مسألة (الفرق بين الفساد والبطلان) الذين اتفقوا على أن النهي عن التصرفات لا يدل على فسادها، اختلفوا في أنه هل يدل على صحتها؟ فنقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه يدل على الصحة، وأنه يستدل بالنهي عن صوم يوم النحر على انعقاده، فإنه لو استحال انقعاد لما نهي عنه فإن المحال لا ينهي عنه، كما لا يؤمر، فلا يقال للاعمى: لا تبصر، كما لا يقال له: أبصر فزعموا أن النهي عن الزنا يدل على انعقاده، وهذا فاسد، لانا بينا أن الامر بمجرده لا يدل على الاجزاء والصحة، فكيف يدل عليه النهي؟ بل الامر والنهي يدل على اقتضاء الفعل واقتضاء الترك فقط، أو على الوجوب والتحريم فقط، أما حصول الاجزاء والفائدة أو نفيهما فيحتاج إلى دليل آخر، واللفظ من حيث اللغة غير موضوع لهذه القضايا بالشرعية، وأما من حيث الشرع فلو قال الشارع: إذا نهيتكم عن أمر أردت به صحته لتلقيناه منه، ولكنه لم يثبت ذلك صريحا لا بالتواتر ولا بنقل الآحاد، وليس من ضرورة المأمور أن يكون صحيحا مجزئا فكيف يكون من ضرورة المنهي ذلك، فإذا لم يثبت ذلك شرعا ولغة وضرورة بمقتضى اللفظ فالمصير إليه تحكم، بل الاستدلال به على فساده أقرب من الاستدلال به على صحته، فإن قيل: المحال لا ينهي عنه، لان الامر كما يقتضي مأمورا يمكن امتثاله، فالنهي يقتضي منهيا يمكن ارتكابه، فصوم يوم النحر إذا نهى عنه ينبغي أن يصح ارتكابه ويكون صوما، فاسم الصوم للصوم الشرعي لا للامساك. فإنه صوم لغة لا شرعا، والاسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع هذا هو الأصل، ولا يلزم عليه قوله: دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} النساء: 22) لانه حمل النكاح والصلاة بالمعنى اللغوي على خلاف الوضعي بدليل دل عليه، ولا يلزم عليه قوله عليه السلام: لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود، لان ذلك نفي، وليس نهيا، قلنا: الأصل أن الاسم لموضوعه اللغوي إلا ما صرفه عنه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الاوامر أنه يستعمل الصوم والنكاح والبيع لمعانيها الشرعية، أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع، بدليل قوله: دعي الصلاة أيام أقرائك {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} وأمثال هذه المناهي مما لا ينعقد أصلا، ولم يثبت فيه عرف استعمال الشرع، فيرجع إلى أصل الوضع، ونقول: إذا تعارض فيه عرف الشرع والوضع فمن صام يوم النحر فقد ارتكب النهي وإن لم ينعقد صومه، ويكون هذا أولى، لان مذهبهم يفضي إلى صرف النهي عن ذلك المنهي عنه إلى غيره. فإنه لو كان منهيا في عينه استحال أن يكون عبادة منعقدة، ومطلق النهي عن الشئ يدل على النهي عن عينه إلا أن يدل دليل، فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة، فإن قيل: فإذا اخترتم أن النهي لا يدل على الصحة ولا على الفساد في أسباب المعاملات، فما قولكم في النهي عن العبادات؟ قد بينا أن النهي يضاد كون المنهي عنه قربة وطاعة، لان الطاعة عبارة عما يوافق الامر، والامر والنهي متضادان، فعلى هذا صوم يوم النحر لا يكون منعقدا إن أريد بانعقاده كونه طاعة وقربة وامتثالا، لان النهي يضاده، وإذالم يكن قربة لم يلزم بالنذر، إذ لا يلزم بالنذر ما ليس بقربة نعم: لو أمكن صرف النهي عن عين الصوم إلى ترك إجابة دعوة الله تعالى فذلك لا يمنع انعقاده، ولكن ذلك أيضا فاسد كما سبق في القطب الأول، وإن قيل فقد حمل بعض المناهي في الشرع على الفساد دون البعض، فما الفصل؟ قلنا: النهي لا يدل على الفساد وإنما يعرف فساد العقد والعبادة بفوات شرطه وركنه، ويعرف فوات الشرط إما بالإجماع كالطهارة في الصلاة وستر العورة واستقبال القبلة، وإما بنص، وإما بصيغة النفي كقوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود فذلك ظاهر في النفي عند عدم الشرط، وأما القياس على منصوص فكل نهي يتضمن ارتكابه الاخلال بالشرط فيدل على الفساد من حيث الاخلال بالشرط لا من حيث النهي، وشرط المبيع أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه معينا، أما كونه مرئيا ففي اشتراطه خلاف، وشرط الثمن أن يكون مالا معلوم القدر والجنس، وليس من شرط النكاح الصداق، فلذلك لم يفسد بكون النكاح على خمر أو خنزير أو مغصوب وإن كان منهيا عنه، ولا فرق بين الطلاق السني والبدعي في شرط النفوذ وإن اختلفا في التحريم، فإن قيل: فلو قال قائل: كل نهي رجع إلى عين الشئ فهو دليل الفساد دون ما يرجع إلى غيره، فهل يصح؟ قلنا: لا، لانه لا فرق بين الطلاق في حال الحيض والصلاة في الدار المغصوبة، لانه إن أمكن أن يقال: ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل لوقوعه في حال الحيض، ولوقوعها في الدار المغصوبة، أمكن تقدير مثله في الصلاة في حال الحيض، فلا اعتماد إلا على فوات الشرط، ويعرف الشرط بدليل يدل عليه وعلى ارتباط الصحة به، ولا يعرف بمجرد النهي، فإنه لا يدل عليه وضعا وشرعا كما سبق في المسألة التي قبلها، وهذا القدر كاف في صيغة الامر والنهي فإن ما يتعلق منه بحقيقة الوجوب والتحريم ويضادهما ويوافقهما فقد ميزناه عما يتعلق بمقتضى الصيغة وقررناه في القطب الأول عند البحث عن حقيقة الحكم، فإن ذلك نظر عقلي وهذا نظر لغوي من حيث دلالة الالفاظ فلذلك ميزناه على خلاف عادة الاصوليين.
القسم الرابع من النظر في الصيغة القول في العام والخاص
ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب:
المقدمة
القول في حد العام والخاص ومعناهما أعلم أن العموم والخصوص من عوارض الالفاظ لامن عوارض المعاني والافعال. والعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل الرجال والمشركين ومن دخل الدار فأعطه درهما، ونظائره كما سيأتي تفصيل صيغ العموم، واحترزنا بقولنا: من جهة واحدة، عن قولهم: ضرب زيد عمرا، وعن قولهم: ضرب زيدا عمرو، فإنه يدل على شيئين، ولكن بلفظين لا بلفظ واحد، ومن جهتين لا من جهة واحدة، وأعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقا كقولك: زيد وهذا الرجل، وإما عام مطلقا كالمذكور والمعلوم، إذ لا يخرج منه موجود ولا معدوم، وإما عام بالاضافة كلفظ المؤمنين، فإنه عام بالاضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالاضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين فكأنه يسمى عاما من حيث شموله لما شمله خاصا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله، ومن هذا الوجه يمكن أن يقال: ليس في الالفاظ عام مطلق، لان لفظ المعلوم لا يتناول المجهول، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه، فإن قيل: فلم قلتم، إن العموم من عوارض الالفاظ لا من عوارض المعاني والافعال، والعطاء فعل، وقد يعطي عمرا وزيدا وتقول عممهما بالعطاء، والوجود معنى، وهو يعم الجواهر والاعراض، قلنا: عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو من حيث أنه فعل، فليس في الوجود فعل واحد هو عطاء، وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة، وكذلك وجود السواد يفارق وجود البياض، وليس الوجود معنى واحدا حاصلا مشركا بينهما وإن كانت حقيقته واحدة في العقل وعمو الناس وقدرهم وإن كانت مشتركة في كونها علما وقدرة لا يوصف بأنه عموم، فقولنا: الرجل له وجود في الاعيان وفي الاذهان وفي اللسان، أما وجوده في اللسان فلقط الرجل قد وضع للدلالة ونسبته في الدلالة إلى زيد وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة، وأما ما في الاذهان من معنى الرجل فيسمى كليا من حيث أن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الانسان وحقيقة الرجل، فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو والذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا، فهذا معنى كليته، فإن سمي عاما بهذا فلا بأس، فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: هذا عام مخصوص، وهذا عام قد خصص؟ قلنا: لا، لان المذاهب ثلاثة: مذهب أرباب الخصوص، ومذهب أرباب العموم، ومذهب الواقفية. أما أرباب الخصوص: فإنهم يقولون: لفظ المشركين مثلا موضوع لاقل الجمع، وهو للخصوص، فكيف يقولون إنه عموم قد خصص. وأما أرباب العموم: فيقولون: هو الاستغراق، فإن أريد به البعض فقد تجوز به عن حقيقته ووضعه، فلم يتصرف في الوضع ولم يغير حتى يقال إنه خصص العام أو هو عام مخصوص. وأما الواقفية: فإنهم يقولون: إن اللفظ مشترك، وإنما ينزل على خصوص أو عموم بقرينة وإرادة معينة، كلفظ العين، فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له، لا أنه عام قد خصص، وإن أريد به العموم فهو موضوع له، لا أنه خاص قد عمم فإذا هذا اللفظ مؤول، على كل مذهب، فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص، وهذا على مذهب الوقف، وعلى مذهب الاستغراق أن وضعه للعموم واستعمل في غير وضعه مجازا فهو عام بالوضع، خاص بالارادة والتجوز، وإلا فالعام والخاص بالوضع لا ينقلب عن وضعه بإرادة المتكلم فإن قيل: فما معنى قولهم: خصص فلان عموم الآية والخبران كان العام لا يقبل التخصيص؟ قلنا: تخصيص العام محال كما سبق، وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لارادة العموم الخصوص، فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذلك أنه خصص العموم، أي عرف أنه أريد به الخصوص، ثم من لم يعرف ذلك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمى مخصصا، وإنما هو معرف ومخبر عن إرادة المتكلم، ومستدل عليه بالقرائن، لا أنه مخصص بنفسه، هذه هي المقدمة. أما الابواب فهي خمسة: الباب الأول: في أن العموم هل له صيغة أم لا واختلاف المذاهب فيه. الباب الثاني: في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن. الباب الثالث: في تفصيل الأدلة المخصصة. الباب الرابع: في تعارض العمومين. الباب الخامس: في الاستثناء والشرط.
الباب الأول في أن العموم هل له صيغة في اللغة أم لا؟
ولنشرح أولا صيغ العموم عند القائلين بها، ثم اختلاف المذاهب، ثم أدلة أرباب الخصوص، ثم أدلة أرباب العموم، ثم أدلة أرباب الوقف، ثم المختار فيه عندنا، ثم حكم العام عند القائلين به إذا دخله التخصيص فهذه سبعة فصول في صيغ العموم. وأعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع: الأول: ألفاظ الجموع، أما المعرفة كالرجال والمشركين، وأما المنكرة كقولهم: رجال ومشركون، كما قال تعالى: {ما لنا لا نرى رجالا} (ص: 26) والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود كقولهم: أقبل الرجل والرجال، أي المعهودون المنتظرون. الثاني: من وما إذا ورد للشرط والجزاء، كقوله عليه السلام: من أحيا أرضا ميتة فهي له. وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه وفي معناه متى وأين للمكان والزمان، كقوله: متى جئتني أكرمتك، وأينما كنت أتيتك. الثالث: ألفاظ النفي، كقولك: ما جاءني أحد، وما في الدار ديار. الرابع: الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام لا للتعريف، كقوله تعالى: {إن الانسان لفي خسر} (العصر: 2) وقوله: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) أما النكرة، كقولك: مشرك وسارق، فلا يتناول إلا واحدا. الخامس: الالفاظ المؤكدة، كقولهم: كل وجميع وأجمعون وأكتعون. تفصيل المذاهب: أعلم أن الناس اختلفوا في هذه الانواع الخمسة على ثلاثة مذاهب: فقال قوم يلقبون بأرباب الخصوص: إنه موضوع لاقل الجمع، وهو إما اثنان وإما ثلاثة على ما سيأتي الخلاف فيه، وقال أرباب العموم: هو للاستغراق بالوضع، إلا أن يتجوز به عن وضعه، وقالت الواقفية: لم يوضع لا لخصوص ولا لعموم، بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع، وهو بالاضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الاقل، أو تناول صنف أو عدد بين الاقل، والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الاقسام كاشتراك لفظ الفرقة والنفر بين الثلاثة والخمسة والستة، إذ يصلح لكل واحد منهم، فليس مخصوصا في الوضع بعدد، وإن كنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه ثم أرباب العموم اختلفوا في التفصيل في ثلاث مسائل: الأولى: الفرق بين المعرف والمنكر، فقال الجمهور: لا فرق بين قولنا: اضربوا الرجال، وبين قولنا: اضربوا رجالا واقتلوا المشركين وأقتلوا مشركين، وإليه ذهب الجبائي، وقال قوم: يدل المنكر على جمع غير معين ولا مقدر، ولا يدل على الاستغراق وهو الاظهر. الثاني: اختلفوا في الجمع المعرف بالالف واللام، كالسارقين والمشركين والفقراء والمساكين والعاملين، فقال قوم: هو للاستغراق، وقال قوم: هو لاقل الجمع، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل، والأول أقوى وأليق بمذاهب أرباب العموم. الثالثة: الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام، كقولهم: الدينار خير من الدرهم، فمنهم من قال: هو لتعريف الواحد فقط، وذلك في تعريف المعهود، وقال قوم: هو للاستغراق، وقال قوم: يصلح للواحد والجنس ولبعض الجنس، فهو مشترك، ومذهب الواقفية أن جميع هذه الالفاظ مشتركة، ولم يبق منها شئ للاستغراق حتى كل وكلما وأي والذي ومن وما، واختلفوا في مسألة واحدة، فقال قوم: إنما التوقف في العموم الواردة في الاخبار والوعد والوعيد، أما الامر والنهي فلا. فإنا متعبدون بفهمه ولو كان مشتركا لكان مجملا غير مفهوم، وهذا فاسد لا يليق بمذهب الواقفية، لان دليلهم لا يفرق بين جنس وجنس، إذ العرب تريد بصيغ الجمع البعض في كل جنس كما تريد الكل، ويستوي في ذلك قولهم، فعلوا وافعلوا، وقولهم: قتل المشركون واقتلوا المشركين، ولان من الاخبار ما تعبد بفهمه، كقوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92)، (الانعام: 101) وقوله: {وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها} (هود: 6) (تنبيه): لا ينبغي أن يقول الواقفية الوقف في ألفاظ العموم جائز وفيما مخرجه مخرج العموم واجب، فقد أطلق ذلك الشيخ أبو الحسن الاشعري وجماعة، لان المتوقف لا يسلم أنه لفظ العموم كما لا يسلم أنه لفظ الخصوص إلا أن يعني به أنه لفظ العموم عند معتقدي العموم بل ينبغي أن يقول: التوقف في صيغ الجموع وأدوات الشرط واجب. القول في أدلة أرباب العموم ونقضهاوهي خمسة: الدليل الأول: أن أهل اللغة بل أهل جميع اللغات كما عقلوا الاعداد والانواع والاشخاص والاجناس ووضعوا لكل واحدا اسما لحاجتهم إليه، عقلوا أيضا معنى العموم واستغراق الجنس واحتاجوا إليه، فكيف لم يضعوا له صيغة ولفظا؟ الاعتراض من أربعة أوجه: الأول: أن هذا قياس واستدلال في اللغات، واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا واستدلالا، بل هي كسنن الرسول عليه السلام، وليس لقائل أن يقول: الشارع كما عرف الاشياء الستة وجريان الربا فيها ومست إليه حاجة الخلق ونص عليها فينبغي أن يكون قد نص على سائر الربويات، وهذا فاسد. الثاني: أنه وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة، فمن يسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها، وهم في حكم من يترك مالا تقتضي الحكمة تركه. الثالث: إن هذا منقوض، فإن العرب عقلت الماضي والمستقبل والحال، ثم لم تضع للحال لفظا مخصوصا حتى لزم استعمال المستقبل أو اسم الفاعل فيها، فتقول: رأيته يضرب أو ضاربا، ثم كما عقلت الالوان عقلت الروائح، ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالاضافة فيقال: ريح المسك، وريح العود، ولا يقال: لون الدم ولون الزعفران، بل أصفر أو أحمر. الرابع: أنا لا نسلم أنهم لم يضعوا للعموم لفظا، كما لا نسلم أنهم لم يضعوا للعين الباصرة لفظا، وإن كان العين مشتركا بين أشياء لم يخرج عن كونه موضوعا له، وإن لم يكن وقفا عليه بل صالحا له ولغيره، وكذلك صيغ الجموع مشتركة بين العموم والخصوص. الدليل الثاني: أنه يحسن أن تقول: اقتلوا المشركين إلا زيدا، ومن دخل الدار فأكرمه إلا الفاسق، ومن عصاني عاقبته إلا المعتذر، ومعنى الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ، إذ لا يجوز أن تقول: اكرم الناس إلا الثور، الاعتراض أن للاستثناء فائدتين إحداهما: ما ذكرتموه، وهو إخراج ما يجب دخوله تحت اللفظ، كقوله: علي عشرة إلا ثلاثة، والثاني: ما يصلح أن يدخل تحته ويتوهم أن يكون مرادا به وهذا صالح لان يدخل تحت اللفظ، والاستثناء لقطع صلاحيته لا لقطع وجوبه، بخلاف الثور، إن لفظ الناس لا يصلح لارادته. الدليل الثالث: أن تأكيد الشئ ينبغي أن يكون موافقا لمعناه ومطابقا له وتأكيدا لخصوص غير تأكيد العموم، إذ يقال: اضرب زيدا نفسه، واضرب الرجال أجمعين أكتعين، ولا يقال: اضرب زيدا كلهم. الاعتراض أن الخصم يسلم أن لفظ الجمع يتناول قوما، وهو أقل الجمع فما زاد، ويجوز أن يقال: اضرب القوم كلهم، لان للقوم كلية وجزئية، أما زيد والواحد المعين ليس له بعض، فليس فيه كل، وكما أن الفظ العموم لا يتعين مبلغ المراد منه بعد مجاوزة أقل الجمع، فكذلك لفظ المشركين والمؤمنين، والكلام في أنه لاستغراق الجنس أو لاقل الجمع أو لعدد بين الدرجتين وكيفما كان، فلفظ الكلية لائق به، فإن قيل: فإذا قال: أكرم الناس أكتعين أجمعين كلهم وكافتهم ينبغي أن يدل هذا على الاستغراق، ثم يكون الدال هو المؤكد دون التأكيد، فإن التأكيد تابع، وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس، قلنا: لا يشعر بالاستغراق، كما لو قال: أكرم الفرقة والطائفة كلهم وكافتهم وجملتهم، لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة، ولم يتعين للاكثر، بل نقول: لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول: كافتهم وجملتهم فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم. الدليل الرابع: أن صيغ العموم باطل أن تكون لاقل الجمع خاصة كما سيأتي، وباطل أن تكون مشتركا، إذ يبقى مجهولا، ولا يفهم إلا بقرينة، وتلك القرينة لفظ أو معنى، فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم، فإن الخلاف في أنه: هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا؟ وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ، فكيف تزيد دلالته على اللفظ؟ الاعتراض: إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه، وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال: السلام عليكم، أنه يريد التحية، أو الاستهزاء واللهو، ومن جملة القرائن فعل المتكلم، فإنه إذا قال: على المائدة هات الماء، فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح، وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92)، (الانعام: 101)، {وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها} وخصوص قوله تعالى: {الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل} (الزمر: 62) إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته، ومن جملته تكرير الالفاظ المؤكدة، كقوله: اضرب الجناة، وأكرم المؤمنين كافتهم، صغيرهم وكبيرهم، شيخهم وشابهم، ذكرهم وأنثاهم، كيف كانوا وعلى أي وجه وصورة كانوا، ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الاسباب ووجه من الوجوه، ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده، أما قولهم ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ فهو فاسد، فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه، بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة علوما ضرورية، فإن قيل: فبم عرفت الامة عموم ألفاظ الكتاب والسنة وإن لم يفهموه من اللفظ، وبم عرف الرسول من جبريل، وجبريل من الله تعالى، حتى عمموا الاحكام؟ قلنا: أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته وعادته المتكررة، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم، ورموزهم وتكريراتهم المختلفة، وأما جبريل عليه السلام فإن سمع من الله بغير واسطة، فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لاجناس كلام الخلق، وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ودلالة قطعية لا احتمال فيها. الدليل الخامس: وهو عمدتهم: إجماع الصحابة فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل الدليل على تخصيصه، وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم، فعملوا بقول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} (النساء: 11) واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها، حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الانبياء لا نورث وقوله: {الزانية والزاني} (النور: 2)، {والسارق والسارقة} (المائدة: 83} (ومن قتل مظلوما} (الاسراء: 33} (وذروا ما بقي من الربا} (البقرة: 872} (ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 92} (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: 59) ولا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولا يرث القاتل ولا يقتل والد بولده إلى غير ذلك مما لا يحصى، ويدل عليه: أنه لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء: 59) الآية قال ابن أم مكتوم ما قال، وكان ضريرا فنزل قوله تعالى: {غير اولى الضرر} (النساء: 59) فشمل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين ولما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الانبياء: 89) قال بعض اليهود: أنا أخصم لكم محمدا، فجاءه وقال: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فيجب أن يكونوا من حطب جهنم، فأنزل الله عزوجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} (الانبياء: 101) تنبيها على التخصيص، ولم ينكر النبي عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم تعلقه بالعموم، وما قالوا له: لم استدللت بلفظ مشترك مجمل؟ ولما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} (الانعام: 28) قالت الصحابة: فأينا لم يظلم، فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق والكفر، واحتج عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فدفعه أبو بكر بقوله: إلا بحقها ولم ينكر عليه التعلق بالعموم، وهذا وأمثاله لا تنحصر حكايته الاعتراض من وجهين: أحدهما: أن هذا إن صح من بعض الامة فلا يصح من جميعهم، فلا يبعد من بعض الامة اعتقاد العموم، فإنه الاسبق إلى أكثر الافهام، ولا يسلم صحة ذلك على كافة الصحابة. الثاني: إنه لو نقل ما ذكروه عن جملة الصحابة، فلم ينقل عنهم قولهم على التواتر إنا حكمنا في هذه المسائل بمجرد العموم لاجل اللفظ من غير التفات إلى قرينة، فلعل بعضهم قضى باللفظ مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ وبين بقية المسميات، لعلمه بأنه لا مدخل في التأثير للفارق بين محل القطع ومحل الشك، والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات، ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة ومجرى الخلاف فيها، وأنه متمسك به بشرط انتفاء المخصص لا بشرط وجود القرينة المسوية. شبه أرباب الخصوص ذهب قوم إلى أن لفظ الفقراء والمساكين والمشركين ينزل على أقل الجمع، واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ. والباقي مشكوك فيه، ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك، وهذا استدلال فاسد، لان كون هذا القدر مستيقنا لا يدل على كونه مجازا في الزيادة، والخلاف في أنه لو أريد به الزيادة لكان حقيقة أو مجازا، فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة، ولا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون ارتفاع الحرج معلوما من صيغة الامر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب والندب، وكون الواحد مستيقنا من لفظ الناس لا يوجب كونه مجازا في الباقي، وكون الندب مستقينا من الامر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب، وكون الفعلة الواحدة مستيقنة في الامر لا يوجب كونه مجازا في التكرار، وكون البدار معلوما في الامر لا يوجب كونه مجازا في التراخي، ثم نقول: هذا متناقض، لان قولهم: إن الثلاثة هو المفهوم فقط، يناقض قولهم: الباقي مشكوك، لانه إن كان هو المفهوم فقط فالباقي غير داخل قطعا. وإن كانوا شاكين في الباقي، فقد شكوا في نفس المسألة، فإن الخلاف في الباقي وأخطأوا في قولهم إن الثلاثة مفهومه فقط. شبه أرباب الوقف قد ذهب القاضي والاشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف، ولهم شبه ثلاث: الأولى: أن كون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا يخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل، والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع، وكل واحد إما آحاد وإما تواتر، والآحاد لا حجة فيها، والتواتر لا يمكن دعواه، فإنه لو كان لافاد علما ضروريا، والعقل لا مدخل له في اللغات وهلم جرا، إلى تمام الدليل الذي سقناه في بيان أن صيغة الامر مترددة بين الايجاب والندب، الاعتراض: أن هذا مطالبة بالدليل، وليس بدليل، ومسلم أنه إن لم يدل دليل، فلا سبيل إلى القول به، وسنذكر وجه الدليل عليه إن شاء الله. الثانية: إنا لما رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته، ولفظ اللون في السواد والبياض والحمرة، استعمالا واحدا متشابها، قضينا بأنه مشترك، فمن ادعى أنه حقيقة في واحد ومجاز في الآخر فهو متحكم، وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم والخصوص جميعا بل استعمالهم لها في الخصوص أكثر، فقلما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات ما لا يتطرق إليه التخصيص، فمن زعم أنه مجاز في الخصوص حقيقة، في العموم كان كمن قال: هو حقيقة في الخصوص مجاز في العموم، والقولان متقابلان فيجب تدافعهما والاعتراف بالاشتراك. الاعتراض: إن هذا أيضا يرجع إلى المطالبة بالدليل وليس بدليل، لان العرب تستعمل المجاز والحقيقة كما تستعمل اللفظ المشترك، ولم تقيموا دليلا على أن هذا ليس من قبيل المجاز والحقيقة بل طالبتم بالدليل على أن هذا ليس من المشترك. الشبهة الثالثة: قولهم: إنه كم يحسن الاستفهام في قوله: افعل إنه للوجوب أو الندب، فيحسن الاستفهام في صيغ الجمع أنه أريد به البعض أو الكل، فإنه إذا قال السيد لعبده من أخذ مالي فأقتله، يحسن أن يقول: وإن كان إباك أو ولدك، فيقول: لا أو نعم، ويقول: من أطاعني فأكرمه، فيقول وإن كان كافرا أو فاسقا فيقول: لا أو نعم، فكل ذلك مما يحسن، فلو قال اقتل كل مشرك، فيقول: والمؤمن أيضا اقتله أم لا؟ فلا يحسن هذا الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص، قلنا: المجاز إذا كثر استعماله كان للمستفهم الاحتياط في طلبه، أو يحسن إذا عرف من عادة المتكلم أنه يهين الفاسق والكافر وإن أطاعه، ويسامح الاب في بذل المال والقرينة تشهد للخصوص واللفظ يشهد للعموم ويتعارض ما يورث الشك فيحسن الاستفهام. بيان الطريق المختار عندنا في إثبات العموم أعلم أن هذ النظر لا يختص بلغة العرب، بل هو جار في جميع اللغات، لان صيغ العموم محتاج إليها في جميع اللغات، فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق، فلا يضعونها مع الحاجة إليها، ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الامر العام، وسقوط الاعتراض عمن أطاع، ولزوم النقض والخلف عن الخبر العام، وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة، فهذه أمور أربعة تدل على الغرض، وبيانها: أن السيد إذا قال لعبده: من دخل اليوم داري فأعطه درهما أو رغيفا، فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه، فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا وقال: لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير، وإنما أردت الطوال أو هو أسود، وإنما أردت البيض فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال ولا البيض، بل بإعطاء من دخل، وهذا داخل، فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها أو إعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها، وقالوا للسيد: أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال: لم لم تعطه؟ فقال العبد: لان هذا طويل أو أبيض، وكان لفظك عاما فقلت: لعلك أردت القصار أو السود، استوجب التأديب بهذا الكلام، وقيل له: مالك وللنظر إلى الطول واللون، وقد أمرت بإعطاء الداخل، فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي، وأما النقض على الخبر فإذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا، فإن أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا، وهذه كصيغ الجميع فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم، ولذلك قال الله تعالى: {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} (الانعام: 19) وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم، فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم؟ فإن هم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر، وأما الاستحلال بالعموم، فإذا قال الرجل: أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه، جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء، ويتزوج من أي جواريه شاء بغير رضا الورثة، وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان، كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء الاحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر، ولا خلاف في أنه لو قال: أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب، أو قال: غانم حر، وزينب طالق، وله عبدان اسمهما غانم، وزوجتان اسمهما زينب، فتجب المراجعة والاستفهام، لانه أتى باسم مشترك غير مفهوم، فإن كان لفظ العموم فيما وراء أقل الجمع مشتركا فينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار، وينبغي أن يراجع في الباقي، وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها، فإن قيل: إن سلم لكم ما ذكرتموه فإنما يسلم بسبب القرائن لا بمجرد اللفظ، فإن عرى عن القرائن فلا يسلم، قلنا: كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها أو يبقى حكم الاعتراض والنقض كما سبق، فإن غايتهم أن يقولوا: إذا قال: أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي، وكان مطيعا بالانفاق على الجميع لاجل قرينة لحاجة إلى النفقة، أو أعط من دخل داري، فهو بقرينة إكرام الزائر، فهذا وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها، فإنه لو قال: لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالانفاق مطيعا بالتضييع، ولو قال: اضربهم، لم يكن عليه أن يقتصر على ثلاثة، بل إذا ضرب جميعهم عد مطيعا، ولو قال: من دخل داري فخذ منه شيئا، بقي العموم، بل نقدر ما لا غرض في نفيه وإثباته، فلو قال: من قال من عبيدي جيم فقل له صاد، ومن قال من جواري ألف فأعتقها فامتثل أو عصى، كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض وتوجهه جاريا، بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة، ولم يعش إلا ساعة من نهار، وقال في تلك الساعة: من سرق فأقطعوه، ومن زنى فاضربوه والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ، وكذلك الزكاة، ومن قتل مسلما فعلية القصاص، ومن كان له ولد فعليه النفقة، ومات عقيب هذا الكلام ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة ولا صدر منه سوى هذه الالفاظ إشارة ورمزا ولا ظهر في وجهه حالة، لكنا نحكم بهذه الالفاظ ونتبعها، ولا يقال: جاء بألفاظ مشتركة مجملة ومات قبل أن يبينها، فلا يمكن العمل بها، ولو قدروا قرينة في نطقه وصورة حركته عند كلامه فليقدر أنه كتب في كتاب وسلمه إلينا وقال: اعملوا بما فيه ومات، وإن قدروا قرينة مناسبة بين هذه الجنايات والعقوبات فنقدر أمورا لا مناسبة فيها، كحروف المعجم، فإذا قال: من قال لكم ألف فقولوا جيم وأمثاله، فيكون جميع ذلك مفهوما معمولا به، وكل قرينة قدروها فنقدر نفيها ويبقى ما ذكرنا بمجرد اللفظ، وبهذا تبين أن الصحابة إنما تمسكوا بالعمومات بمجرد اللفظ وانتفاء القرائن المخصصة، لا أنهم طلبوا قرينة معممة وتسوية بين أقل الجمع والزيادة، فإن قيل: إذا قال: من دخل داري فأعطه، فيحسن أن يقال: ولو كان كافرا فاسقا، فربما يقول نعم، وربما يقول لا، فلو عم اللفظ فلم حسن الاستفهام؟ قلنا: لا يحسن أن يقال: وإن كان طويلا أو أبيض أو محترفا وما جرى مجراه، وإنما حسن السؤال عن الفاسق، لانه يفهم من الاعطاء الاكرام، ويعلم من عادته أنه لا يكرم الفاسق، أو علم من عادة الناس ذلك فتوهم أنه يقتدي بالناس فيه، فلتوهم هذه القرينة المخصصة حسن منه السؤال، ولذلك لم يحسن في سائر الصفات، ولذلك لو لم يراجع وأعطى الفاسق وعاتبه السيد فله أن يقول: أمرتني بإعطاء كل داخل وهذا قد دخل فيقول السيد: كان ينبغي أن تعرف بعقلك أن هذا إكرام، والفاسق لا يكرم، فيتمسك بقرينة مخصصة، فربما يكون مقبولا، فلو لم يقل هذا ولكن قال: كان لفظي مشتركا غير مفهوم، فلم أقدمت قبل السؤال؟ لم يكن هذا العتاب متوجها قطعا، فإن قيل فقد فرضتم الكلام في أداة الشرط، وقد قال بعمومه من أنكر سائر العمومات، فما الدليل في سائر الصور؟ قلنا: هذا يجري في (من) و (ما) و (متى) و (حيث) وأي وقت، وأي شخص ونظائره، ويجري أيضا في النكرة في النفي، كقوله: ما رأيت أحدا مثل قوله تعالى: {ما أنزل الله على بشر من شئ} (الانعام: 19) وكذلك في قولهم: (كل) و (جميع) و (أجمعون) بل هو أظهر، وهو النوع الثالث، وكذلك في النوع الرابع وهي صيغ الجموع، كالفقراء والمساكين، وهذا أيضا جار فيه، فإنه إذا قال لعبده: أعط الفقراء واقتل المشركين، واقتصر على هذا، وانتفت القرائن جري حكم الطاعة والعصيان، وتوجه الاعتراض وسقوطه كما سبق، وهو جار في كل جمع إلا في بعض الجموع المبنية للتقليل، كما ورد على وزن الافعال كالاثواب، والافعلة كالارغفة، والافعل كالاكلب، والفعلة كالصبية، وقد قال سيبويه: جميع هذا للتقليل وما عداه للتكثير، وقيل أيضا جمع السلامة للتقليل، وهذا بعيد، لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير وجمع القلة أيضا لا يتقدر المراد منه، بل يختلف ذلك بالقرائن والاحوال، إلا أنه ليس موضوعا للاستغراق. وأما النوع الخامس: وهو الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام فهذا فيه نظر، وقد اختلفوا فيه، والصحيح التفصيل، وهو أنه ينقسم إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء، كالتمرة والتمر، والبرة والبر، فإن عري عن الهاء فهو للاستغراق، فقوله: لا تبيعوا البر بالبر، ولا التمر بالتمر يعم كل بر وتمر، وما لا يتميز بالهاء ينقسم إلى ما يتشخص ويتعدد، كالدينار والرجل، حتى يقال: دينار واحد ورجل واحد، وإلى ما لا يتشخص واحد منه، كالذهب، إذ لا يقال: ذهب واحد فهذا لاستغراق الجنس، أما الدينار والرجل فيشبه أن يكون للواحد والالف واللام فيه للتعريف فقط، وقولهم: الدينار أفضل من الدرهم يعرف بقرينة التسعير، ويحتمل أن يقال: هو دليل على الاستغراق فإنه لو قال: لا يقتل المسلم بالكافر ولا يقتل الرجل بالمرأة فهم ذلك في الجميع فإنه لو قد حيث لا مناسبة فلا يخلو عن الدلالة على الجنس. القول في العموم إذا خص هل يصير مجازا في الباقي وهل يبقى حجة وهما نظران: أما صيرورته مجازا فقد اختلفوا فيه على أربعة مذاهب. فقال قوم: يبقى حقيقة، لانه كان متناولا لما بقي حقيقة، فخروج غيره عنه لا يؤثر، وقال قوم: يصير مجازا لانه وضع للعموم، فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة كان مجازا، وإن لم يكن هذا مجازا فلا يبقى للمجاز معنى، ولا يكفي تناوله مع غيره، لانه لا خلاف أنه لورد إلى ما دون أقل الجمع صار مجازا، فإذا قال: لا تكلم الناس ثم قال: أردت زيدا خاصة كان مجازا، وإن كان هو داخلا فيه. وقال قوم: هو حقيقة في تناوله مجاز في الاقتصار عليه، وهذا ضعيف، فإنه لورد إلى الواحد كان مجازا مطلقا، لانه تغير عن وضعه في الدلالة، فالسارق مهما صار عبارة عن سارق النصاب خاصة فقد تغير الوضع واستعمل لا على الوجه الذي وضعته العرب، وقد اختار القاضي في التفريع على مذهب أرباب العموم أنه صار مجازا، لكن قال: إنما يصير مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أو نقل، أما ما خرج بلفظ متصل كالاستثناء فلا يجعله مجازا، بل يصير الكلام بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر موضوعا لشئ آخر، فإنا نريد الواو والنون في قولنا: مسلم، فنقول: مسلمون، فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا، ونزيد الالف واللام على قولنا: رجل، فنقول: الرجل، فيزيد فائدة أخرى وهي التعريف، لان هذه صارت صيغة أخرى بهذه الزيادة، فجاز أن يدل على معنى آخر، ولا فرق بين أن نزيد حرفا أو كلمة، فإذا قال: يقطع السارق إلا من سرق دون النصاب، كان مجموع هذا الكلام موضوعا للدلالة على ما دل عليه، فقوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} (العنكبوت: 41) دل على تسعمائة وخمسين لا على سبيل المجاز، بل الوضع كذلك وضع، وكأن العرب وضعت عن تسعمائة وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين، والاخرى تسعمائة وخمسون، ويمكن أن يقال: ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الالف للالف، والخمسون للخمسين، وإلا للرفع بعد الاثبات، ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة وخمسون، فإنا إذا وضعنا ألفا ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب، فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد وهذا أدق وأحق، لا كزيادة الالف واللام والياء والنون على المسلم، فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول. فإن قيل: لو قال الله تعالى: {براءة من الله ورسوله}، فقال الرسول متصلا به: إلا زيدا، فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي؟ قلنا: اختلفوا فيه، والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل والنقل، ولهذا لو قال زيد، وقال غيره: قام، لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله قام، لان نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد، وذلك يجعله خبرا، فإن قيل: فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا؟ قلنا: نعم لانه للجمع بالاتفاق، والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق، فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع مستغرق. وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي، فقد قال قوم من القائلين بالعموم: إنه لا يبقى حجة، بل صار مجملا، وإليه ذهبت القدرية، لانه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى، القرينة، وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدي إليها، ومن هؤلاء من قال: أقل الجمع يبقى لانه مستيقن، واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب والسارق من غير الحرز ومن يستحق النفقة وغير ذلك فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا، ولا قرينة تفصل وتحصر فيبقى مجملا؟ والصحيح أنه يبقى حجه إلا إذا استثنى منه مجهولا، كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي، ولاجله تمسك الصحابة بالعمومات وما من عموم: إلا وقد تطرق إليه التخصيص، وهذا لان لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص، والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض، ولا مسقط لدلالته في الباقي، نعم: لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج، فافتقر إلى دليل مخرج، وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي، فمن قال: أعتق رقبة ثم قال: لا تعتق معيبة ولا كافرة، لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما، والرجوع في هذا إلى عادة اللسان وأهل اللغة وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب والسنة لتطرق التخصيص إليها، وعلى الجملة: كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة، فإن قيل: قد سلمتم أنه صار مجازا، فيفتقر العمل به إلى دليل، إذا المجاز لا يعمل به إلا بدليل؟ قلنا: هو حقيقة في وضعه، والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا، أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف، فإنا نتمسك به بغير دليل زائد، كقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (المائدة: 6)، (النساء: 34) فإنه وإن كان مجازا فهو معروف، وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ولا يمكن اطراحه.