.ذكر خروج الرسول إلى الطائف وَعَوْدِهِ إلى مكة:
قَالَ الفقيه أَبُو عمر رضي الله عنه: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نفسه في تلك السنين على القبائل ليمنعوه حتى يبلع رسالات ربه، ولم يقبله أحد منهم، وكلهم كان يقول له: قومه أعلم به، وكيف يصلحنا من أفسد قومه؟ وكان ذلك مما ذخره الله عز وجل للأنصار وأكرمهم به، فلما مات أَبُو طالب اشتد البلاء على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعمد لثقيف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر هم سادة ثقيف، وهم إخوةٌ: عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرٍو، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْن عَمْرٍو، فعرض عليهم نفسه، وأعلمهم بما لقي من قومه، فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط، وقال الآخر: أعجز الله أن يرسل غيرك؟ وقال الثالث: لا أكلمك بعد مجلسك هذا، لئن كنت رسول الله، لأنت أعظم حقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت شر من أكلمك، وهزئوا به، وأفشوا في قومهم ما راجعوه به، وأقعدوا له صفين، فلما مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما جعلوا لا يرفع رجلا ولا يضع رجلا إلا رضخوها بحجارة قد كانوا أعدوها، حتى أدموا رجليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخلص منهم وعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل نخلة منه، وهو مكروب تسيل قدماه بالدماء، وإذا في الحائط عتبة بْن ربيعة، وشيبة بْن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما، يقال له: عداس، وهو نصراني من أهل نينوى، معه عنب، فلما أتاه عداس، قَالَ له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟ قَالَ: من أهل نينوى، فقال النبي عليه السلام: مدينة الرجل الصالح يونس بْن مَتَّى، فقال له عداس: ما يدريك مَنْ يونس بْن مَتَّى؟ وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه، فقال: أنا رسول الله، فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس، خر عداس ساجدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان دما، فلما أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا، فلما أتاهما، قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قَالَ: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله عز وجل يدعى يونس بْن متى، فضحكا به وقالا له: إياك أن يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ السَّرْحِ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟، قَالَ: «لَقِيتُ مِنْ قَوْمِي مَا كَانَ أَشَدَّ، قَالَ: وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ ثَقِيفٍ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى عَبْدِ يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ عَلَى وَجْهِي وَأَنَا مَغْمُومٌ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ وَلا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».