مسألة (إجماع أهل المدينة عند مالك)
قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة، وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد، فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت، وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الاسفار، والغزوات والامصار، فلا وجه لكلام مالك، إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لانهم الاكثرون، والعبرة بقول الاكثرين وقد أفسدناه، أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم، فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة، وهذا تحكم، إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة، لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع، ولا إجماع، وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الاصول ولا حاجة إليها هاهنا، وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها، وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة، ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، وقد قال قوم: الحجة في اتفاق الخلفاء الاربعة، وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة، وسيأتي في موضعه.
مسألة (هل يشترط التواتر في الإجماع؟)
اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر، أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة، فيلزمه الاشتراط، والذين أخذوه من السمع اختلفوا، فمنهم من شرط ذلك، لانه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم، لكن بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال.، فإذا لم يكن على وجه الارض مسلم سواهم فهم على الحق. الثاني: أنا لم نتعبد بالباطن، وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا، إذ لا وقوف على الباطن، وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون، لان الله تعالى لا يتعبدنا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به، فإن قيل: كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر، وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف، فإن التكليف يدوم بدوام الحجة، والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة، وعن وجود محمد صلى الله عليه وسلم وتحديه بالنبوة، والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة، بل يجتهدون في طمسها، والسلف من الائمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة، وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الاعلام، وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس، وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها، قلنا: يحتمل أن يقال: ذلك ممتنع لهذه الأدلة، وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر، وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر، فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام، ويحتمل أن يقال: يتصور وقوعها، والله تعالى يديم الاعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار، فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، ووجود معجزته، وإن لم يعترفوا بكونها معجزة، أو يخرق الله تعالى العادة، فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة، بل نقول: قول القليل مع القرائن المعلومة في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة، فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا، فإن قيل: فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد، فلو رجع إلى واحد، فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة؟ قلنا: إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا، قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الامة، فيكون حجة، إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الامة على الضلالة والخطأ، وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع، إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا، ولا أقل من اثنين أو ثلاثة، وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة، فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شئ من ذلك، لان الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر.
مسألة (مذهب الظاهرية)
ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة، وهو فاسد، لان الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة، أعني الكتاب والسنة والعقل، لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الامة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين، ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة، ولهم شبهتان، أضعفهما قولهم الاعتماد على الخبر والآية، وهو قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (النساء: 511) يتناول الذين نعتوا بالايمان، وهم الموجودون وقت نزول الآية، فإن المعدوم لا يوصف بالايمان، ولا يكون له سبيل، وقوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على الخطأ يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم، وهم الموجودون، وهذا باطل، إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والانصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية، فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الامة، ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك، وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع، بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بالاتفاق، وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية. الشبهة الثانية: أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الامة، وليس التابعون جميع الامة، فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الامة، ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الامة، ولا يحرم الاخذ بقول الصحابي، فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين، فعدم وفاقهم أيضا يدفع، لانهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الامة، قالوا: وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة، بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة، فإنهم كل الامة، لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة، فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل، فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة، وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الامة للتابعين؟ والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين، ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة، والتابعين، ولا بعد أن استشهد حمزة، وقد اعترفوا بصحة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك إلا لان الماضي لا يعتبر، والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الامة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت، وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة، فقد قال قوم: يصير قول الصحابي مهجورا لانهم كل الامة، وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول: إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع، إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه، وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته، لانه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الامة، بل فتوى البعض، فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما، وإن قال به صحابي قبلهم، وإن لم يكونوا كل الامة، فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم، ولا يحرم خلافهم، إذ خلاف بعض الامة ليس بحرام، أما أن تكون كلية الامة في شئ دون شئ فهذا متناقض، وجمع بين النفي والاثبات؟ قلنا: ليس بمتناقض، لان الكلية إنما تثبت بالاضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها، فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الامة إذا أجمعوا فيها، أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته، وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى، وأجمع الباقون على خلافه، لا يكون ذلك إجماعا من الامة، ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب، وتكون الكلية حاصلة بالاضافة، فإن قيل: إن كان في الامة غائب لا ينعقد الإجماع دونه، وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة، ولا فتوى فيها، لكن نقول: لو كان حاضرا لكان له قول فيها، فلا بد من موافقته، فليكن الميت قبل التابعين كالغائب؟ قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن الإجماع انعقد دونه، ولو كان غائبا لم ينعقد، لان الغائب في الحال ذو مذهب ور أي بالقوة فتمكن موافقته، ومخالفته، فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه، بخلاف الميت، فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق، لا بالقوة ولا بالفعل، بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لانه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف، فإن قيل: فما أجمع عليه التابعون يندفع، بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل، فإن لم ينقل فلعله خالف، ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الامة؟ قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه، وهذا التحقيق، وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج، إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله، وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة، لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة، وإنما أظهر الموافقة لسبب، ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا، وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت، وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر، فإن قيل: إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع؟ قلنا: والأصل عدم خوضه في الواقعة، وعدم الخلاف والوفاق جميعا، ومع أن الأصل العدم، فالاحتمال لا ينتفي، وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك، ولكن يقال: لا يندفع الإجماع بكل شك، فإن قيل في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة، وإنما الشك في دوامها، وهاهنا الشك في أصل الإجماع، لان الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم، ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف، فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع؟ قلنا: لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين، وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية، وما ذكروه يضاهي قول القائل: الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه، فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة، والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة، وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة، فإنا لا نقول: صار كلية الباقين مشكوكا فيها، هذا تمام الكلام في الركن الأول. الركن الثاني: في نفس الإجماع ونعني به اتفاق فتاوى الامة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض، أفتوا عن اجتهاد أو عن نص، مهما كانت الفتوى نطقا صريحا، وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط، وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد فهذه ثلاث مسائل:
مسألة (الإجماع السكوتي)
إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع، ولا ينسب إلى ساكت قول، وقال قوم: إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع، وشرط قوم انقراض العصر على السكوت، وقال قوم: هو حجة وليس بإجماع، وقال قوم: ليس بحجة ولا إجماع، ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة، والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة، ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة، إلا إذا دلت قرائن الاحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا، وجواز الاخذ به عند السكوت، والدليل عليه أن فتواه، إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد، والسكوت متردد، فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب: الأول: أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول، ونحن لا نطلع عليه، وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته. الثاني: أن يسكت لانه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده، وإن لم يكن هو موافقا عليه، بل كان يعتقد خطأه. الثالث: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الانكار في المجتهدات أصلا، ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية، فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده. الرابع: أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الانكار، ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه. الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته. السادس: أن يسكت، لانه متوقف في المسألة، لانه بعد في مهلة النظر. السابع: أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الانكار، وأغناه عن الاظهار، ثم يكون قد غلط فيه، فترك الانكار عن توهم، إذا رأى الانكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى، وهو مخطئ في وهمه، فإن قيل: لو كان فيه خلاف لظهر؟ قلنا: لو كان فيه وفاق لظهر، فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف. وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر، أما من قال هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو تحكم، لانه قول بعض الامة والعصمة إنما تثبت للكل فقط، فإن قيل: نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على كونه حجة، قلنا: هذا إجماع غير مسلم، بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة، ويعلم المحصلون أن السكوت متردد، وأن قول بعض الامة لا حجة فيه.
مسألة (انعقاد الإجماع باتفاق الامة)
إذا اتفقت كلمة الامة ولو في لحظة انعقد الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ، وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا فاسد، لان الحجة في اتفاقهم لا في موتهم، وقد حصل قبل الموت، فلا يزيده الموت تأكيدا، وحجة الإجماع الآية والخبر، وذلك لا يوجب اعتبار العصر، فإن قيل: ما داموا في الاحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة، قلنا: والكلام في رجوعهم، فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم، إذ يكون أحد الإجماعين خطأ، وهو محال، أما بعضهم فلا يحل له الرجوع، لانه برجوعه خالف إجماع الامة التي وجبت عصمتها عن الخطأ، نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا، والمعصية تجوز على بعض الامة، ولا تجوز على الجميع، فإن قيل: كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع، وإنما يتم بانقراض العصر؟ قلنا: إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف، وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده، وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم، والاتفاق قد حصل، وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق، ثم نقول: كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة؟ ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة، ولهذا قال بعضهم: يكفي موت الاكثر، وهو تحكم آخر لا مستند له، ثم نقول: هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع، فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع، وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم، فيجوز لتابعي الخلاف، وهذا خبط لا أصل له، ولهم شبه: الشبهة الأولى: قولهم إنه: ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط، فيتنبه له، فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط، وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة؟ قلنا: وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه، وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الامة، وأما إذا رجع وقال: تبينت أني غلطت فنقول: إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت، وأما ما قلته في موافقة الامة فلا يحتمل الخطأ، فإن قال: تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا، وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول: إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة، بل موافقة الامة تدل على أن الحكم حق، وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا. الشبهة الثانية: إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع، وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم؟ قلنا: لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده، أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الامة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع. الشبهة الثالثة: أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته، والباقون هم كل الامة، لكنهم في بعض العصر، فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا، فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف، قلنا: قال قوم: يبطل مذهبه ويصير مهجروا، لان الباقين هم كل الامة في ذلك الوقت، وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح، أنهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت، فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته، وليس هذا للعصر، فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه، فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه، لانهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى هذه المسألة. الشبهة الرابعة: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهن، فقال عبيدة السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، قلنا: لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر، ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده، كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال، وأما قول عبيدة: رأيك في الجماعة، ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا، وإنما أراد به أن رأيك في زمان الالفة والجماعة، والاتفاق والطاعة للامام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه.