(المَحَجة في سير الدُّلجة) إحدى الرسائل النافعة للإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله وذا شيء منها :
خرَّج الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لن ينجي أحداً عملُه " قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ، سددوا وقاربوا ، واغدوا وروحوا وشيء من الدُّلجة والقصد القصد تبلغوا "
وخرج من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال : " سددوا وقاربوا وأبشروا ، فإنه لا يدخل الجنة أحداً عملُه " قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ".
اشتمل الحديثان على أصل عظيم وقاعدة مهمة ويتفرع عليها مسائل :
أما الأصل : فهو أن عمل الإنسان لاينجيه من النار ، ولايدخله الجنة ، ,أن ذلك كله إنما يحصل بمغفرة الله ورحمته .
وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى : " فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار " (آل عمران /195) . وقوله تعالى : " تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم من ذنوبكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار " (الصف /12،11) فقرن بين دخول الجنة والنجاة من النار ، وبين المغفرة والرحمة فدل على أنه لاينال شيء من ذلك بدون مغفرة الله ورحمته .
قال بعض السلف : الآخرة إما عفو الله أو النار ، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة .
وكان محمد بن واسع -رحمه الله- يودع أصحابه عند موته ويقول : عليكم السلام إلى النار أو يعفو الله .
فأما قوله تعالى : " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون "(الزخرف/72)، وقوله تعالى :" كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " (الحاقة /24) فقد اختلف العلماء في معنى ذلك على قولين :
أحدهما : أن دخول الجنة برحمته ، ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال . قال ابن عيينة : كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله ، ودخول الجنة بفضله ، واقتسام المنازل بالأعمال .
والثاني : أن الباء المثبتة في قوله تعالى : " بما كنتم تعملون " ، وقوله تعالى " بما أسلفتم في الأيام الخالية " ، باء السببية ، وقد جعل الله العمل سببا لدخول الجنة .
والباء المنفية في قوله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحد الجنة بعمله " باء المقابلة والمعاوضة ، والتقدير لن يستحق أحد دخول الجنة بعمل يعمله . فأزال بذلك توهم من يتوهم أن الجنة ثمن الأعمال ، وأن صاحب العمل يستحق على الله دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إلى صاحبها تسليم سلعته ، فنفى بذلك هذا التوهم ، وبين أن العمل وإن كان سبباً لدخول الجنة ، إنما هو من فضل الله ورحمته .
فصار الدخول مضافاً إلى فضل الله ورحمته ومغفرته ، لأنه هو المتفضل بالسبب والمسبَّب المرتب عليه ، ولم يبق الدخول مرتبا على العمل نفسه .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز و جل يقول للجنة : أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي "
ما للعباد عليه حقُّ واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عُذِّبوا فبعدلهِ أو نُعِّموا... فبفضله وهو الكريم الواسع