إنه ليس بنادر في العصر الحاضر أن يجرؤ بعض الناس فتحدث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، وعن خطئه – معاذ الله – في الرأي ، وعن إصابته فيه ، ويسير هذا البعض في حديث أو في كتابته مستنتجاً ومستنبطاً وحاكماً ،وينسى في كل ذلك :
(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3}(2) ،وينسى في كل ذلك يوحي إلي) ، وينسى لست كهيئتكم ) ، وينسى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءالرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً.....{63}
وينسى أن بعض المسائل يمكن أن تكون لها حلول مختلفة كلها صحيحة : بعضها رفيق رحيم ، وبعضها عادل حاسم ، و أن الله سبحانه وتعالي قد بين للأمة الإسلامية أن رسوله صلوات الله وسلامه عليه – وهو علي صواب دائماً – إنما يتخذ الحل يتناسب مع حلاه الله به من الرأفة ، وما فطره عليه سبحانه من الرحمة ، وهو الحل الذي يتناسب مع طابع الرسالة الإسلامية العام :
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{107}(1) .
والله سبحانه وتعالى ببيانه ذلك في هذه المواضع التي كان من الممكن أن يقف فيها الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع العدالة الحاسمة ،فعدل عن ذلك إلي الرافة الرحيمة .... إن الله سبحانه وتعالي ببيانه ذلك ، إنما يمدح الرسول صلوات وسلامه عليه ، ويبين أن منزع الرحمة إنماهو الغالب عليه ، صلوات الله وسلامه عليه .
ولم يلغ الله سبحانه اتجاهاً عاماً سار فيه الرسول ، ولم ينقض قضية كلية أقرها ، الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ولم ينف مبدأ أثبته رسوله ، فما كان صلوات الله وسلامه عليه يسير إلا علي هدى من ربه ، وعلي بصيرة من أمره ، وقد شهد الله بذلك حيث قال :
( ..... وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ..... ) (2) .
وما فعل الله في كل ما تمسك به المنحرفون ، وتمحك فيه المتمحكون إلا بيان رحمه الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورأفته : أي أنه سبحانه وتعالي كان يبين في هذه المواطن فضله صلوات الله عليه وسلام عليه وأنه – كما وصفه سبحانه - : علي خلق عظيم ، والبون شاسع بين هذه الوجهة الربانية ، وبين التحدث عن خطأ وصواب ، وأوضاع بشرية يركز عليها ولا يلتفت لسواها .
ولنضرب لذلك مثلاً : إن الذين ديدنهم الجدل يتحدثون كثيراً عن قوله تعالي : (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَأَذِنتَ لَهُمْ ......{43}(3) . ويقذفون مباشرة بقولهم : ( إن العفو لا يكون إلاعن خطأ .
ولهؤلاء نقول : إن الأساليب العربية فيها من أمثال هذا الكثير ، ومنها قولهم مثلاً : غفر الله لك ، لم تشق علي نفسك كل هذه المشقة ؟
عفا الله عنك لم تعني نفسك في سبيل هؤلاء ، وكأن القائل يقول :
رضي الله عنك لم ترهق نفسك كل هذا الإرهاق ؟ إن الآية القرآنية من هذا الوادي .
وضم هذه الآية الكريمة إلي أختها التي في سورة النور: (.....ِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ........{62} (1) . تجد المعني واضحاً جلياً ، وهو أن الله سبحانه ، فوض الأمر لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، في أن يأذن لهم أولا يأذن .
ليس النبي إذن معاتبا ً بهذه الأية – وحاشاه – بل كان صلي الله عليه وسلم مخيراً ، فلما إذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه في الإذن لهم ، إنها أية مدح للرسول غاية في الرقة .. ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم ، وعن هذا القلب الرحيم ، وعن هذه الرحمة الفياضة ، كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصدر في أحكامه ، وما كان في ذلك إلامتبعاً لقوله تعالي :
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{107} (2)
وهكذا الأمر في كل ما يماري فيه الممارون :
ومع ذلك فإننا نريد أن نزيد الأمر وضوحاً في الفرق بين من يركز علي ( بشر ) ومن يركز علي ( يوحي إلي ) لأهميته الكبري ، فنقص القصة التالية ، ذات المغزي العميق والتي وردت في بعض مصنفات شيوخنا: زار بعض السلاطين ضريح أحد الشيوخ – وقال : - هل هنا أحد ممن اجتمع بهذا الشيخ ؟
فأشير إلي شيخ كبير في السن كان حاضراً هنالك ؟
فقال له : هل سمعت شيئاً من كلام الشيخ ؟
فقال : نعم سمعته قال : ( من زارني لا تحرقه النار ) .
فاستغرب السلطان ذلك الكلام ، فقال : كيف يقول شيخكم ذلك ، وأبو جهل رأي النبي صلي الله عليه وسلم وتحرقه النار ؟
فقال ذلك الشيخ لسلطان : أبو جهل لم ير النبي صلي الله عليه وسلم ، إنما رأي ( يتيم أبي طا لب ) ، ولو رآه صلي الله عليه وسلم لم تحرقه النار :
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه ، أي أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة ، واعتقاد أنه رسول الله ، و لو رآه بهذا المعني لم تحرقه النار ، لكنه رآه باحتقار ، واعتقاد أنه ( يتيم أبي طالب ) فلم تنفعه تلك الرؤية .
ولسنا هنا بصدد الحديث عن كلام الشيخ والدخول في جدل يبعدنا عن موضوعنا ، وإنما يهمنا من الأمر أن تتحدث عن كلمة الشيخ للسلطان من أن أبا جهل لم ير النبي صلي الله عليه وسلم وإنما رأي ( يتيم أبي طالب ) .
هذه النظرة لأبي جهل التي نريد أن يتنزه المؤمنون عنها ، و المؤمنون – بحمد الله – لا يقعون في هذاالإثم متعمدين ، وإنما يتسلل هذا الإثم إلي بعض النفوس في صورة لا شعورية ، عندما يركز بعضهم علي بشرية الرسول صلي الله عليه وسلم وكأنه لا شيء فيه غير البشرية .
ومن الغريب أنهم حينما يتحدثون عن البشرية ، ويركزون عليها يعتبرون أنفسهم تقدمين متطورين ، وفاتهم أن هذه النظرة لأبي جهل إنما هي النظرة التي يتبناها المستشرقون والمبشرون في العصر الحاضر ، ليقللوا من شأن الرسول في نظر مواطنيهم .
وما كان المستشرقون في تركيزهم علي بشرية الرسول إلا متابعين في ذلك زعيمهم الأكبر – في هذه النزعة – وهو ابو جهل ، وكل من يركز علي بشرية الرسول من الكتاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين في هذه النزعة ، و ترجع فكرتهم إلي ما قبل ثلاثة عشر قرناً مضت ، يتزعمهم فيها أبو جهل، وأبو الظلمة القلبية كلها !!
ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب ، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فتحدث الله مبيناً طبيعة رسوله الكريمة ، وفطرته الرحيمة ورأفته الواضحة ،ويبين في الوقت نفسه : أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها وليسوا أهلا لها ، لفساد فطرهم وسوء نواياهم .
ومن الحقائق المعروفة أن الإنسان يميل إلي التركيز علي ( بشر ) أو علي : ( يوحي إلي ) إلي حسب قوة شعوره الديني وضعفه ، فالذي لا إيمان له لا يرى إلا البشرية ، ومن ضعف إيمانه يركز علي البشرية ، ويخفف التركيز علي البشرية كلما قوى الإيمان ، ويزداد التركيز علي : ( يوحي إلي) كلما ازداد الإيمان ، حتي يصل الإنسان إلي ألا يرى أو لا يكاد يرى إلا ( يوحي إلي . ) صلوا ت الله وسلام عليه يا سيدي يا رسول الله .
وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس .طرف : ( بشراً ) أو ،( قل :إنما بشر مثلكم ) .
وطرق : ( يوحي إلي ) أو ( رسولا ) وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولاً وارتفاعاً ، انخفاضاً وسمواً .
وإن مقياس الإيمان قوة وضعفاً ، مقياس درجة الإيمان الذي لا يخطئ ، إنما هو ما وقر في القلب أو غلب عليه ، من البشرية ) أو من : ( يوحي إلي ) إنهما يمثلان ما يوضع في كفتي ميزان ..
دع ما ادعته النصارى في نبيهمو** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
ولعلك تتساءل الآن عن هذا الذي لا يرى أو لا يكاد يرى ، إلا : ( يوحي إلي ) ماذا يرى ؟ وكيف يرى ؟
ما هي النظرة التي تناي بنا عن : ( يتيم أبي طالب) لتفربنا من : (الأسوة) . كيف ينبغي أن تكون نظرة المؤمن لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ؟
والواقع أن الصورة الكاملة عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يلزم لها أن يصل الإنسان إلي مستواه صلوات الله وسلامه عليه ، أو إلي ما يقرب من مستواه وذلك لا يتاتي .
بيد أنه إذا استحال ذلك فإنه من الميسور أن نورد صورتين ، إحداهما : جاهلية ، والأخرى إسلامية . والصورتان لسيدنا عمر رضي الله عنه .
أما الصورة الأولي : فإنها ( يتيم أبي طالب ) كان سيدنا عمر ، يراها قبل أن يهديه الله للإسلام ، وأراد سيدنا عمر أن يقتل ( يتيم أبي طالب ) حتي لا تتفرق كلمة القرشين بسببه ، ولكن دعاء رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : ( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بعمرو بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ) كانت قد استجيبت لخير سيدنا عمر فهداه الله للإسلام ، ولازم الرسول صلوات الله وسلامه عليه فناله من بركاته ومن خيره ما هيأه لأن يكون الخليفة الثاني للأمة الإسلامية أجمع ، وأن يعز الله الإسلام به في حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ،وبعد وفاته .
إن سيدنا عمر هذا الذي لم يكن للشيطان عليه من سبيل ، و الذي كان إذا سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر : خشية منه ورهبة ، والذي نزل القرآن أحيانا مصدقاً لما رآه ، إن سيدنا عمر صاحب : ( يا سارية الجبل ) يرسم لنا صورة إسلامية لسيده وحبيبه وصديقه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه .
ولكن هذه الصورة : هي صورة سيدنا عمر ، إنها تتناسب مع مستوي سيدنا عمر وهو من غير شك عظيم .
ماذا كان يمكن أن يقول سيدنا أبو بكر رضوان الله عليه ، وماذا كان يمكن أن يقول سيدناعلي رضي الله عنه ، وماذا كان يمكن أن يكون وصف سيدنا جبريل لو وصفه ؟
إن الله سبحانه وتعالي يقول عنه صلوات الله وسلامه عليه :
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{4}(1) .
وما كانت كلمة السيدة عائشة رضوان الله عليها : ( كان خلقه القرآن ) ، إلا تفسيراً لما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة ، أيمكنك أن تتصورا لمدي الذي تبلغه الآية الكريمة ، وتفسير السيدة عائشة لها ؟ أيتأتي لك أن تحيط بالقرآن ، أستغفر الله وأتوب إليه .
ولنعد إلي الصورة التي حاول رسمها صاحب : ( يا سارية الجبل ) ، لنعد إليها لنثبتها شارحين لبعض حوادثها ، موضحين لبعض إنباتها، وسنجعل الإيضاح بين أقواس .