول‏:‏ أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين والاستدلال على القبلة وتقدير المثل والكفايات في النفاقات والجنايات وكل ذلك ظن وتخمين، فإن قيل‏:‏ ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين فإن ذلك لا يقدر عليه، بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق، وأوجب داستقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة، قلنا‏:‏ وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه وشهادته له، ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة، بل هو مكلف بظنه، وإن فسدت الشهادة كما كلف الحاكم الحكم بظنه، وإن كان كذب الشهود ممكنا ولا فرق، ولذلك نقول‏:‏ كل مجتهد مصيب، والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع وما ذكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد، وتحقيقه أنه لو قال الشارع‏:‏ حرمت كل مسكر، أو حرمت الخمر لكونه مسكرا، لم يكن التعبد به ممتنعا، فلو قال‏:‏ متى حرمت الربا في البر فأسيروا حاله، وقسموا صفاته، فإن غلب على ظنكم بإمارة أني حرمته لكونه قوتا، وحرمت الخمر لكونه مسكرا، فقد حرمت عليكم كل قوت وكل مسكر، ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت عليه كل مكيل، لم يكن بين هذا وبين قوله إذا اشتبهت عليكم القبلة، فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين فيكون كل واحد مصيبا، وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها، وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر، فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقيق ارتباطه به بالنص الصريح، فإن قيل‏:‏ فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما قلنا‏:‏ ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد، وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات والصبح بركعتين، وفي تقدير الحدود والكفارات ونصب الزكوات بمقادير مختلفة لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه يقرب العباد بسببه من الطاعة، ويبعدون به عن المعصية وأسباب الشقاوة، حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت واعتقدنا فيه لطفا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الاوصاف‏؟‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم لا يستقيم قياس إلا بعلة، والعلة ما توجب الحكم لذاتها، وعلل الشرع ليست كذلك، فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل‏؟‏ قلنا‏:‏ لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ويقول‏:‏ اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر، ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول‏:‏ من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون، وكلهم مصيبون‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ قولهم حكم الله تعالى خبره، ويعرف ذلك بتوقيف، فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب فكيف يقال‏:‏ حكم الله في الزبيب التحريم والنص، لم ينطق إلا بالاشياء الستة، قلنا‏:‏ إذا قال الله تعالى‏:‏ قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فقيسوا عليه كل مطعوم، فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب، وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس، لكن هذا النص بعينه وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس، على أنهم ما فعلوا ذلك إلا وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ وقرائن وإن لم ينقلوها إلينا‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ قولهم إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة، وإن وجدت علامات لامكان الخطأ والخطأ ممكن في كل اجتهاد وقياس، فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ، ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة، وعدالة الشاهد والقاضي والامام ومتولي الاوقاف لمعنيين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك حكم في الاشخاص والاعيان ولا نهاية لها، ولا يمكن تعريفها بالنص‏.‏ والثاني‏:‏ أن الخطأ فيه غير ممكن، لانهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود، قلنا‏:‏ وكذلك نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الاشكال إلا بتصويب كل مجتهد، وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه، فالخطأ غير ممكن في حقه، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الاشكال، وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد، إمكان الخطأ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها، والخطأ ممكن، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ، أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل، فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏القائلين بوجوب القياس عقلا‏)‏
الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان‏:‏ الأولى‏:‏ أن الانبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة، والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة، فنقول‏:‏ هذا فاسد لان الحكم في الاشخاص التي ليست متناهية، إنما يتم بمقدمتين كلية، كقولنا‏:‏ كل مطعوم ربوي، وجزئية كقولنا‏:‏ هذا النبات مطعوم، أو الزعفران مطعوم، وكقولنا‏:‏ كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر، وكل عدل مصدق، وزيد عدل، وكل زان مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس، أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية، كقوله‏:‏ كل مطعوم ربوي، بدلا عن قوله‏:‏ لا تبيعوا البر بالبر، وكقوله‏:‏ كل مسكر حرام، بدلا عن قوله‏:‏ حرمت الخمر، وإذا أتى بهذه الالفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال‏:‏ من تيقنتم صدقة، وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات، لانه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة، ولا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الاقارب وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة، أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية، فإنها تدرك بالعقل، ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها، وهذا فاسد، لان القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم، وكل حكم قدر خصوصه، فتعميمه ممكن، فلو عم لم يبق للقياس مجال، وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ، لان من العلل ما لا يناسب، وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها، بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة، وكذا سائر العلل والاسباب‏.‏ مسألة ‏(‏الرد على منكري الاجتهاد‏)‏ في الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن، ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع، كالنص وما يجري مجراه، فأما الحكم بالرأي والاجتهاد فمنعوه وزعموا أنه لا دليل عليه، وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل، وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم، فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ويعلم فقره بأمارة ظنية، ولا يحكم إلا بقول عدل، وتعرف عدالته بالظن، وكذلك الاجتهاد في الوقت والقبلة وأروش الجنايات وكفاية القريب، وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك موجود قطعا، والحكم عند الظن واجب قطعا، فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات، وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة، فإنما نزاعنا في معرفة مناط الاحكام بالرأي والاجتهاد، فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا، وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه، فننقل من ذلك بعضه وإن لم يمكن نقل الجميع، فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص، ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه وعلى علي وعلى العباس، إذ لو كان لنقل ولتمسك به المنصوص عليه ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة وفيهم علي رضي الله عنه، فلو كان منصوصا عليه وقد استصلحه له فلم تردد بينه وبين غيره، ومن ذلك قياسهم العهد على العقد، إذ ورد في الاخبار عقد الامامة بالبيعة، ولم ينص على واحد، وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ولم يرد فيه نص، ولكن قاسوا تعيين الامام على تعيين الامة لعقد البيعة، فكتب أبو بكر‏:‏ هذا ما عهد أبو بكر، ولم يعترض عليه أحد، ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال ما نعى الزكاة، حتى قال عمر‏:‏ فكيف تقاتلهم‏؟‏ وقد قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر‏:‏ ألم يقل إلا بحقها‏؟‏ فمن حقها إيتاء الزكاة، كما أن من حقها إقام الصلاة، فلا أفرق بين ما جمع الله، والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام‏؟‏ لقاتلتهم عليه، وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاؤوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص وقالوا‏:‏ إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات، لان صلاته كانت سكنا لنا، وصلاتك ليست بسكن لنا، إذ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 301‏)‏ فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص، وقاس أبو بكر والصحابة خليفة الرسول على الرسول، إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه والخليفة نائب في استيفاء الحقوق، ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه، ككتب المصحف، وجمع القرآن بين الدفتين، فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال‏:‏ كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام‏؟‏ حتى شرح الله له صدر أبي بكر، وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب، ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد والاخوة على وجوه مختلفة، مع قطعهم بأنه لا نص في المسألة التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها، وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي‏:‏ فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة‏:‏ أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، الكلالة ما عدا الوالد والولد، ومن ذلك أنه ورث أم الام دون أم الاب، فقال له بعض الانصار‏:‏ لقد ورثت امرأة من ميت، لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس‏.‏ ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء، فقال عمر‏:‏ لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل في الاسلام كرها فقال أبو بكر‏:‏ إنما أسلموا الله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ‏.‏ ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها، واجتهاد عمر أنه لولا الاسلام لما استحقوها، فيجوز أن يختلفوا، وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي، وقضى بآراء مختلفة، وقوله‏:‏ من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه، أي الرأي العاري عن الحجة، وقال لما سمع الحديث في الجنين‏:‏ لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولما قيل في مسألة المشتركة‏:‏ هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة‏؟‏ أشرك بينهم بهذا الرأي‏.‏ ومن ذلك أنه قيل لعمر‏:‏ إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور وخللها وباعها، فقال‏:‏ قاتل الله سمرة، أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فقاس عمر الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها‏.‏ وكذلك جلد أبا بكرة، لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا لكنه قاسه على القاذف، وقال علي رضي الله عنه اجتماع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع، ورأيت الآن بيعهن، فهو تصريح بالقول بالرأي‏.‏ وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الاشعري‏:‏ أعرف الاشباه والامثال، ثم قس الامور برأيك، ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الاحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أسد، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جمعا‏.‏ وقال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الاختين‏:‏ المملوكتين‏:‏ أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي‏.‏ ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب، من شرب هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري، وهو قياس للشرب على القذف، لانه مظنة القذف التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشئ منزلته، كما أنزل النوم منزلة الحدث والوطئ في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ونظائره، ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا‏.‏ وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول‏:‏ الامر في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم يكن شئ من ذلك فاجتهد رأيك‏.‏ ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجتهد رأيي عند فقد الكتاب والسنة فزكاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الاسنان لاختلاف منافعها، كيف لم يعتبروا بالاصابع وقال في العول‏:‏ من شاء باهلته الحديث، ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال‏:‏ لا أحسب كل شئ إلا مثله، وقال في المتطوع‏:‏ إذا بدا له الافطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ثم بدا له‏.‏ ومن ذلك قول زيد في الفرائض والحجب وميراث الجد، ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين قال ابن عباس‏:‏ أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي‏؟‏ فقال زيد‏:‏ أقول برأيي وتقول برأيك، فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور، وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلانه أغناه غيره عن الاجتهاد ولم يعترض عليهم في الرأي فانقعد اجماع قاطع على جواز القول بالرأي‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها، فلا يخلوا إما أن يكون فيها دليل قاطع لله على حكم معين أو لم يكن، فإن لم يكن وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد، وإن كان فمحال، إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه، ولو أظهره وكان قاطعا لما خالفه أحد، ولو خالفه لوجب تفسيقه وتأثيمه ونسبته إلى البدعة والضلال ولوجب منعه من الفتوى ومنع العامة من تقليده، هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله، وقد قال به قوم، وإن كنا لا نراه، وعلى الجملة‏:‏ فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا، وكان المحق بالسكوت عن المخالف، وترك دعوته إلى الحق فاسقا، فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم، وليس هذا كالعقليات، فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا، أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر، وقد قال أهل الظاهر‏:‏ إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه فلامه الثلث‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 11‏)‏ فمعقول هذا أن لابيه الثلثين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 9‏)‏ فمعقولة تحريم التجارة والجلوس في البيت، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تظلمون فتيلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 77‏)‏ و ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏)‏ و ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏ فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس، ولا يخفى هذا على عامي، فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل، هذا تمهيد الدليل وتمامه بدفع الاعتراضات، وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة، وهو قول النظام، وقد فرغنا من إثباته، وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس، من حيث أن ما ذكرناه منقول عن بعضهم، وليس للباقين إلا السكوت، وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي، وتارة يسلمون السكوت، لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض، لا على الموافقة في الرأي، وتارة يقرون بالإجماع، ولا يكترثون بتفسيق الصحابة، وتارة يردون رأيهم إلى العمومات، ومقتضى الالفاظ وتحقيق مناط الحكم دون القيا س، فهذه مدارك اعتراضتهم وهي خمسة‏.‏ الاعتراض الأول‏:‏ قال الجاحظ حكاية عن النظا‏:‏ إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من أعمال الرأي والقياس لم يقع بينهم التهارج والخلاف، ولم يسفكوا الدماء، لكن لما عدلوا عما كلفوا وتخيروا وتآمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا، وتورطوا فيما كان بينهم من القتل والقتال، وكذلك الرافضة بأسرهم زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا وغصبوا الحق أهله وعدلوا عن طاعة الامام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالاحكام إلى القيامة، فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف، وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي، ففسق وضل ونسبهم إلى الصلال ويدل على فساد قوله ما دل على أن الامة لا تجتمع على الخطأ، وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن والاخبار عليهم، كما تتركز في كتاب الامامة وكيف يعتقد العاقل القدح فمن أثنى الله ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام‏؟‏ الاعتراض الثاني‏:‏ قولهم لا يصح الرأي والقياس إلا من بعضهم وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم، فإن فيهم من لم يخض في القياس، وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض، قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم، كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير، ثم شرع في ثلب العبادلة وقال‏:‏ كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم، وأثنى على العباس والزبير، إذ تركا القول بالرأي ولم يشرعا، وقال الداودية‏:‏ لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي والتخطئة فيه، إذ قال أبو بكر‏:‏ أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي، وقال‏:‏ أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وقال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين‏:‏ إن اجتهدوا فقد أخطأوا، وإن لم يجتهدوا فقد غشوا، وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من شاء باهلته إن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين، وقال‏:‏ ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الاب أبا، وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة‏:‏ إن يك خطأ فمني ومن الشيطان، وقال عمر‏:‏ إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الاحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا‏.‏ وقال علي وعثمان رضي الله عنهما‏:‏ لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره، وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ اتهموا الرأي على الدين، فإن الرأي منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وقال أيضا‏:‏ إن قوما يفتون بآرائهم، ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون، وقال ابن مسعود‏:‏ قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان، وقال أيضا‏:‏ إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله، وحرمتم كثيرا مما أحله الله، وقال ابن عباس‏:‏ إن الله لم يجعل لاحد أن يحكم في دينه برأيه، وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 501‏)‏ ولم يقل‏:‏ بما رأيت، وقال‏:‏ إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ ذروني من أرأيت وأرأيت، وكذلك أنكر التابعون القياس‏.‏ قال الشعبي‏:‏ ما أخبروك عن أصحاب أحمد فأقبله، وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الجش أن السنة لم توضع بالمقاييس، وقال مسروق بن الاجدع‏:‏ لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به، وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة، كميراث الجد والاخوة وتعيين الامام بالبيعة، وجمع المصحف، والعهد إلى عمر الخلافة وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الامة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي، وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم وشجاعة علي، فجاوز الامر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد، وما نقلوه بخلافه، فأكثرها مقاطيع ومروية عن غير ثبت، وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه، فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله، ولو تساوت في الصحة لوجب إطراح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورة الصحابة واجتهادهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لو صحت هذه الروايات وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم، فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد، أو وضع الرأي في غير محله والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسخ على منوال سابق، وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال اتخذ الناس رؤساء جهالا، وقال‏:‏ لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال وأحلوا الحرام، فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي والقياس والمنكرون للقياس‏:‏ لا يقرون بصحة شئ منه أصلا، ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي والقياس، كقياس أصحاب الظاهر، إذا قالوا‏:‏ الاصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك، ولا تثبت الاصول بالظن فكذلك الفروع، وقالوا‏:‏ لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية، فقاسوا الشئ بما لا يشبهه، فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا، وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين‏.‏ الاعتراض الثالث‏:‏ أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين وإن ذلك لو كان باطلا لانكروه فنقول‏:‏ لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة، والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع، أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه، والدليل عليه أن مسائل الاصول فيها قواطع، وقد اختلف الاصوليون في صيغة الامر وصيغة العموم والمفهوم واستصحاب الحال وأفعال النبي عليه السلام، بل في أصل خبر الواحد، وأصل القياس، وأصل الإجماع وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي والاثبات، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين التأثيم والتفسيق فيها‏.‏ والجواب‏:‏ أن حمل سكوتهم على المجاملة والمصالحة واتقاء الفتنة محال لانهم اختلفوا في المسائل وتناظروا وتحاجوا ولم يتجاملوا، ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ولم ينكر بعضهم على بعض، ولو كان ذلك بالغا مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم والتفسيق كما فعلوا بالخوارج والروافض والقدرية وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم، وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال، فإن قول القائل لغيرة لست شارعا ولا مؤذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ليس كلاما خفيا عجز عن دركه الافهام، وكل من قاس بغير إذن فقد شرع، فلولا علمهم حقيقة بالاذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع واختراع الاحكام، وأما ما ذكروه من مسائل الاصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ولا في خبر الواحد ولا في الإجماع، بل أجمعوا عليه وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد، وأما العموم والمفهوم وصيغة الامر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الاصوليين، ولكن كانوا يتمسكون في مناظراتهم بالعموم والصيغة، ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للاحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة، فما جردوا النظر في هذه المسائل، كيف وقد قال بعض الفقهاء‏:‏ ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والإجماع أدلة قاطعة، بل هي في محل الاجتهاد، فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الاشكال، وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الاصوليين، فإن هذه أصول الاحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع، لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها، وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة، وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية‏.‏ الاعتراض الرابع‏:‏ قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد، فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر، واستصحاب حال ومفهوم لفظ، واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين، وصحة رد مقيد إلى مطلق، وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير على حكم العقل الأصلي، وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه، والحكم إذا صار معلوما بضابط، فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره، فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد، وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا، وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف، فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الاشخاص وا لاحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها، كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم، كقول ابن عباس في دية الاسنان‏:‏ كيف لم يعتبروا بالاصابع، إذ عللوا اختلاف دية الاسنان باختلاف منافعها، وذلك منقوض بالاصابع ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا وكذلك قول علي أيضا‏:‏ أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد، فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شئ مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا‏.‏ والجواب‏:‏ أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز والانصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن، لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الالفاظ وتحقيق مناط الاحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه، وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم، وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، فإنه قاس العهد على العقد بالبيعة، وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة، ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الاب قياسا على أم الام، وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة، وتصريح علي بالقياس على الافتراء في حد الشرب، ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس، وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ولا تنحصر، ولنعين مسألتين مشهورتين نقلنا على التواتر، وهي مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام، أما في قوله‏:‏ أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار وبعضهم بالطلاق وبعضهم باليمين، وكل ذلك قياس وتشبيه في مسألة لا نص فيها إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏(‏التحريم‏:‏ 1‏)‏ والنزاع وقع في المنكوحة، فكان من حقهم أن يقولوا‏:‏ هذه لفظة لا نص في النكاح، فلا حكم لها ويبقى الحل والملك مستمرا، كما كان، لان قطع الحل والملك، أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو قياس على منصوص، ولا نص والقياس باطل، فلا حكم، فلم قاسوا المنكوحة على الامة‏؟‏ ولم قاسوا هذا اللفظ على لقظ الطلاق وعلى لفظ الظهار وعلى لفظ اليمين‏؟‏ ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها، وكذلك الجد وحده عصبة بالنص والاخ وحده عصبة ولا نص عند الاجتماع، فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وصرح من قدم الجد، وقال ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا، وصرح من سوى بينهما بأن الاخ يدلي بالاب والجد أيضا يدلي به والمدلي به واحد والادلاء مختلف، فقاسوا الادلاء بجهة الابوة على الادلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الابوة في أحكام وكذلك قال زيد في مسألة زوج وأبوين للام ثلث ما بقي، فقال ابن عباس‏:‏ أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي، فقال‏:‏ أقول برأيي وتقول برأيك، فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج‏.‏ إذ يكون للاب ضعف ما للام، فقال نقدر كأن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال، ونقدر كأن الزوج لم يكن وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض وغيرها علم ضرورة سلوكم طرق المقايسة والتشبيه، وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص وغيره ورأوا جامعا وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الاقوى الاغلب، فإنا نعلم أنهم ما طلبوا المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لاتحدت المسألة ولم تتعدد فيبطل التشبيه والمقايسة، وكانوا لا يكتفون بالاشتراك في أي وصف كان، بل في وصف هو مناط الحكم وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد والخلاف مجال، فكانوا يدركون ذلك بظنون وأمارات ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل‏.‏ الاعتراض الخامس‏:‏ أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال، وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام فيجب إظهار مستندهم والتمسك به، فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ووضعوه، ونحن نسلم وجوب الاتباع فيما سمعوه، فإنه إذا قال عليه السلام‏:‏ إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الاوصاف فاتبعوه، فإن الامر كما ظننتموه، أو حكم الظان على ما ظنه، فهي علامة في حقه، وغير علامة في حق من ظنه بخلافه، فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به، فإنه إذا قال إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار، واعلموا أني حرمت الربا في البر لكنا، نقطع بتحريم البر وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار، فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس، ولكن من أين فهم الصحابة هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه‏.‏ والجواب من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذه مؤونة كفيناها، فإنهم مهما أجمعوا على القياس، فقد ثبت بالقواطع أن الامة لا تجتمع على الخطأ، بل لو وضعوا القياس واخترعوا استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الاتباع، فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ، فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم‏.‏ الثاني‏:‏ هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر، وعن دلالات وقرائن أحوال وتكريرات وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد وبالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم، لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس، فلم ينقل اكتفاء بما علمته الامة ضرورة، وإلى ما نقل، ولكن لم يبق في هذه الاعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر، ولا يورث العلم وإلى ما تواتر ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه، فلا يحصل العلم بآحادها، وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها، فلم ينقل إلينا، فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه عل التواتر من إجماعهم، ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والالفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس، وذلك من القرآن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الابصار‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 2‏)‏ إذ معنى الاعتبار العبور من الشئ إلى نظيره إذا شاركه في المعنى، كما قال ابن عباس‏:‏ هلا اعتبروا بالاصابع‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 83‏)‏ وليس في الكتاب مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب، وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات، وليست مرضية، لانها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن، ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ‏:‏ بم تحكم قال‏:‏ بكتاب الله وسنة نبيه، قال‏:‏ فإن لم تجد‏؟‏ قال أجتهد رأيي، فقال‏:‏ الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وهذا حديث تلقته الامة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا، وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده، وهذا كقوله‏:‏ لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين وغير ذلك مما علمت به الامة كافة، إلا أنه نص في أصل الاجتهاد، ولعله في تحقيق المناط وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة، فلا يتناول القياس إلا بعمومه، ومن ذلك قوله لعمر حين تردد في قبلة الصائم‏:‏ أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح‏؟‏ فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ فلم إذا‏؟‏ فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب، لكنه ليس بصريح إلا بقرينه، إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشئ بالشئ فقال إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص لانه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب، ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية‏:‏ أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه‏؟‏ قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ فدين الله أحق بالقضاء فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق، ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا، إذ لو كان لتعلم القياس لقيس عليه السلام الصوم والصلاة ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي لاجل الدافة - أي القافلة -‏:‏ فادخروا فبين أنه وان سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة وقد زالت العلة فزال الحكم، ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ أينقض الرطب إذا يبس‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم قال‏:‏ فلا إذا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 7‏)‏ وقال لام سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم‏:‏ ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم‏؟‏ تنبيها على قياس غيره عليه، وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال‏:‏ أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي ودل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 501‏)‏ وليس الرأي إلا تشبيها وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشئ وأشبه به، وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالامر وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالامر، وقال عمر‏:‏ يا أيها الناس، إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا، فإن الله تعالى كان يسدده، وإنما هو منا الظن والتكلف، فلم يفرق إلا في العصمة، ومن ذلك أمره سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه، فأمرهم بالنزول على حكمه، فأمر بقتلهم وسبي نسائهم، فقال عليه السلام‏:‏ لقد وافق حكمه حكم الله ومن ذلك قوله‏:‏ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران ومن ذلك أنه عليه السلام شاور الصحابة في عقوبة الزنا والسرقة قبل نزول الحد ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها، واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار وباعها، ومن تعليلاته بعض الاحكام كقوله‏:‏ لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا وقوله في الشهداء مثل لك، وقوله‏:‏ أنها من الطوافين عليكم والطوافات وقوله في الذي ابتاع غلاما واستغفله ثم رده الخراج بالضمان فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر، وآحادها لا تدل دلالة قاطعة، ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في أشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس والله أعلم‏.‏ القول في شبه المنكرين للقياس والصائرين إلى حظره من جهة الكتاب والسنة وهي سبع الأولى‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 83‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تبيانا لكل شئ‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 98‏)‏ قالوا‏:‏ معناه بيانا لكل شئ مما شرع لكم، فإنه ليس فيه بيان الاشياء كلها، فليكن كل مشروع في الكتاب، وما ليس مشروعا فيبقى على النفي الأصلي والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه أين في كتاب الله تعالى مسألة الجد والاخوة والعول والمبتوتة والمفوضة، وأنت علي حرام، وفيها حكم لله تعالى شرعي اتفق الصحابة على طلبه، والكتاب بيان له، إما بتمهيد طريق الاعتبار، أو بالدلالة على الإجماع والسنة، وقد ثبت القياس بالإجماع والسنة، فيكون الكتاب قد بينه‏.‏ الثاني‏:‏ أنكم حرمتم القياس، وليس في كتاب الله تعالى بيان تحريمه، فيلزمكم تخصيص قوله تعالى لكل شئ كما خصص قوله‏:‏ ‏{‏خالق كل شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 201‏}‏ ‏(‏وأوتيت من كل شئ‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 32‏}‏ ‏(‏تدمر كل شئ‏}‏ ‏(‏الاحقاف‏:‏ 52‏)‏‏.‏ الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كفارة‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 94‏)‏ وهذا حكم بغير المنزل‏؟‏ قلنا‏:‏ القياس ثابت بالسنة والإجماع، وقد دل عليه الكتاب المنزل كيف ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل، ثم هذا خطاب مع الرسول عليه السلام وقد قاسوا عليه غيره، فأقروا بالقياس في معرض إبطال القياس مع انقداح الفرق إذ قال قوم‏:‏ لم يجز الاجتهاد للرسول عليه السلام كي لا يتهم، ولانه كان يقدر على التبليغ بالوحي بخلاف الامة، وهذا الجواب أيضا عن قوله‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 3‏}‏ ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44، 45، 47‏)‏‏.‏ الثالثة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 961، الاعراف‏:‏ 33‏}‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏}‏ ‏(‏وإن الظن لا يغني من الحق شيئا‏}‏ ‏(‏النجم‏:‏ 82‏)‏ و ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 21‏)‏ قلنا‏:‏ إذا علمنا أنا إذا ظننا كون زيد في الدار حرم علينا الربا في البر، ثم ظننا كان الحكم مقطوعا به لا مظنونا، كما إذا ظن القاضي صدق الشهود، وكما في القبلة وجزاء الصيد وأبواب تحقيق مناط الحكم، ثم نقول‏:‏ هذا عام أراد به ظنون الكفار المخالفة للأدلة القاطعة، ثم نقول ألستم قاطعين بإبطال القياس مع أنا نقطع بخطئكم فلا تحكموا بالظن، وليس من الجواب المرضي قول القائل‏:‏ الظن علم في الظاهر فإن العلم ليس له ظاهر وباطن‏.‏ الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 121‏)‏ قالوا‏:‏ وأنتم تجادلون في القياس‏؟‏ قلنا‏:‏ وأنتم تجادلون في نفيه وإبطاله، فإن قلتم‏:‏ أراد به الجدال الباطل فهو عذرنا، فإنه رد عليهم في جدالهم، بخلاف النص حيث قالوا‏:‏ نأكل ما قتلناه ولا نأكل مما قتله الله، وكما قاسوا الربا على البيع فرد الله تعالى عليهم في قولهم‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 572‏)‏‏.‏ الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏تعلمها‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ قالوا‏:‏ وأنتم تردون إلى الرأي، قلنا‏:‏ لا بل نرده إلى العلل المستنبطة من نصوص النبي عليه السلام، والقياس عباره عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم، وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم، وأنتم‏:‏ فقد رددتم القياس من غير رد إلى نص النبي عليه السلام ولا إلى معنى مستنبط من النص‏.‏ السادسة‏:‏ قوله عليه السلام تعمل هذه الامة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا قلنا‏:‏ أراد به الرأي المخالف للنص، بدليل قوله‏:‏ ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وما نقلوا من آثار الصحابة في ذم الرأي والقياس قد تكلمنا عليه‏.‏ السابعة‏:‏ قول الشيعة وأهل التعليم‏:‏ إنكم اعترفتم ببطلان القياس بخلاف النص، والنصوص محيطة بجميع المسائل، وإنما يعلمها الامام المعصوم، وهو نائب الرسول، فيجب مراجعته، قالوا‏:‏ ولا يمنع من هذا كون الوقائع غير متناهية، وكون النصوص متناهية لان التي لا تتناهى أحكام الاشخاص، كحكم زيد وعمرو في أنه عدل تقل شهادته أم لا، وفقير تصرف إليه الزكاة أم لا، ومسلم أن هذا يعرف بالاجتهاد، لانه يرجع إلى تحقيق مناط الحكم، أما الروابط الكلية للاحكام فيمكن ضبطها بالنص بأن نقول مثلا‏:‏ من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فيلزمه القطع، ومن أفطر في نهار رمضان بجماع تام أثم به لاجل الصوم لزمته الكفارة، فما تناولته الرابطة الجامعة يجري فيه الحكم، وما خرج عنه مما لا يتناهى يبقى على الحكم الأصلي، فتكون محيطة بهذه الطرق‏.‏ والجواب‏:‏ أنا لا نسلم بطلان القياس مع النص، ونسلم إمكان الربط بالضوابط والروابط الكلية، لكنكم اخترعتم هذه الدعوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الجد والحرام والمفوضة و مسائل كثيرة وكانوا يطلبون من سمع فيها حديثا من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم المعصوم بزعمكم وكانوا يشاورونه ويراجعونه، فتارة وافقوه وتارة خالفوه، ولم ينقل قط حديث ولا نص إلا ساعدوه، بل قبلوا النقل من كل عدل، فضلا عن الخلفاء الراشدين فلم كتم النص عنهم في بعض المسائل وتركهم مختلفين إن كانت النصوص محيطة، فبلضرورة يعلم من اجتهادهم واختلافهم أن النصوص لم تكن محيطة، فدل هذا أنهم كانوا متعبدين بالاجتهاد‏.‏ القول في شبههم المعنوية وهي ست‏:‏ الأولى‏:‏ قول الشيعة والتعليمية‏:‏ إن الاختلاف ليس من دين الله، ودين الله واحد ليس بمختلف، وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة، الرأي منبع الخلاف فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشئ ونقيضه دينا، وإن كان المصيب واحدا فهو محال، إذ ظن، هذا كظن ذاك، والطنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ورب كلام تميل إليه نفس زيد وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو، والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 28‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم‏}‏ ‏(‏الانفام‏:‏ 46‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 159‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 501‏)‏ وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا، وسمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد والثوبين، فصعد عمر إلى المنبر وقال‏:‏ اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون، لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت‏.‏ وقال جرير بن كليب‏:‏ رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها، فقلت‏:‏ إن بينكما لشرا، فقال علي‏:‏ ما بيننا إلا خير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي‏.‏ والجواب‏:‏ أن الذي نراه تصويب المجتهدين، وقولهم أن الشئ ونقيضه كيف يكون دينا، قلنا يجوز‏:‏ ذلك في حق شخصين، كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر، والقبلة في حق، من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة، وكجواز ركوب البحر وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة وعلى ظن الآخر الهلاك، وكتصديق الراوي والشاهد وتكذيبهما في حق قاضيين ومفتيين يظن أحدهما الصدق والآخر الكذب، وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به‏؟‏ قلنا‏:‏ بل يؤمر المجتهد بظنه، وإن خالفه غيره فليس رفعه داخلا تحت اختياره، فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 28‏)‏ معناه التناقض والكذب الذي يدعيه الملحدة، أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ونثره، وليس المراد به نفي الاختلاف في الاحكام، لان جميع الشرائع والملل من عند الله، وهي مختلفة، والقرآن فيه أمر ونهي وإباحة ووعد ووعيد، وأمثال ومواعظ وهذه اختلافات، أما قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتفرقوا‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏}‏ ‏(‏ولا تنازعوا‏}‏ فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد والايمان بالنبي عليه السلام والقيام بنصرته، وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعدما جاءهم البينات‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 501‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 64‏)‏ أراد به التخاذل عن نصرة الدين، وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف، فكيف يصح وهم أول المختلفين والمجتهدين، واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا، كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين، أو في أمر الخلافة والامامة والخلاف بعد الإجماع، أو الاختلاف على الائمة والولاة والقضاة، أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي وليسوا أهل الاجتهاد‏؟‏ وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد، ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع، ولذلك قال عمر‏:‏ عن أي فتياكم يصدر المسلمون وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام، أو لعل كل واحد أثم صاحبه وبالغ فيه، فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله، أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد، فتحير السائل فقال، عن أي فتياكم يصدر الناس، أي العامة، بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا للعامي فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه فيتحير السائل، وأما اختلاف عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح، بل صح عن علي نقله تحريم متعة النساء ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر كيف وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد، أما كتاب علي إلى قضاته وكراهية الاختلاف فيحتمل وجوها‏:‏ أحدها‏:‏ أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال‏:‏ اقضوا كما كنتم تقضون، إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتق آخر وحمل ذلك على تعصب مني ومخالفة، ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض، بعد فيجوز الخلاف، فكره لهم مخالفة السابقين، واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب لانهم حاربوا على تأويل وفي رد شهادتهم تعصب وتجديد خلاف‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم النفي الأصلي معلوم، والاستثناء عنه بالنص معلوم فيبقى المسكوت عنه على النفي الأصلي المعلوم، فكيف يندفع المعلوم‏:‏ على القطع بالقياس المظنون‏؟‏ قلنا‏:‏ العموم والظواهر وخبر الواحد وقول المقوم في أروش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الشهود وصدق المخالف في مجلس الحكم، كل ذلك مظنون، ويرفع به النفي الأصلي، ثم نقول‏:‏ نحن لا نرفع ذلك إلا بقاطع، فإنا إذا تعبدنا بإتباع العلة المظنونة وظننا فنقطع بوجود الظن، ونقطع بوجود الحكم عند الظن فلا يرفع ذلك إلا بقاطع‏.‏ الثالثة‏:‏ قولهم كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد، والفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات، إذ قال يغسل الثوب من بول الصبية ويرش من بول الصبي، ويجب الغسل من المني والحيض، ولا يجب من البول والمذي، وفرق في حق الحائض بين قضاء الصلاة والصوم، وأباح النظر إلى الرقيقة دون الحرة، وجمع بين المختلفات فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ، وفرق في حلق الشعر والتطيب بين العمد والخطأ، وأوجب الكفارة بالظهار، والقتل واليمين والافطار، وأوجب القتل على الزاني والكافر والقاتل وتارك الصلاة، وقال لابي بردة‏:‏ تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك في الاضحية‏.‏ وقيل للنبي عليه السلام‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ ‏(‏الاحزاب‏:‏ 50‏)‏ وكيف يتحاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق، وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكون ذلك تحكما وتعبدا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا ننكر إشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات، فلا جرم نقول‏:‏ الاحكام ثلاثة أقسام‏:‏ قسم لا يعلل أصلا، وقسم يعلم كونه معللا، كالحجر على الصبي، فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه، ونحن لا نقيس ما لم يقم لنا دليل على كون الحكم معللا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وعند ذلك يندفع الاشكال المذكور، ولما كثرت التعبدات في العبادات لم يرتضى قياس غير التكبير والتسليم والفاتحة عليها، ولا قياس غير المنصوص في الزكاة على المنصوص، وإنما نقيس في المعاملات وغرامات الجنايات، وما علم بقرائن كثيرة بناؤها على معان معقولة ومصالح دنيوية‏.‏ الرابعة‏:‏ قولهم إن النبي عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم، فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم، ويعدل إلى الطويل الموهم، فيعدل عن قوله‏:‏ حرمت الربا في كل مطعوم أو كل مكيل إلى عد الاشياء الستة ليرتبك الخلق في ظلمات الجهل‏؟‏ قلنا‏:‏ ولو ذكر الاشياء الستة وذكر معها أن ما عداها لا ربا فيه وأن القياس حرام فيه، لكان ذلك أصرح، وللجهل والاختلاف أدفع، فلم لم يصرح وقد كان قادرا ببلاغته على قطع الاحتمال للالفاظ العامة والظواهر وعلى أن يبين الجميع في القرآن المتواتر، ليحسم الاحتمال عن المتن والسند جميعا، وكان قادرا على رفع احتمال التشبيه في صفات الله تعالى بالتصريح بالحق في جميع ما وقع الخلاف فيه في العقليات، وإذا لم يفعل فلا سبيل إلى التحكم على الله ورسوله فيما صرح ونبه وطول وأوجز، والله أعلم بأسرار ذلك كله، ثم نقول‏:‏ إن علم الله تعالى لطفا وسرا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير عن ساق الجد في استنباط أسرار الشرع فيتعين عليه أن يذكر البعض ويسكت عن البعض، وينبه عليها تنبيها يحرك الدواعي للاجتهاد‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 11‏)‏ هذا على مذهب من يوجب الصلاح وعندنا فلله تعالى أن يفعل بعباده ما يشاء‏.‏ الخامسة‏:‏ قولهم أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة، فكيف يثبت في الفرع، بالعلة وهو تابع للاصل، فكيف يكون ثبوت الحكم فيه بطرق سوى طريق الامل، وأن ثبت في الأصل بالعلة فهو محال، لان النص قاطع، والعلة مظنونة، والحكم مقطوع به، فكيف يحال المقطوع به على العلة المظنونة‏؟‏ قلنا‏:‏ الحكم في الأصل يثبت بالنص، وفائدة استنباط العلة المظنونة إما تعدية العلة وأما الوقوف على مناط الحكم المظنون للمصلحة، وأما زوال الحكم عند زوال المناط كما سيأتي في العلة القاصرة، وأما الحكم في الفرع وإن كان تابعا للاصل في الحكم فلا يلزم أن يتبعه في الطريق، فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات، ولا يلزم مساواة الفرع لها في الطريق، وإن لزمت المساواة في الحكم‏.‏ السادسة‏:‏ وهي عمدتهم الكبرى أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها، فلو قال الشارع‏:‏ اتقوا الربا في كل مطعوم، فهو توقيف عام، ولو قال‏:‏ اتقوا الربا في البر لانه مطعوم، فهذا لا يساويه ولا يقتضي الربا في غير البر، كما لو قال المالك‏:‏ أعتق من عبيدي كل أسود، عتق كل أسود، فلو قال‏:‏ أعتق غانما لسواده، أو لانه أسود، لم يعتق جميع عبيده السود، وكذلك لو علل بمخيل وقال‏:‏ أعتقوا غانما لانه سئ الخلق حتى أتخلص منه، لم يلزم عتق سالم، وإن كان أسوأ خلقا منه، فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها، فالمستنبطة كيف تعدى أو كيف يفرق بين كلام الشارع وبين كلام غيره في الفهم، وإنما منهاج الفهم وضع اللسان وذلك لا يختلف‏.‏ والجواب‏:‏ أن نفاة القياس ثلاث فرق، وهذا لا يستقيم من فريقين، وإنما يستقيم من الفريق الثالث‏.‏ إذ منهم من قال‏:‏ التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام، فإنه لا فرق بين قوله‏:‏ حرمت الخمر لشدتها، وبين قوله‏:‏ حرمت كل مشتد، في أن كل واحد‏:‏ يوجب تحريم النبيذ، لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس، بل فائدة قوله‏:‏ لشدتها، إقامة الشدة مقام الاسم العام فقد أقر هذا القائل بالالحاق، وإنما أنكر تسميته قياسا‏.‏ الفريق الثاني من القاشانية والنهروانية فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا‏:‏ إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها، وما فارقهم الفريق الأول‏:‏ إلا في التسمية، حيث لم يسموا هذا الفن قياسا، والفريقان مقران بأن هذا في العتق والوكالة لا يجري، فلا يصح منهما الاستشهاد مع الاقرار بالفرق‏.‏ أما الفريق الثالث وهو من أنكر الالحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة‏.‏ وجوابهم من ثلاثة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ ان الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية فقال‏:‏ لو قال أعتقت هذا العبد لسواده، فاعتبروا وقيسوا عليه كل أسود، لعتق كل عبد أسود، وهو وزان مسألتنا، إذا أمرنا بالقياس والاعتبار، ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد، التنصيص على العلة لا يرخص في الالحاق، إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة، ومنهم من قال‏:‏ إن علم قطعا قصده إلى عتقه لسواده عتق كل عبد أسود بقوله‏:‏ أعتقت غانما لسواده، ومنهم من قال‏:‏ لا يكفي أن يعلم قصده عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان، فإن نوى كفاه هذا اللفظ لاعتاق جميع السودان مع النية، ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص، وذلك غير منكر، كما لو قال‏:‏ والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائة جرعة، ونوى به دفع المنة، حنث بأخذ الدراهم والثياب والامتعة، وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام، كما صلح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 01‏)‏ للنهي عن الاتلاف العام‏:‏ وقوله ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏ للنهي عن الايذاء العام، فإذا استتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم المجردة، ولكنه غير مرضي عندنا، بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله‏:‏ أعتقت غانما لسواده، وإن نوى عتق السودان، لانه يبقى في حق غير غانم مجرد النية والارادة فلا تؤثر‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ من الجواب أن الامة مجمعة على الفرق، إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال‏:‏ حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد، ولو قال‏:‏ أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود، اقتصر العتق على غانم عند الاكثرين، فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق، وإنما اعترفوا بالفرق لان الحكم لله في أملاك العباد، وفي أحكام الشرع وقد علق أحكام الاملاك حصولا وزوالا بالالفاظ دون الارادات المجردة، وأما أحكام الشرع فتتبت بكل ما دل على رضا الشرع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه وثبت الحكم به، فكيف يتساويان، بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الالفاظ، فإنه لو قال الزوج‏:‏ فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق، فإذا تلفظ بالطلاق وقع وإن نوى غير الطلاق، فإذا لم تحصل الاحكام بجميع الالفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ أن قول القائل‏:‏ لا تأكل هذه الحشيشة لانها سم ولا تأكل الهليلج فإنه مسهل، ولا تأكل العسل فإنه حار، ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد، ولا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل، ولا تجالس فلانا فإنه أسود، فأهل اللغة متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العله هذا مقتضى اللغة، وهذا أيضا مقتضاه في العتق، لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل، لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل، ولا مانع منه في الشرع، إذ كل ما عرف بإشارة وأمارة وقرينة فهو كما عرف باللفظ، فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق، لان المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات، فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ويطلب منه الجامع، ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما، فإن قيل‏:‏ إن قال من تجب طاعته‏:‏ بع هذه الدابة لجماحها، وبع هذا العبد لسوء خلقه، فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة‏؟‏ فإن قلتم يجوز، فقد خالفتم الفقهاء، وإن منعتم فما، الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين‏؟‏ وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة‏.‏ قلنا‏:‏ أن كان قد قال له إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله، فله أن يفعل ذلك، وهو وزان حكم الشرع، لكن يشترط أمر آخر وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة، فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة، فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف، فإن اجتمع هذه الشروط جاز التصرف وهو وزان مسألتنا، فإن قيل‏:‏ وإن كان الشارع قد قال‏:‏ ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح فلم يقل إني إذا ذكرت علة شئ ذكرت تمام أوصافه، فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة، ولله أسرار في الاعيان، فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الاهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لخواص، لا يطلع عليها، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ، فبماذا يقع الامر عن هذا، وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس والجواب‏:‏ أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها، كقوله‏:‏ أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه، وقوله‏:‏ من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالامة في معناه، لانا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع إمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للانوثة في البيع والعتق، وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه، وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن، فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع، ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه، وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطيعة لما اختلفوا فيها، فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس