05-11-2012, 02:09 PM
|
#64
|
|
رد: قرأت لك (40)
أما القسم الأول: فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب ولكن لكي يقدر على أن لا يطيع الغضب ولا يستعمله في الظالم إلا على حد يستحبه الشرع , ويستحسنه العقل، وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة، حتى يصير الحلم والاحتمال خلقاً راسخاً فأما قمع أصل الغيظ من القلب فذلك ليس مقتضى الطبع وهو غير ممكن نعم يمكن كسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن، وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه، ولكن ذلك شديد جداً وهذا حكم القسم الثالث أيضاً لأن ما صار ضرورياً في حق شخص فلا يمنعه من الغيظ , استغناء غيره عنه. فالرياضة فيه تمنع العمل به وتضعف هجيانه في الباطن حتى لا يشتد التألم بالصبر عليه.وأما القسم الثاني : فيمكن التوصل بالرياضة إلى الانفكاك عن الغضب عليه إذ يمكن إخراج حبه من القلب، وذلك بأن يعلم الإنسان أن وطنه القبر , ومستقره الآخرة , وأن الدنيا معبر يعبر عليها , ويتزود منها قدر الضرورة ، وما وراء ذلك عليه وبال في وطنه ومستقره فيزهد في الدنيا , ويمحو حبها عن قلبه ، ولو كان للإنسان كلب لا يحبه , لا يغضب إذا ضربه غيره ، فالغضب تبع للحب , فالرياضة في هذا تنتهي إلى قمع أصل الغضب , وهو نادر جداً ، وقد تنتهي إلى المنع من استعمال الغضب والعمل بموجبه وهو أهون , فإن قلت : الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب، فمن له شاة مثلاً وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد وإن كان يحصل فيه كراهة، وليس من ضرورة كل كراهة غضب، فإن الإنسان يتألم بالفصد والحجامة ولا يغضب على الفصاد والحجام , فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه , فلا يغضب على أحد من خلقه ؛ إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته , كالقلم في يد الكاتب ، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم، فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها، إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة ، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه وجرحه وقتله ، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه ، فيقول هذا على هذا الوجه غير محال، ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف، تغلب في أحوال مختلفة ولا تدوم، ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً لا يندفع عنه، ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه حتى قال : " اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة " وقال عبد اله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال : " اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق " وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب، ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق، أي لا أعمل بموجب الغضب. وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله صلى الله عليها وسلم : " مالك؟ جاءك شيطانك" فقالت : وما لك شيطان؟ قال : " بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير" ولم يقل: لا شيطان لي، وأراد شيطان الغضب لكن قال: لا يحملني على الشر. وقال علي رضي الله تعالى عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له " فكان يغضب على الحق، وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته , وحاجته التي لا بد له في دينه منها , فإنما غضب لله ، فلا يمكن الانفكاك عنه , نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره ، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه , وهذا كما أن سلمان لما شتم قال : " إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول. " فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم. وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال : " يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول ، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول . " وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال : " ما ستر الله عنك أكثر " فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان، إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره. وقالت امرأة لمالك بن دينار: " يا مرائي " فقال : " ما عرفني غيرك! " فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء ، ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه. وسب رجل الشعبي فقال : " إن كنت صادقاً فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. " فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم، ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم، فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب؛ فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتعال القلب بمهم، أو بغلبة نظر التوحيد، أو بسبب ثالث : وهو أن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاط فيطفئ شدة حبه لله غيظه، وذلك غير محال في أحوال نادرة. وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها -كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا- ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر أسباب الغضب، وما لا يمكن محوه , يمكن كسره , وتضعيفه , فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه إنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده.بيان الأسباب المهيجة للغضب قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب. وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام: " أي شيء أشد؟ " قال: "غضب الله " قال : " فما يقرب من غضب الله " قال : " أن تغضب " قال: " فما يبدي الغضب وما ينبته؟ " قال عيسى : " الكبر والفخر والتعزز والحمية. "والأسباب المهيجة للغضب هي : " الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة , والمضادة , والغدر , وشدة الحرص على فضول المال , والجاه " ... وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع , وتميت العجب بمعرفتك بنفسك , -كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب- وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك , إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل , وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها , فلا فضل لك على غيرك ، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك , من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة؟ وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك. وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة .
............... يتبع :
|
|
|