كتب الاستاذ ابراهيم عبد القيوم (رئيس تحرير صحيفة الاتحادي الديمقراطي الأصل)
اتفاقية السلام السودانية
وشهادة من العقيد جون قرنق
كنت شاهداً على توقيع اتفاقية السلام السودانية. وما حدث قبلها بساعات، أي عند وصول طائرة السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، مرشد الختمية إلى مطار أديس ابابا في ذلك الوقت علمنا أن ممثل الرئيس (منقستو هايلي ماريام) قد أبلغ السيد محمد عثمان أن الرئيس مشغول الآن، لأن مؤتمر حزبه على وشك الانعقاد، وانه سيستقبله بعد ثلاثة أيام، وعقب السيد محمد عثمان على كلام المندوب متحدثاً عن العلاقات التاريخية بين السودان واثيوبيا، وما يجب أن يتم الآن لدعم هذه العلاقات، لينفذا من ذلك إلى مستقبل تتحقق فيه تطلعات الشعبين الشقيقين.
أبلغ المندوب الرئيس منقستو بما سمع – وكان أن تمت المقابلة بين السيد محمد عثمان الميرغني بعد ساعتين من وصوله إلى أديس ابابا وقبل المقابلة زحف عدد كبير من السودانيين إلى القصر الجمهوري، بأديس أبابا، وكان بينهم عدد من الاثيوبيين وجاء الرئيس منقستو لتحيتهم، ووقف ينظر إليهم، ثم قال لمن معه "كيف أميز بينهم، وأعرف من هو السوداني، ومن هو الاثيوبي؟ وارتسمت على شفتيه ابتسامة خاطفة وانصرف.
لقد كانت الثقة تامة، بأن السيد محمد عثمان الميرغني سيعود إلى أرض الوطن، وفي يده وثيقة الاتفاقية لأن وفد المقدمة الذي كان يضم عددا ًمن قادة الحزب قد وضع أمام السيد محمد عثمان حقيقة ما سمع من الأخوة الجنوبيين، وبدأت المفاوضات كان الفريق يوسف أحمد يوسف ينقل رأي السيد محمد عثمان الميرغني إلى المتفاوضين – وبعد فترة يأتي الدكتور منصور خالد وهو يحمل اليه ملاحظات الجنوبيين ويعود برأيه في الملاحظات.
خلال المفاوضات كان الوفدان الاعلاميان اللذان رافقا السيد محمد عثمان الميرغني يلتقيان في القاعة القريبة من قاعة المفاوضات , ويتحاوران ويتبادلان النكات، وينفجران ضاحكين، لاحظ هذا أحد الصحفيين الأوروبيين ودنا من أحد الصحفيين الشماليين، وسأله قائلاً:
هل تكره من كان يحدث معك؟
رد عليه الصحفي الشمالي بسؤال هو: وهل لاحظت أن هناك ما يدل على الكراهية بيننا؟
وعاد الصحفي الأوربي يسأل : اذا كنتم لا تكرهون بعضكما البعض اذن لماذا تتقاتلون؟
ورد الصحفي الشمالي : أسباب الحرب ليست بسببنا نحن ولا بسببهم هم، وانما هي بسبب ألغام وضعها أعداء وطننا في طريقنا فانفجرت وسببت الحرب ولقد وعينا هذا، والتقينا هنا، لنقضي على كل الأسباب التي جعلتنا نحارب، ونسير معاً على طريق السلام ، ونؤكد للعالم كله أننا قد تجاوزنا ما حدث، ووعينا أن قوتنا في وحدتنا وأننا دعاة سلام .. واننا بالسلام سوف نقضي على مؤامرة تستهدفنا ، نظر الصحفي الأوربي إلى محدثه، وقال : وهل تستطيعون فعل ذلك ورد عليه الصحفي السوداني : انتظر .. لتعرف نتيجة هذا اللقاء.. نعود إلى المفاوضات. انتهت المفاوضات بين المتفاوضين وجاءت اللحظة التي يلتقي فيها السيد محمد عثمان الميرغني، والعقيد جون قرنق، ليوقعا الاتفاقية.
وفي السادس عشر من نوفمبر عام 1988م وفي لحظة تاريخية مشهودة، أعد لرئيس المتفاوضين مقعدان خاصان في القاعة التي شهدت توقيع الاتفاقية، وتحدث السيد محمد عثمان طويلاً للعقيد جون قرنق، ولاحظ الحاضرون أن العقيد جون قرنق يستمع ولا يتحدث.
وجاء وقت الاتفاق، وأخذ كل منهما موقعه ووقع السيد محمد عثمان، وتلاه العقيد جون قرنق وسجل التاريخ مشهدا ًوطنياً نادراً وتناقلت ابعاده وتفاصيله وكالات الأنباء العالمية.
وجاءت بعد ذلك شهادة العقيد جون قرنق والتي جاء فيها : انه كان محتاراً قبل أن يلتقي السيد محمد عثمان وكان يسأل نفسه : كيف يتفاوض مع رجل دين، وبأية لغة، وبأي أسلوب؟ كان يفكر في هذا حتى عندما جلس أمامه.
قال :وكان علي أن استمع إليه جيداً حتى أعرف أبعاد فكره السياسي، ومنطلقاته الوطنية، لكن ما أثار انتباهي، هو أن الرجل ما أن أخذ يتحدث عن الواقع السوداني، تاريخياً وآنياً ومستقبلياً، حتى أحسست بأني أمام قائد مثقف وسياسي كبير، والزمت نفسي بأن اسمع ولا أتكلم، أن اصغي ولا أقطع عليه حبل تفكيره بحديث مني، لقد تمنيت أن يواصل حديثه ولا يسكت. وفي الوقت نفسه شعرت بأنه صديق لي منذ زمن طويل، وأن علي أن أحتفظ بهذه الصداقة.
تلك كانت شهادة العقيد جون قرنق أما ما جرى بعد توقيع الاتفاقية فاسألوا عنه الأستاذ عبد الله محمد أحمد وزير الثقافة والاعلام في ذلك الوقت. والسياسيين الذين ينفذ آراءهم