ولقد ركز هرقل نوعاً ما علي الصدق والإخلاص ، والواقع أن صورة الصدق والإخلاص كان يراهما كل من عرف الرسول صلي الله عليه وسلم ، ولم تعمه عصيبة ، أو حسد أو هوي.
علي أن صورة الصدق والإخلاص : كانت سمة من السمات ا لتي نصف بها الرسول قبل بعثته ، وبعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه ، لقد لازمته طيلة حياته ، لقد كان مجرد الخبر يلقيه صلوات الله وسلامه عليه ، أخذه أعدى أعدائه علي أن واقع لا محالة . فهذا أميه بين خلف – عدو لدود – يتلاحي مع سعد بن معاذ رضي الله عنه ، يريد أن يمنعه من الطواف بالكعبة ، فيقول له سعد بن معاذ – في حدة المناقشة : لقد سمعت رسول الله صلي الله وعليه وسلم يقول : إنه قاتلك ، ويضطرب قلب أميه بن خلف ويسأل في لهفة وضعف وتخاذل ، أهو قال ذلك حقا ؟ فلما أكد له سعد بن معاذ الخبر أسقط في يده وقال : لئن كان قال ذلك . لقد صدق ، وقتل أميه بن خلف يوم بدر ، علي أن هذه الصورة تتمثل في وضوح بين ، حينما أعلن رسول الله صلوات الله عليه إلي قريش نبويه ، فقال لهم :
( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقوني؟) .
لقد كانت إجابتهم عن هذا السؤال تعبر عن الحقيقة التي لمسوها فيه لقد قالوا :
( نعم أنت عندنا غير متهم ، وما جربنا عليك كذباً قط ) .
وصورة أخرى ، صورة لم يترتب لها ترتيب مروي ولم يؤد إليها منطق محكم ، صورة لم تكن نتيجة عشرة طويلة ، ولا رفقة قريبة ، وإنما جاءت علي البديهة ، وأوحت بها الملاحظة السليمة .
إنها الصورة التي كونتها عنه صلوات الله عليه وسلامه أم معبد الخزاعية وهي صورة لا تخص الجانب المعنوي منه وإنما تتصل – علي الأخص – بالجانب الظاهر ، وأردنا أن نثبتها هنا لنثبت بها : ( هيئة ) وظاهر بعد أن أثبتنا زوايا من المعنويات ، وجوانب من التقدير والإجلال إن الصورة التي نثبتها الآن مجرد وصف إنها تعبير عن ملاحظة .
هاجر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من مكة إلي المدينة ، يرافقه أبو بكر رضي الله عنه ، وعامر بن فهيرة مولي أبي بكر ودليلهم : عبد الله بن أريقط .
مروا بخيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت أمرأة قوية الأخلاق عفيفة تقابل الرجال فتتحدث إليهم وتستضيفهم . وسألها الركب عن تمر أو لحم يشتروه فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك ، فقد كانت سنة من السنين العجاف ، فقالت لهم :
والله لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى . فنظر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي شاة في ركن الخيمة فقال :
( ما هذه الشاة يا أم معبد .؟ )
قالت : هذه شاة خلفها التعب عن الغنم .
فقال صلوات الله وسلامه عليه : ( هل بها من لبن ؟ ) فقالت :
هي أجهد من ذلك .
قال : ( أتأذنين أن أحلبها ) ؟
قالت : نعم بأبي أنت وأمي أن رأيت بها حلباً .
فدعا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالشاة فسمح ضرعها،ذاكرا اسم الله وقال : ( اللهم بارك لها في شاتها )
فامتلأ ضرع الشاة ودر لبنها ، فدعا بإناء لها كبير ، فحلب فيه فملأه فسقى أم معبد فشربت حتي رويت ، وسقى اصحابه حتي أرتو، وشرب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه آخرهم وقال ( ساقي القوم آخرهم ) .
فشربوا جميعاً مرة بعد مرة .
ثم جلب فيه ثانية عودا علي بدء ، فغادروه عندها ، ثم ارتحلوا عنها فما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنازا ً عجافاً هزلي فلما رأي اللبن عجب واستغرب وقال :
( من أين لكم هذا ولا حلوبة في البيت ) ؟
قالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيث وكيت .
قال : و الله إني لأراه صاحب قريش الذي يطلب ، صفية لي يا أم معبد ؟
قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، متبلج (مشرق) الوجه ، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ) ضخامة البطن (ولم تزر به صعلة) لم يشنه صغر الرأس ،وسيم قسيم ، في عينية دعج ، وفي أشفارة وطف (طويل شعر الأجفان) وفي صوته صحل (رخيم الصوت) أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر في عنقه سطح ( ارتفاع وطول) وفي لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء وكان منطقة خرزات نظم يتحدرن ، جلو المنطق ، فصل لانزو ولا هذر (لاعي فيه ولا ثرثرة في كلامه) ، أجهر الناس وأجملهن من بعيد ، وأحلاهم وأحسنهم من قريب ، ربعة ( وسط ا بين الطول والقصر) لا تشنؤه (تبغضه) من طول ، ولا تقتحمه عين (تحتقره) من قصر، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً له رفقاء يخصون به ، إذا قال استمعوا لقوله ، وإذا أمر تبادروا إلي أمره ، محفود ( يسرع أصحابه في طاعته) ، محشود (يحتشد الناس حوله) لا عابث ولا مفتد (غير مخرف في الكلام) .
قال أبو معبد : هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر ، ولو كنت وافقته يا أم معبد لتلمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلاً .
هذه هي الصورة التي حاولت أم معبد رسمها .
أما سيدنا عمرو بن العاص فإنه يقول في صراحة وصدق – عندما حضرته الوفاة وعندما تذكر الماضي فخنقته العبرات ، وتحدث مع ابنه عن أشياء عدة في صورة مؤثرة - : ( ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلي الله عليه وسلامه ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أ طقت : لأني لم أكن أملأ عيني منه ) .
والآن نريد أن نتساءل : ما هي الصور التي نريد أن نرسمها هنا ؟
فنقول : إننا لا نرسم صورا كاملة : فالصور الكاملة لا يتأتي لمثلنا أن يرسمها ونحن هنا ، إنما نحاول رسم جملة من زوايا شاعرين بتقصيرنا ، معترفين بعجزنا ، ولكن أملنا كبير في أن تكون هذه الصور باعثة لتصحيح بعض الأوضاع ، وأن تكون علي ما فيها من عجز وقصور ، ممثلة لبعض ما نكنه لسيد ولد آدم : من حب وإيمان ، وأن تكون بذلك شفيعة لنا عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي بقلب سليم .
ومع هذه الزوايا التي نحاول أن نرسمها فإنه لا يعزب قط عن بالنا قول إمامنا البوصيري رحمه الله عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذه الأبيات ، التي تعبر عن الحقيقة تعبيراً صادقاُ .
أعيا الوري فهم معناه فليس يري للقرب والبعد فيه غير متفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد صغيرة وتكل ا لطرف من أمم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم