(بسم الله ) بدأ الحق كتابه بالبسملة الشريفة لما أحتوت عليه من الأسرار اللطيفة اذ قال بعضهم إن جميع أسرار العلوم فيها و قال بعضهم في النقطة التي تحت الباء هي سر الله المحيط وفيها من العلوم مالا يدخل تحت المحيط و الباء متعلقه بمحذوف باسم الله اقرأ إذا كان المبدوء مقروءا وهكذا يقدر كل شارع في أمر ما يناسبه والله علم على الذات (الرحمن) الذي وسعت رحمته الدنيا و الآخرة ( الرحيم) الجاعل شريف مظهر هذا الاسم في الدار الآخرة و البسملة عند البعض آية من الفاتحة وعند آخرين آية من كل سورة ذكر الجد سيدي عبد الله الميرغني في شرحه على الصلاة المشيشية أن الله تعالى أوحى إلي نبي من الانبياء من أتى يوم القيامة وفي صحيفته أربعة آلاف مرة بسم الله الرحمن الرحيم ركزت لواءه إلي قائمة من قوائم العرش وشفعته في اثني عشر ألف عتيق قدج استوجبوا النار ولولا أني قضيت على كل نفس بالموت ما قبضت روحه ولا يمنعه أن يدخل الجنة إلا أن ينزل به الموت ( الحمد ) هو الثناء بالجميل على جميع النعم (لله ) المستحق له على الحقيقة دون غيره وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام و بالعكس (رب ) وقرئ بالنصب و الرب في اللغة هو المولى ( العالمين ) الثقلين و الملائكة وهو رب و مصلح كل موجود وتربيته للخلق بحسب تنقلاتهم من طور إلي طور واختلاف الأطوار في العباد فتربيته للصغير بإرضاع أمه ثم بتناوله من الطعام شيئا فشيئا إلي أن يقدر على القيام به وتربيته للكبير بزيادة عقله و اتساع فهمه و إدراكه دقائق الأمور بالفطانه وتربيته للعارفين بحسب ترقيهم في منالزل القرب إلي جنابه الأقدس وكماله المقدس
(الرحمن) الذي رحم عباده في الدنيا يالتوفيق إلي الأعمال الصالحة و في الآخرة بالجزاء عليها وزيادة الفضل (الرحيم ) الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة بشهود جماله العالي وتوالي خطابه المتلالي (مالك ) وقرئ ملك وقرئ ملك بالتخفيف وقرئ ملك بلفظ الفعل الماضي وقرئ ملكا بالنصب منونا وملك بالرفع منونا (يوم الدين ) يوم الجزاء وهو يوم القيامة وتخصيصه بذكر ملك هذا اليوم لظهور انفراد الملك فيه للحق دون غيره وإن كان هو المالك لما قبل ذلك وبعده (إياك) مفعول مقدم (نعبد ) فعل مؤخر وقرئ بكسر النون و المعنى أن قيامنا في العبادة بك إذلولا شروق نوره على العبد المتوجه إلي جنابه لم يقم بشيء من الأمور الواجبة عليه الموصلة إلي عظيم رحابه (وإياك ) أي بك (نستعين ) وقرئ بكسر النون أيضا أي واستعانتنا في جميع ما نشتغل به من القربات وغيرها بك لا بغيرك وصلاح أحوالنا في سيرنا بجليل نفعك لا ضرك (اهدنا ) فعل دعاء أي نطلب منك أن تهدينا (الصراط ) وقرئ بالسين وقرئ بين بين (المستقيم ) أي المستوي الذي لا اعوجاج فيه (صراط ) سبيل و طريق (الذين ) موصول (أنعمت ) وتفضلت (عليهم ) من العباد وينبغي للمصلي هنا أن يلاحظ سبيل الأنبياء و الأولياء و الصوفية ومن نحا نحوهم من الأتقياء ( غير المغضوب عليهم ) وهم اليهود (ولا الضالين ) النصارى وقرئ وغير الضالين (آمين ) كلمة دعاء بمعنى استجب لنا وليست من الفاتحة إجماعا وعنه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن أخرجه عبد بن حميد وقال صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب تجزي ما لايجزي شئ من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات أخرجه الديلمي في الفردوس
(بسم الله الرحمن الرحيم الم) الألف إشارة لحضرة الألوهية و اللام لحضرة اللطف و الميم إشارة لمحمد صلى الله عليه و سلم فيكون المقصود من الحروف الله اللطيف ومن جليل لطفه أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين ليهديهم إلي ما يوصلهم إلي جنابه العظيم ويدعوهم إلي ما يدخلهم ديوانه الأسمى وبدلهم على ما يصونهم تحت حجاب عزة الصون الأحمى وقال ابن عباس رضي الله عنه الألف من الله واللام من جبريل و الميم من محمد صلى الله عليه و سلم وقال على غير ذلك وقال بعض بالوقف عن تفسير أوائل السور التي هي مثل هذه كالمر والمص والروكهيعص وطه وطسم وطس ويس و ص وحم وحم عسق وق ونون وفي الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالاها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (ذلك ) المنزل من عند الله وهو ( الكتاب ) القرآن العزيز و الإشارة إليه (لا ريب ) لا شك (فيه) أنه نزل من عند الله وفيه ( هدى ) هداية ( للمتقين ) الملقين أسماعهم لمواعظه و قلوبهم لمعانيه و إفادته وفي الحديث مرفوعا من رزق تقى فقد رزق الدنيا و الآخرة رواه أبو الشيخ (الذين ) موصول وهو نعت للمتقين (يؤمنون ) يصدقون (بالغيب) من أخبار الدار الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين و المسيئين ( ويقيمون ) على أكمل الوجوه ( الصلاة ) لله بالإخلاص و اعتدال الأركان و الحضور فيها ( ومما ) أي ومن الذي ( رزقناهم ) من الأرزاق الحسية و المعنوية ( ينفقون ) فيعطي المؤمن العامي في سبيل الله من الذهب و الفضة و الطعام وغير ذلك ما يقدر عليه و يعطي العارف ذلك و يزيد بإفاضة الأنوار الحقية و الأسرار الفردية و العلوم اللدنية المتلقاة من الحضرة اللإلهية (و الذين يؤمنون ) يصدقون (بما أنزل إليك ) أي القرآن (وما ) أي والذي (أنزل ) من عند الله (من قبلك ) من الكتب الإلهية كعبد الله بن سلام ومن معه من مؤمني أهل الكتب (وبالآخرة) و ما أعد الله فيها من الثواب للمطيعين و العقاب للعاصين ( هم يوقنون ) و يحققون ذلك (أولئك ) المؤنون بالبعث و بما أنزل ( على ) طريق (هدى ) أي هداية (من ربهم ) رباهم بها ووفقهم إليها ( وأولئك ) المذكورين (هم المفلحون ) الفائزون بالتصديق و الجزاء عليه و الوهب و التوفيق (إن الذين كفروا ) كأبي جهل ومن طبع على الكفر (سواء عليهم ) مستو لديهم ( ءأنذرتهم) خوفتهم بالله (أم لم تنذرهم ) أم تركتهم (لايؤمنون ) لسبق الشقاوة لهم (ختم الله ) طبع (على قلوبهم ) و استوثق عليها فلا يدخلها الإيمان (وعلى سمعهم ) فلا يمتثلون أوامر الحق ( وعلى أبصارهم ) أعينهم (غشاوة ) غطاء فلا يبصرون الحق الواضح ( ولهم ) أي للكفار (عذاب عظيم ) متواصل قوى (ومن الناس ) وهم المنافقون ( من يقول ) بلسانه (آمنا بالله و ) آمنا (باليوم الآخر ) وما أعد الله فيه ( وما هم ) على الحقيقة (بمؤمنين ) نفى الله إيمانهم لأنطوائهم على النفاق (يخادعون الله ) بصورة ذلك اللإيمان ( و الذين آمنوا ) كذلك يخادعهم المنافقون لإظهارهم خلاف ما يبطنون خشية من النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين على دمائهم و أموالهم وقرئ يخدعون (وما يخدعون إلا أنفسهم ) فإن وبال ذلك عائد عليهم وقرئ وما يخادعون وقرئ يخدعون بضم الياء وتشديد الدال
(ومايشعرون ) أي ما يحسون بذلك لتماديهم على الغفلة (في قلوبهم مرض ) شك و نفاق (فزادهم الله مرضا ) فشكوا في القرآن كما شكوا في الذي قبله (ولهم ) بسبب كفرهم (عذاب أليم ) مؤلم ( بما كانوا يكذبون ) حيث قالوا آمنا وقرئ يكذبون مشددا أي يكذبون الرسول فيما جاء به (وإذا قيل لهم ) أي للمنافقين ( لا تفسدوا في الأرض ) بمخادعة المسلمين و موالاة الكفار (قالوا ) المنافقون (إنما نحن ) في سعينا (مصلحون ) ليس سعينا سعي فساد بل صلاح ( ألا إنهم ) هذا رد من الله عليهم (هم المفسدون ) في الأرض (ولكن لا يشعرون ) بأنهم مفسدون ( و إذ قيل لهم ) للمنافقين (آمنوا ) ظاهرا و باطنا (كما آمن الناس ) الصحابة (قالوا ) جوابا لذلك (انؤمن ) أنفعل (كما آمن ) كما فعل (السفهاء ) وتسفيهم لهم لأعتقادهم فساد رأيهم وتحقير شأنهم فإن كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء (ألا إنهم ) هذا رد من الله عليهم (هم السفهاء ) الجهلاء بما ينفعهم ( ولكن لا يعلمون ) لا يشعرون بسفهاتهم التي أوجبت لهم فساد دنياهم و آخرتهم (و إذا لقوا ) المنافقون ( الذين آمنوا ) ظاهرا و باطنا (قالوا ) لهم (آمنا ) و ذلك حين اجتماعهم معهم (وإذا خلوا) من المؤمنين وعادوا (إلي شياطينهم ) كبرائهم من الكفار (قالوا إنا معكم ) في الإعتقاد (إنما نحن ) فيما ترونه منا (مستزءون ) مظهرون خلاف ما نبطن (الله يستهزئ بهم ) يجازيهم على استهزائهم (و يمدهم ) بأن يمهلهم و يقويهم وهم (في طغيانهم ) تعديهم الحدود (يعمهون ) يترددون متحيرين (أولئك الذين اشتروا ) استبدلوا (الضلالة ) طريق الغواية (بالهدى) بالسبيل المستقيم واختاروها عليه (فما ربحت تجارتهم ) بل خسرت
(وإن كنتم في ريب ) أي شك (مما نزلنا ) لهدايتكم وبيان وحدانيتنا وظهور صدق نبينا محمد وأوردناه (على عبدنا ) المستكمل لمقام العبودية التي هي أشرف المقامات (فأتوا بسورة من مثله ) أي من مثل هذا القرآن في حسن النظم وبلاغته و إعجازه عن المغيبات وطلاوته (وادعوا شهداءكم ) أي استعينوا بأصنامكم التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها (إن كنتم صادقين ) في أن القرآن ليس بكلام الله وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به من تلقاء نفسه (فإن لم تفعلوا ) ما ذكرنا (ولن تفعلوا ) ولن تستطيعوا ذلك فإنه ليس في وسع مخلوق لأنه كلام الحق (فاتقوا ) احذروا (النار التي وقودها الناس ) أي الذي يوقد بها هو الناس ( و الحجارة ) أي الذهب و الفضة اللذان كانوا يكنزونهما و يشتغلون بهما عن الله (أعدت ) هيئت (للكافرين ) الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله و كتابه (وبشر ) أيها المصطفى الكريم وقرئ وبشر على البناء للمفعول (الذين آمنوا ) بالله ورسوله وكتابه (وعملوا الصالحات ) واجتهدوا في الطاعات ( أن لهم جنات ) حدائق محتوية على حور و قصور (تجري من تحتها ) أي من تحت الأشجار (الأنهار ) المحتوية على أنواع الشراب اللطيفة (كلما رزقوا منها) الضمير للجنة ( من ثمرة رزقا ) من أنواع الطعام اللطيفة (قالوا هذا ) مثل ( الذي رزقنا من قبل ) في الدنيا ( وأتوا به ) الضمير للرزق ( متشابها ) أي مشابها لطعام الدنيا في اللون و الصورة و الاسم و أما الطعم واللذة فبعيد وفي الحديث مرفوعا ليس في الجنة شئ لها في الدنيا إلا الأسماء أخرجه في الجامع الصغير (ولهم ) أي للمؤمنين العاملين الصالحات(فيها) الضمير للجنات (ازواج مطهرة ) من القذر والدرن والحيض وسوء الخلق وكل ما هو مستقبح في نساء الدنيا (وهم ) المؤمنون (فيها ) في الجنات (خالدون ) دائمون لا يخرجون منها (إن الله لا يستحي ) لايترك (أن يضرب ) لعباده (مثلا ) وقرئ مثل (ما بعوضة ) أي بالبعوضة فما فوقها ) أكبر منها مثل الذباب و العنكبوت ( فأما الذين آمنوا ) وفكروا في حقائق الأمور (فيعلمون أنه ) أي ضرب المثل ( الحق من ربهم ) الذي لا يسوغ إنكاره ( وما الذين كفروا ) ولم يكن فيهم أهلية أن يعلموا حقائق الأمور ( فيقولون ) منكرين لذلك (ماذا ) ما الذي ( أراد الله بهذا مثلا ) أي فائدة في ضرب المثل به فأجابهم الله فقال ( ويضل به ) أي المثل ( كثيرا ) من العباد ( ويهدي به ) إلي الحق (كثيرا ) منهم فيصدقون ويؤمنون ( وما يضل به ) عن سبيل هدايته ( إلا الفاسقين ) الكافرين الخارجين عن حوطة الإيمان وقرئ يضل على البناء للمفعول والفاسقون بالرفع (الذين ينقضون ) يفسدون ويخربون ويفسخون (عهد الله ) الذي عهده إليهم في الكتب المتقدمة بأن يؤمنوا بحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم (من بعد ميثاقه ) و تأكيده عليهم في إجابة ذلك ( ويقطعون ) جراءة على الله ( ما أمر الله به ) عباده (أن يوصل ) كالرحم ومحاببة المؤمن وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم الرحم شجنة من الرحمن قال الله من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته رواه البخاري ( ويفسدون ) بمنع العباد عن الإسلام ( في الأرض ) وسلوك سبل الهدى ( أولئك هم الخاسرون ) الذين خسروا أنفسهم بإدخالها النار
(كيف تكفرون ) معشر الخاسرون (بالله) المنفرد بالألوهية ( وكنتم أمواتا ) من نطفة ومضغة (فأحياكم ) بنفخ الأرواح فيكم (ثم يميتكم ) حين تنتهي آجالكم ( ثم يحييكم ) بعد الموت (ثم إليه ترجعون ) تردون فيجازيكم على ما عملتم (هو) الله (الذي خلق لكم ) أي لأجلكم ( مافي الأرض جميعا ) تنتفعون به وكذا تعتبرون (ثم استوى ) قصد بارادته (إلي السماءليسويها (فسواهن ) على أحسن أتقان (سبع سموات ) معتدلات ( وهو بكل شيء عليم ) فيحكم صنعته ( ولإذ قال ربك ) أيها النبي العظيم (للملائكة ) الكرام (إني جاعل في الأرض خليفة ) المراد به آدم وفي الآية تعليم المشاورة ( قالوا ) الملائكة ( أتجعل فيها ) الضمير للأرض ( ما يفسد فيها )لا لأن طبع البشر يقتضي الإصلاح و الافساد ( ويسفك الدماء) وذلك من أكبر الفسغاد ( ونحن نسبح ) ملتبسين (بحمدك ) قائلين سبحان الله وبحمده ( ونقدس لك ) وننزه جنابك العظيم عما لا يليق به (قال ) الحق لهم (إني ) وقرئ بفتح الياء (أعلم ) من صلاحه للخلائق (ما لاتعلمون ) أنتم به ( وعلم آدم ) وذلك حين قال الملائكة لن يخلق ربنا خلقا أعلم منا ( الأسماء كلها ) بأن نفث في روعه علم الأسماء كلها حتى القصعة و القصيعة ( ثم عرضهم ) أي عرض المسميات بالأسماء وقرئ عرضهن وعرضها