النظر الثالث في ألفاظه
وفيه ثلاث مسائل:
مسألة (الحقيقة والمجاز)
ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما، فالقرآن يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم، فنقول: المجاز اسم مشترك، قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، والقرآن منزه عن ذلك، ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز، وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه، وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى: {أولئك} (يوسف: 28)، وقوله: {جدارا يريد أن ينقض} (الكهف: 77)، وقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات} (الحج: 04)، فالصلوات كيف تهدم {أو جاء أحد منكم من الغائط} (النساء: 43 والمائدة: 6) {الله نور السماوات والارض} يؤذن الله وهو يريد رسوله. {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (البقرة: 491)، والقصاص حق، فكيف يكون عدوانا؟ {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 04) {ذلول} (البقرة: 51) {ويمكرون ويمكر الله} (الانفال: 03)، {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} (المائدة: 46) {أحاط بهم سرادقها} (الكهف: 92) وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي.
مسألة (هل القرآن كله عربي؟)
قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه، وقال قوم: فيه لغة غير العرب، واحتجوا بأن المشكاة هندية، والاستبرق فارسية، وقوله: {وفاكهة وأبا} (عبس: 13) قال بعضهم: الاب ليس من لغة العرب، والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد العثجاة يعني صدر المجلس، وهو معرب، كمشكاة، وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية، وبين أوزانها، وقال: كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا، وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للاله: لاهوت، وللناس: ناسوت، وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل: 301)، وقال: أقوى الأدلة قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} (فصلت: 44) ولو كان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا بل عربيا وعجميا، ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا: نحن لا نعجز عن العربية، أما العجمية فنعجز عنها، وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي، وقد استعملتها العرب، ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا، وعن إطلاق هذا الاسم عليه، ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا، وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف.
مسألة (المحكم والمتشابه في القرآن)
في القرآن محكم ومتشابه، كما قال تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: 07) واختلفوا في معناه، وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة، ويناسب اللفظ من حيث الوضع ولا يناسبه قولهم: المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما وراء ذلك، ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه، ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد، والحلال والحرام والمتشابه القصص والامثال، وهذا أبعد، بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين: أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال. الثاني: أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله المثبج، والفاسد دون المتشابه، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الاسماء المشتركة، كالقرء، وكقوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة: 732) فإنه مردد بين الزوج والولي، و كاللمس المردد بين المس والوطئ، وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله، فإن قيل: قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران: 7) الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله؟ قلنا: كل واحد محتمل، فإن كان المراد به وقت القيامة، فالوقف أولى، وإلا فالعطف، إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لاحد من الخلق، فإن قيل: فما معنى الحروف في أوائل السور، إذ لا يعرف أحد معناها؟ قلنا: أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل: أحدها: أنها أسامي السور حتى تعرف بها، فيقال: سورة يس وطه، وقيل: ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لانها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الاصغاء فلم يذكرها لارادة معنى، وقيل: إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم، وقد ينبه ببعض الشئ على كله، يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر: يناشدني حاميم والرمح شاجرفهلا تلا حاميم قبل التقدم كنى بحاميم عن القرآن، فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب، فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} (الانعام: 81) و: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) الجهة والاستقرار، وقد أريد به غيره، فهو متشابه؟ قلنا: هيهات فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب، المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شئ، وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب.
النظر الرابع في أحكامه
ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه، وتطرق النسخ إلى مقتضياته، أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها، وأما النسخ فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الاخبار، لان النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا، لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين: أحدهما: إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه. الثاني: إن الكلام على الاخبار قد طال لاجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد، فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى. وهذا: