مسألة (أصناف الواجب)
الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة، ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة، فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه، وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا معنى للايجاب مع التخيير، فإنهما متناقضان، ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا: أما دليل جوازه عقلا: فهو أن السيد إذا قال لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع، وإنما أوجب واحدا لا بعينه، أي واحد أردت، فهذا كلام معقول، ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا، لانه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب، ولا يمكن أن يقال: أوجب واحدا لا بعينه وأما دليل وقوعه شرعا فخصال الكفارة، بل إيجاب إعتاق الرقبة، فإنه بالاضافة إلى أعيان العبيد مخير، وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب، ولا سبيل إلى إيجاب الجمع، وكذلك عقد الامامة لاحد الامامين الصالحين للامامة واجب والجمع محال، فإن قيل: الواجب جميع خصال الكفارة، فلو تركها عوقب على الجميع، ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا، ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر، و قد يسقط الواجب بأسباب دون الاداء، وذلك غير محال، قلنا هذا لا يطرد في الامامين والكفؤين، فإن الجمع فيه حرام، فكيف يكون الكل واجبا؟ ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة، إذ الامة مجمعة على أن الجميع غير واجب. واحتجوا بأن الخصال الثلاث إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالاضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يجب الجميع، تسوية بين المتساويات، وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الايجاب، فينبغي أن يكون هو الواجب، ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره، قلنا ومن سلم لكم أن للافعال أوصافا في ذواتها لاجلها، يوجبها الله تعالى، بل الايجاب إليه، وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالايجاب دون غيرها، وله أن يوجب واحدا لا بعينه، ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال؟ احتجوا: بأن الواجب هو الذي يتعلق به الايجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الايجاب، فيتميز ذلك في علمه، فكان هو الواجب، قلنا: إذا أوجب واحدا لا بعينه فإنا نعلمه غير معين، ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته، ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين، كما هو عليه، وهذا التحقيق، وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الايجاب به، وإنما هو إضافة إلى الخطاب، والخطاب بحسب النطق والذكر، وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه، وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن، فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن، كمن يقول لزوجتيه: إحداكما طالق، فالايجاب قول يتبع النطق، فإن قيل الموجب طالب، ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا: يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين، كما تقول المرأة: زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان، وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت، وبايع أحد هذين الامامين أيهما كان، فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه، وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه، فإن قيل: أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدي به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى؟ قلنا: يعلمه الله تعالى غير معين، ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله، ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى، فإن قيل: فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه، ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد؟ قلنا: لان الوجوب يتحقق بالعقاب، ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه، ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه.
مسألة (أصناف الواجب من حيث الوقت)
الواجب ينقسم بالاضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع، وقال قوم: التوسع يناقض الوجوب، وهو باطل عقلا وشرعا. أما العقل: فإن السيد إذا قال لعبده: خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت، فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي، فهذا معقول، ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا، أو أوجب شيئا مضيقا، وهما محالان، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا. وأما الشرع: فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال، وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لامر الايجاب، مع أنه لا تضييق، فإن قيل: حقيقة الواجب ما لا يسع تركه، بل يعاقب عليه، والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه، فيكون وجوبه في آخر الوقت، أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه، وهذا حد الندب؟ قلنا: كشف الغطاء عن هذا، أن الاقسام في العقل ثلاثة: فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب، وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب، وفعل يعاقب على تركه بالاضافة إلى مجموع الوقت، ولكن لا يعاقب بالاضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا قسم ثالث، فيفتقر إلى عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب، فأولى الالقاب به الواجب الموسع، أو الندب الذي لا يسع تركه، وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا، بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة، وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب، فإذا الاقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ، والذي ذكرناه أولى، فإن قيل: ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالاضافة إلى أول الوقت ندب، إذ يجوز تركه، وبالاضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا يسع تأخيره عنه، وقولكم: أنه ينوي الفرض فمسلم، لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة، ويثاب ثواب معجل الفرض لاثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل، قلنا: قولكم أنه بالاضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ، إذ ليس هذا حد الندب، بل الندب ما يجوز تركه مطلقا، وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط، وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل، وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالاعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر، وكذلك خصال الكفارة، ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل، ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا، يسمى هذا واجبا غير مضيق، وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الاقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة، وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا، وما يجوز تركه مطلقا، فهو قسم ثالث، وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع، إذ يجب نية التعجيل في الزكاة، وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره، ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به، فإن قيل: قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده، وقال قوم: يقع موقوفا، فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا، وإن مات أو جن وقع نفلا، قلنا: لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا، إذ النية قصد يتبع العلم، والوقف باطل إذ الامة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه، إذا قال: نويت أداء فرض الله تعالى، فإن قيل: بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك، فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة، وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم، ولان مجرد قوله: صل في هذا الوق ليس فيه تعرض للعزم، فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة، ولانه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا؟ قلنا: أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم، وسببه أن الغافل لا يكلف، أما إذا لم يغفل عن الامر فلا يلخو عن العزم إلا بضده، وهو العزم على الترك مطلقا، وذلك حرام، وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب، فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان، ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة، فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالاضافة إلى أول الوقت وبالاضافة إلى آخره أيضا، فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله.