عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 03:17 PM   #42
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


القطب الثالث في كيفية استثمار الاحكام من مثمرات الاصول
ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون‏:‏

صدر القطب الثالث‏:‏
اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الاصول‏:‏ لان ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الاحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الاحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والاصول الاربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الاحكام واقتباسها من مداركها، والمدارك هي الأدلة السمعية، ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ منه يسمع الكتاب أيضا، وبه يعرف الإجماع والصادر منه من مدارك الاحكام ثلاثة، إما لفظ، وإما فعل، وإما سكوت وتقرير، ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت، لان الكلام فيهما أوجز‏.‏ واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا، فهذه ثلاثة فنون‏:‏ المنظوم والمفهوم، والمعقول‏.‏

الفن الأول‏:‏ في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع
ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام‏:‏ القسم الأول‏:‏ في المجمل والمبين، القسم الثاني‏:‏ في الظاهر والمؤول، القسم الثالث‏:‏ في الامر والنهي، القسم الرابع‏:‏ في العام والخاص، فهذا صدر هذا القطب‏.‏

أما المقدمة
فتشتمل على سبعة فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ في أن اللغة هل تثبت قياسا‏.‏ الفصل الثالث‏:‏ في الاسماء العرفية‏.‏ الفصل الرابع‏:‏ في الاسماء الشرعية‏.‏ الفصل الخامس‏:‏ في اللفظ المفيد وغير المفيد‏.‏ الفصل السادس‏:‏ في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة‏.‏ الفصل السابع‏:‏ في المجاز والحقيقة‏.‏

الفصل الأول‏:‏ في مبدأ اللغات
وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية، إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق، وقال قوم‏:‏ إنها توقيفية، إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع، ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح، وقال قوم‏:‏ القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف، وما بعده يكون بالاصطلاح، والمختار‏:‏ أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع‏.‏ أما الجواز العقلي‏:‏ فشامل للمذاهب الثلاثة، والكل في حيز الامكان‏.‏ أما التوقيف‏:‏ فبأن يخلق الاصوات والحروف، بحيث يسمعها واحد أو جمع، ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات، والقدرة الازلية لا تقصر عن ذلك‏.‏ وأما الاصطلاح‏:‏ فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم، من تعريف الامور الغائبة التي لا يمكن الانسان أن يصل إليها فيبتدئ واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح، بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة، وإمكان التعريف بتأليف الحروف، فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالاشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير، وكما يعرف الاخرس ما في ضميره بالاشارة، وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا، أما الواقع من هذه الاقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي، أو بتواتر خبر أو سمع قاطع، ولا مجال لبرها العقل في هذا، ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع، فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي، ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة، فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له، فإن قيل‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الاسماء كلها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 13‏)‏ وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف، فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه‏؟‏ قلنا‏:‏ وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا، إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات‏:‏ أحدها‏:‏ أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع، فوضع بتدبيره وفكره، ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى، لانه الهادي والملهم، ومحرك الداعية، كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى‏.‏ الثاني‏:‏ أن الاسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن، أو فريق من الملائكة، فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره‏.‏ الثالث‏:‏ أن الاسماء صيغة عموم، فلعله أراد به أسماء السماء والارض، وما في الجنة والنار، دون الاسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوتيت من كل شئ‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 32‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم‏}‏ ‏(‏الاحقاف‏:‏ 52‏)‏ وهو على كل شى قدير إذ يخرج عنه ذاته وصفاته‏.‏ الرابع‏:‏ أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده‏.‏

الفصل الثاني في أن الاسماء اللغوية هل تثبت قاسا
وقد اختلفوا فيه‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ سموا الخمر من العنب خمرا لانها تخمر العقل، فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه، قياسا عليه، حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمت الخمر لعينها وسمي الزاني زانيا لانه مولج فرجه في فرج محرم، فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني، حتى يدخل في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏24‏)‏ الزانية والزاني‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 2‏)‏ وسمي السارق سارقا، لانه أخذ مال الغير في خفية، وهذه العلة موجودة في النباش، فيثبت له اسم السارق قياسا، حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 83‏)‏ وهذا غير مرضي عندنا، لان العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر‏:‏ المعتصر من العنب خاصة، فوضعه لغيره، تقول عليهم واختراع، فلا يكون لغتهم، بل يكون وضعا من جهتنا، وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا، كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل، فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس، وإن سكتوا عن الامرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره، فلم نتهكم عليهم ونقول‏:‏ لغتهم هذا، وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل، كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته، والثوب المتلون بذلك اللون، بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم، لانهم ما وضعوا الادهم والكميت للاسود والاحمر، بل لفرس أسود وأحمر، وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار، ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه، فإذا‏:‏ كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس، وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفصل الثالث في الاسماء العرفية
اعلم أن الاسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية، والاسم يسمى عرفيا باعتبارين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يوضع الاسم لمعنى عام، ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة، ذلك الاسم ببعض مسمياته، كاختصاص اسم الدابة بذوات الاربع، مع أن الوضع لكل ما يدب، واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام، مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم، وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم وببعض العلماء وبعض المتعلمين، مع أن الوضع عام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الاسماء كلها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 13‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الانسان ئ علمه البيان‏}‏ ‏(‏الرحمن‏:‏ 3 - 4‏)‏ وقال عزوجل‏:‏ ‏{‏فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 87‏)‏‏.‏ الاعتبار الثاني‏:‏ أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا، بل فيما هو مجاز فيه، كالغائط المطمئن من الارض، والعذرة البناء الذي يستتر به، وتقضى الحاجة من ورائه، فصار أصل الوضع منسيا، والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال، وذلك بالوضع الأول، فالاسامي اللغوية، إما وضعية، وإما عرفية، أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لادواتهم، فلا يجوز أن يسمى عرفيا، لان مبادئ اللغات والوضع الأصلي كلها كانت كذلك، فيلزم أن يكون جميع الاسامي اللغوية عرفية‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفصل الرابع في الاسماء الشرعية
قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء‏:‏ الاسماء لغوية، ودينية، وشرعية، أما اللغوية فظاهرة، وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين، كلفظ الايمان والكفر والفسق، وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة، واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين‏:‏ الأول‏:‏ أن هذه الالفاظ يشتمل عليها القرآن، والقرآن نزل بلغة العرب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآنا عربيا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 2‏)‏، ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 4‏)‏ ولو قال‏:‏ أطعموا العلماء‏:‏ وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم، وإن كان اللفظ المنقول عربيا، فكذلك إذا نقل اللفظ عن موضوعه إلى غير موضوعه، أو جعل عبارة عن بعض موضوعه، أو متناولا لموضوعه وغير موضوعه، فكل ذلك ليس من لسان العرب‏.‏ الثاني‏:‏ أن الشارع لو فعل ذلك للزمه تعريف الامة بالتوقيف نقل تلك الاسامي، فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها، ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا، فإن الحجة لا تقوم بالآحاد، احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 341‏)‏ وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نهيت عن قتل المصلين وأراد به المؤمنين، وهو خلاف اللغة، قلنا‏:‏ أراد بالايمان التصديق بالصلاة والقبلة، وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة، وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل التجوز، وعادة العرب تسمية الشئ بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز منفس اللغة، احتجوا بقوله‏:‏ الايمان بضع وسبعون بابا، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الاذى عن الطريق وتسمية الاماطة إيمانا خلاف الوضع، قلنا‏:‏ هذا من أخبار الآحاد، فلا يثبت به مثل هذه القاعدة، وإن ثبتت فهي دلالة الايمان، فيتجوز بتسميته أيمانا، احتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة، فافتقرت إلى أسام، وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى أو إبداع أسام لها، قلنا‏:‏ لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن لها اسم في اللغة، فإن قيل‏:‏ فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع والسجود، ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي، قلنا‏:‏ عنه جوابان‏:‏ الأول‏:‏ أنه ليست الصلاة في الشرع أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة، والحج عبارة عن القصد، والصوم عبارة عن الامساك، والزكاة عبارة عن النمو، لكن الشرع شرط في أجزاء هذه الامور أمورا أخر تنضم إليها، فشرط في الاعتداد بالدعاء الواجب انضمام الركوع والسجود إليه، وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف والطواف والاسم غير متناول له، لكنه شرط الاعتداد، بما ينطلق عليه الاسم، فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع‏.‏ الثاني‏:‏ أنه يمكن أن يقال‏:‏ سميت جميع الافعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الامام، فإن التالي للسابق في الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا، هذا كلام القاضي رحمه الله، والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الاسامي، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية، كما ظنه قوم، ولكن عرف اللغة تصرف في الاسامي من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ التخصيص ببعض المسميات، كما في الدابة، فتصرف الشرع في الحج والصوم والايمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب‏.‏ والثاني‏:‏ في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشئ ويتصل به، كتسميتهم الخمر محرمة، والمحرم شربها، والام محرمة والمحرم وطؤها، فتصرفه في الصلاة كذلك، لان الركوع والسجود شرطه الشرع في تمام الصلاة، فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع والسجود ركن الصلاة، ومن نفسها بعيد، فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة، وهو كالمهم المحتاج إليه، إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة، ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه، وأما ما استدل به من أن القرآن عربي، فهذا لا يخرج هذه الاسامي عن أن تكون عربية، ولا يسلب اسم العربي عن القرآن، فإنه لو اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا، كما ذكرناه، في القطب الأول من الكتاب‏.‏ وأما قوله‏:‏ إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه، فهذا أيضا، إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الالفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى، فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما ذكره القاضي رحمه الله‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفصل الخامس في الكلام المفيد
اعلم أن الامور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل، فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته، وهو الأدلة العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب، وإلى ما يدل بالوضع، وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت، كالاشارة والرمز، والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد، والمفيد كقولك‏:‏ زيد قائم، وزيد خرج راكبا، وغير المفيد كقولك‏:‏ زيد لا وعمرو في، فإن هذا لا يحصل منه معنى، وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة، وقد اختلف في تسمية هذا كلاما، فمنهم من قال‏:‏ هو كمقلوب رجل وزيد لجر وديز، فإن هذا لا يسمى كلاما، ومنهم من سماه كلاما، لان آحاده وضعت للافادة‏.‏ واعلم أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام‏:‏ اسم، وفعل، وحرف، كما في علم النحو، وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر، نحو‏:‏ زيد أخوك، والله ربك، أو اسم أسند إلى فعل، نحو قولك‏:‏ ضرب زيد وقام عمرو، وأما الاسم والحرف كقولك‏:‏ زيد من وعمرو في فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار، وكذلك قولك‏:‏ ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم، وكذلك قولك‏:‏ من في قد على‏.‏ واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالافادة من كل وجه، وإلى ما لا يستقل بالافادة إلا بقرينة، وإلى ما يستقل بالافادة من وجه دون وجه، مثال الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 23‏)‏، ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 92‏)‏ وذلك يسمى نصا لظهوره، والنص في السير هو الظهور فيه، ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه، والنص ضربان ضرب هو نص بلفظه ومنظومه، كما ذكرناه، وضرب هو نص بفحواه ومفهومه، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏}‏ ‏(‏ولا تظلمون فتيلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 77‏}‏ ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏}‏ ‏(‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 57‏)‏‏.‏ فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف، ومن قال‏:‏ إن هذا معلوم بالقياس، فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق، وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط، وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعفوا الذي بيده‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 237‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 822‏)‏ وكل لفظ مشترك ومبهم، وكقوله‏:‏ رأيت أسدا وحمارا وثورا، إذا أراد شجاعا وبليدا، فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة، وأما الذي يستقل من وجه دون وجه، فكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 141‏)‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 92‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 92‏)‏ فإن الايتاء ويوم الحصاد معلوم، ومقدار ما يؤتى غير معلوم، والقتال وأهل الكتاب معلوم، وقدر الجزية مجهول، فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالاضافة إلى مدلوله، إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا، أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح، فيسمى مجملا ومبهما، أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالاضافة إلى الاحتمال الارجح ظاهرا، وبالاضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا، فاللفظ المفيد إذا ما نص أو ظاهر أو مجمل‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب
اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من الله تعالى، أو يسمعه نبي أو ولي من ملك، أو تسمعه الامة من النبي، فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة، لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور‏:‏ بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه، وبمراده من كلامه، فهذه ثلاثة أمور ، لا بد وأن تكون معلومة، والقدرة الازلية ليست قاصرة عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك، ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى نصب علامة لتعريف ما في ضميره، إلا الله تعالى، فإنه قادر على اختراع علم ضروري به من غير نصب علامة، وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر، فسمعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الاصوات، ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت، كما يعسر على الاكمة تفهم كيفية إدراك البصير للالوان والاشكال، أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله، فيكون المسموع الاصوات الحادثة، التي هي فعل الملك دون نفس الكلام، ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة، وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى، كما يقال‏:‏ فلان سمع شعر المتنبي وكلامه، وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 6‏)‏ وكذلك سماع الامة من الرسول صلى الله عليه وسلم كسماع الرسول من الملك، ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 141‏)‏ والحق هو العشر، وإما إحالة على دليل العقل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 76‏)‏ وقوله عليه السلام‏:‏ قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن‏.‏ وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد، أو توجب ظنا، وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه القرائن، وعند منكري صيغة العموم والامر يتعين تعريف الامر والاستغراق بالقرائن، فإن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاقتلوا المشركين‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 5‏)‏ وإن أكده بقوله‏:‏ كلهم وجميعهم فيحتمل الخصوص عندهم تقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله‏}‏ ‏(‏الاحقاف‏:‏ 52‏}‏ ‏(‏‏(‏27‏)‏ وأوتيت من كل شئ‏)‏ ‏(‏النمل‏:‏ 32‏)‏ فإنه أريد به البعض، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفصل السابع‏:‏ في الحقيقة والمجاز
اعلم أن اسم الحقيقة مشترك، إذ قد يراد به ذات الشئ وحده ويراد به حقيقة الكلام، ولكن إذا استعمل في الالفاظ أريد به ما استعمل في موضوعه‏.‏ والمجاز ما استعمله العرب في غير موضوعه وهو ثلاثة أنواع، الأول‏:‏ ما استعير للشئ بسببه المشابهة في خاصية مشهورة، كقولهم للشجاع‏:‏ أسد وللبليد‏:‏ حمار، فلو سمي الابخر أسدا لم يجز، لان البخر ليس مشهورا في حق الاسد‏.‏ الثاني‏:‏ الزيادة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شئ‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 11‏)‏ فإن الكاف وضعت للافادة، فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان على خلاف الوضع‏.‏ الثالث‏:‏ النقصان الذي لا يبطل التفهيم، كقوله عزوجل‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 28‏)‏ والمعنى‏:‏ واسأل أهل القرية، وهذا النقصان اعتادته العرب فهو توسع وتجوز، وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع‏:‏ الأولى‏:‏ أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره، إذ قولنا‏:‏ عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي علم، وقوله‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ يصح في بعض الجمادات لارادة صاحب القرية، ولا يقال‏:‏ سل البساط والكوز، وإن كان قد يقال‏:‏ سل الطلل والربع، لقربه من المجاز المستعمل‏.‏ الثانية‏:‏ أن يعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الامر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 79‏)‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاء أمرنا‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 04‏)‏‏.‏ الثالثة‏:‏ أن تختلف صيغة الجمع على الاسم، فيعلم أنه مجاز في أحدهما، إذ الامر الحقيقي يجمع على أوامر، وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور‏.‏ الرابعة‏:‏ أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير، فإذا استعمل فيما لا تعلق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة، كان لها مقدور، وإن أريد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال‏:‏ انظر إلى قدرة الله تعالى‏:‏ أي إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له‏.‏ واعلم أن كل مجاز فله حقيقة، وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، بل ضربان من الاسماء لا يدخلهما المجاز، الأول‏:‏ أسماء الاعلام، نحو‏:‏ زيد وعمرو، لانها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات، نعم الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا، كالاسود بن الحرث إذ لا يراد به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز، أما إذا قال‏:‏ قرأت المزني وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك، إلا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 28‏)‏ فهو على طريق حذف اسم الكتاب، معناه‏:‏ قرأت كتاب المزني، فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز‏.‏ الثاني‏:‏ الاسماء التي لا أعم منها ولا أبعد، كالمعلوم والمجهول، والمدلول والمذكور، إذ لا شئ إلا وهو حقيقة فيه فكيف يكون مجازا عن شئ‏.‏ هذا تمام المقدمة، ولنشتغل بالمقاصد، وهي كيفية اقتباس الاحكام من الصيغ والالفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام‏.‏

القسم الأول من الفن الأول من مقاصد القطب الثالث في المجمل والمبين
اعلم أن اللفظ إما أن يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره فيسمى مبينا ونصا، وإما أن يتردد بين معنيين فصاعدا من غير ترجيح، فيسمى مجملا، وإما أن يظهر في أحدهما ولا يظهر في الثاني فيسمى ظاهرا، والمجمل هو اللفظ الصالح لاحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال وينكشف ذلك بمسائل‏.‏

مسألة ‏(‏كيفية معرفة المجمل‏)‏
قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 32‏)‏ و‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 3‏)‏ ليس بمجمل، وقال قوم من القدرية‏:‏ هو مجمل لان الاعيان لا تتصف بالتحريم، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدري ما ذلك الفعل، فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها والانتفاع بها فهو مجمل، والام يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطئ، فلا يدري أيه، ولا بد من تقدير فعل وتلك الافعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض، وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع، ولذلك قسمنا الاسماء إلى عرفية ووضعية، وقدمنا بيانها، ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال‏:‏ حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الاكل دون النظر والمس، وإذا قال‏:‏ حرمت عليك هذا الثوب أنه يريد اللبس، وإذا قال حرمت عليك النساء أنه يريد الوقاع، وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع، وكل ذلك واحد في نفي الاجمال، وقال قوم‏:‏ هو من قبيل المحذوف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ أي أهل القرية ‏(‏يوسف‏:‏ 28‏)‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحلت لكم بهيمة الانعام‏}‏ أي أكل البهيمة ‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 69‏)‏ وهذا إن أراد به إلحاقه بالمجمل، فهو خطأ، وإن أراد به حصول الفهم به مع كونه محذوفا فهو صحيح، وإن أراد به إلحاقه بالمجاز فيلزمه تسمية الاسماء العربية مجازا‏.‏

مسألة ‏(‏رفع الخطأ والنسيان‏)‏
قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي بالوضع نفي نفس الخطأ والنسيان وليس كذلك، وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف، فالمراد به رفع حكمه لا على الاطلاق، بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ، فقد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل لغيره‏:‏ رفعت عنك الخطأ والنسيان، إذ يفهم منه رفع حكمه لا على الاطلاق، وهو المؤاخذة بالذم والعقوبة فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح فيه، وليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيره، ولا هو مجمل بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا أو إلى العقاب آجلا وبين الغرم والقضاء، لانه لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في كل حكم، كما لم يجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 32‏)‏ عاما في كل فعل، مع أنه لا بد من إضمار فعل، فالحكم هاهنا لا بد من إضماره لاضافة الرفع إليه، كالفعل، ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال، وهو الذم، والعقاب هاهنا والوطئ، ثم فإن قيل‏:‏ فالضمان أيضا عقاب، فليرتفع‏؟‏ قلنا‏:‏ الضمان قد يجب امتحانا ليثاب عليه، لا للانتقام، ولذلك يجب على الصبي والمجنون، وعلى العاقلة بسبب الغير، ويجب حيث يجب الاتلاف، كالمضطر في المخمصة وقد يجب عقابا كما يجب على المعتمد لقتل الصيد ليذوق وبال أمره، وإن وجب على المخطئ بالقتل امتحانا، فغاية ما يلزم أن يقال ينتفي به كل ضمان هو بطريق العقاب لانه مؤاخذة وانتقام بخلاف ما هو بطريق الجبران والامتحان، والمقصود أن من ظن أن هذا اللفظ خاص أو عام لجميع أحكام الخطأ أو مجمل متردد فقد غلط فيه، فإن قيل‏:‏ فلو ورد في موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه، فهل يجعل نفيا لاثره بالكلية حتى يقوم مقام العموم، أو يجعل مجملا‏؟‏ قلنا‏:‏ هو مجمل، يحتمل نفي الاثر مطلقا، ونفي آحاد الآثار، ويصلح أن يراد به الجميع، ولا يترجح أحد الاحتمالات، وهذا عند من لا يقول بصيغة العموم ظاهر، أما من يقول بها فيتبع فيه الصيغة، ولا صيغة للمضمرات، وهذا قد أضمر فيه الاثر، فعلى ماذا يعول في التعميم‏؟‏ فإن قيل‏:‏ هو نفي فيقتضي وضعه نفي الاثر والمؤثر جميعا، فإن تعذر نفي المؤثر بقرينة الحس فالتعذر مقصور عليه، فيبقى الاثر منفيا‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس قوله‏:‏ لا صيام ولا عمل ولا خطأ ولا نسيان، أو رفع الخطأ والنسيان عاما في نفي المؤثر والاثر حتى إذا تعذر في المؤثر، بقي في الاثر، بل هو لنفي المؤثر فقط، والاثر ينتفي ضرورة بانتفاء المؤثر لا بحكم عموم اللفظ وشموله له، فإذا تعذر حمله على المؤثر صار مجازا، إما عن جميع الآثار أو عن بعض الآثار، ولا تترجح الجملة على البعض، ولا أحد الابعاض على غيره‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏نفي الكمال أو الصحة في اللفظ الشرعي‏)‏
في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل، ولا نكاح إلا بولي ولا نكاح إلا بشهود، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، فإن هذا نفي لما ليس منفيا بصورته، فإن صورة النكاح والصوم والصلاة موجودة كالخطأ والنسيان، وقالت المعتزلة‏:‏ هو مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم، وهو أيضا فاسد، بل فساده في هذه الصورة أظهر، فإن الخطأ والنسيان ليس اسما شرعيا، والصلاة والصوم والوضوء والنكاح ألفاظ تصرف الشرع فيها، فهي شرعية، وعرف الشرع في تنزيل الاسامي الشرعية على مقاصده، كعرف اللغة على ما قدمنا وجه تصرف الشرع في هذه الالفاظ، فلا يشك في أن الشرع ليس يقصد بكلامه نفي الصورة فيكون خلفا، بل يريد نفي الوضوء والصوم والنكاح الشرعي، فعرف الشرع يزيل هذا الاحتمال فكأنه صرح بنفي نفس الصلاة الشرعية والنكاح الشرعي، فإن قيل‏:‏ فيحتمل نفي الصحة ونفي الكمال، أي لا صلاة كاملة ولا صوم فاضلا ولا نكاح مؤكدا ثابتا، فهل هو محتمل بينهما‏؟‏ قلنا‏:‏ ذهب القاضي إلى أنه مردد بين نفي الكمال والصحة، إذ لا بد من إضمار الصحة أو الكمال، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمختار أنه ظاهر في نفي الصحة محتمل لنفي الكمال على سبيل التأويل، لان الوضوء والصوم صارا عبارة عن الشرعي، وقوله‏:‏ لا صيام صريح في نفي الصوم، ومهما حصل الصوم الشرعي، وإن لم يكن فاضلا كاملا كان ذلك على خلاف مقتضى النفي، فإن قيل‏:‏ فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا عمل إلا بنية من قبيل قوله‏:‏ لا صلاة أو من قبيل قوله‏:‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان قلنا‏:‏ الخطأ والنسيان ليسا من الاسماء الشرعية، والصوم والصلاة من الاسماء الشرعية، وأما العمل فليس للشرع فيه تصرف، وكيفما كان، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا عمل إلا بنية وقوله‏:‏ إنما الاعمال بالنيات يقتضي عرف الاستعمال نفي جدواه وفائدته، كما يقتضي عرف الشرع نفي الصحة في الصوم والصلاة، فليس هذا من المجملات، بل من المألوف في عرف الاستعمال قولهم‏:‏ لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله، ولا طاعة إلا له، ولا عمل إلا ما نفع وأجدى، وكل ذلك نفي لما لا ينتفي، وهو صدق لان المراد منه نفي مقاصده‏.‏ دقيقة‏:‏ القاضي رحمه الله إنما لزمه جعل اللفظ مجملا بالاضافة إلى الصحة والكمال من حيث أنه نفى الاسماء الشرعية، وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع، فلزمه إضمار شئ في قوله عليه السلام‏:‏ لا صيام أي لا صيام مجزئا صحيحا، أو لا صيام فاضلا كاملا، ولم يكن أحد الاضمارين بأولى من الآخر، وأما نحن إذا اعترفنا بعرف الشرع في هذه الالفاظ صار هذا النفي راجعا إلى نفس الصوم، كقوله‏:‏ لا رجل في البلد، فإنه يرجع إلى نفي الرجل، ولا ينصرف إلى الكمال إلا بقرينة الاحتمال‏.‏

مسألة ‏(‏معنى المجمل‏)‏
إذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو مردد بينهما فهو مجمل، وقال بعض الاصوليين يترجح حمله على ما يفيد معنيين، كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد، لان المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالاضافة إليه أولى، وهذا فاسد، لان حمله على غير المفيد يجعل الكلام عبثا ولغوا يجل عنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما المفيد لمعنى واحد فليس بلغو، وكلماته التي أفادت معنى واحدا لعلها أغلب وأكثر مما يفيد معنيين، فلا معنى لهذا الترجيح‏.‏

مسألة ‏(‏الاحكام المتعددة في اللفظ‏)‏
ما أمكن حمله على حكم متعدد فليس بأولى مما يحمل اللفظ فيه على التقرير على الحكم الأصلي والحكم العقلي والاسم اللغوي لان كل واحد محتمل، وليس حمل الكلام عليه ردا له إلى العبث، وقال قوم‏:‏ حمله على الحكم الشرعي الذي هو فائدة خاصة بالشرع أولى وهو ضعيف، إذ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم العقلي ولا بالاسم اللغوي ولا بالحكم الأصلي، فهذا ترجيح بالتحكم، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة ويحتمل أن يكون المراد به انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها، ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الطواف بالبيت صلاة إذ يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة، أي هو كالصلاة حكما، ويحتمل أن فيه دعاء كما في الصلاة، ويحتمل أنه يسمى صلاة شرعا وإن كان لا يسمى في اللغة صلاة، فهو مجمل بين هذه الجهات ولا ترجيح‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس