أجل أنني لا أخجل إذ ذكرت ما قدمناه بالنسبة إلى غيره إذ يكاد يكون ذلك كنقطة في بحر ولكن السودان قدمت من حاجتها لا من فضلاتها وتقديمه شعب فقير مخلص وان تكون صغيرة في ذاتها إلا أنها عظيمة بالنسبة للعاطفة الشريفة التي دفعت إلى ذلك . وفضلا عن ذلك فإني أود أن أقول أن القليل الذي أعطيناه إنما هو ثمرة ما زرعته حكومة جلالتكم من الإحسان فكانت ثمرة الإحسان الشكران. جعلتم العدل أساس ملككم الواسع وكانت روح العدالة والسلام التي امتدت في أنحاء البلاد وما أظهرته حكومة جلالتكم من الاهتمام بشؤون السودان والنصيحة التي بذلت في سبيل تقدمها وإسعادها مادياً وأدبياً وحياة أهل السودان في المستقبل يتوقف على زيادة ارتباط البلاد بإمبراطورية جلالتكم ولذا نضرع إلى الله القدير أن يمنح جلالتكم العمر الطويل المقرون بالسعادة وأن يحفظ بريطانيا العظمى رافعة لواء الحرية والمدنية في العالم ولتخفق راية البريطانية طويلا على السودان ناشرة السلام ، والسلام }
فأجاب جلالة الملك بالإنجليزية وترجم أقواله إلى العربية السير ونجت ما خلاصته : (أشكرك يا سيادة السيد علي الميرغني وبقية أفراد الوفد على خطاب الولاء الذي قدمتموه ، وإني لسعيد اليوم بمقابلتي وفد السودان كما وأنه يسرني أن أجدد معرفتي بكثيرين منكم ممن قابلتهم في بورتسودان عند عودتي من الهند وقد كان يسرني جدا أن تكونوا قد حضرتم حفلات الصلح التي أقيمت يوم السبت الماضي واشترك معكم في الأسف لعدم تمكنكم من الاشتراك فيها. إن ما قامت به حكومة السودان في مدة الحرب تحت رعاية السير ريجنالد ونجت والسير لي استاك مما يوجب الثناء فانه لم يحدث من شغب إلا في دارفور التي لم تكن الحكومة السودانية تدير شؤونها .
أما سلوك الأهالي عموما في بلاد السودان نفسها فكان مقرونا بالإخلاص التام وأني شاعر أن ذلك يعود للخطة المثلى التي سرتم عليها أنتم وزعماء البلاد الدينيون وقادة الرأي العام في البلاد الذين بقدوتكم الشخصية ونصائحكم الرشيدة خدمتم الإمبراطورية أجل خدمة ولذا أشكركم كثيراً عالما أنكم تستمرون في المستقبل كما كنتم في الماضي مؤيدين سلطة حكومته التي استطاعت أن تمد السودان بفوائد عديدة راجياً أن تزيد ذلك في المستقبل أيضا.
واني ارغب عند عودتكم للسودان أن تبلغوا الأهالي والقبائل التي تمثلونها تقديري العظيم لإخلاصهم القلبي وتمنياتي الحارة باستمرار الخير والفلاح في البلاد.
ثم تقدم السير السيد علي الميرغني لجلالة الملك فتبادلا عبارات المجاملة وقام بترجمة ما دار بينهم السير ونجت ، ثم قام أعضاء الوفد واحد بعد واحد حسب ترتيب وقوفهم وحين مثل السيد عبدالرحمن المهدي بين يدي جلالة الملك قدم سيفا قبضته وحمائله من الذهب وهو السيف الذي كان للإمام محمد أحمد المهدي والذي عرف(بسيف النصر) قدم السيد عبدالرحمن سيف والده المهدي قائلا( يا صاحب الجلالة والإمبراطورية العظمى0 بكل خضوع انتهز هذه الفرصة الثمينة التي سمح الدهر بها لأقف بين يدي جلالتكم بإخلاص تام لأقدم لجلالتكم هذا السيف التاريخي(سيف النصر) الذي كان يخص والدي كبرهان أكيد على سلمي وولائي لعرشكم الرفيع ولكي يكون في تسليمه لجلالتكم دليلا قاطعاً ثابتاً لرغبتي أن تجعلوني وجميع اتباعي وأهلي بالسودان في دائرة سلمكم وعطفكم بعد مرور هذه السنين الطويلة التي برهنت فيها لرجالك العاملين المدربين بالسودان عن إخلاصي بالعمل في ظروف مختلفة ويوجد عدد عظيم من أهالي السودان ينتظرون رجوعي حائزا على جزيل عطفكم ويرجون أن يكونوا دائماً من رعاياكم المخلصين ولي الشرف بأن أكون خادمكم المطيع) .
فأجاب الملك قائلا: ( يا حضرة عبدالرحمن المهدي أني أقبل هذا السيف وأقدر عاطفة الولاء التي دعتكم إلى تقديمه لي كبرهان على إخلاصكم وعواطفكم نحوي وأني سأقبله منكم وأعيده لكم ولورثتكم من بعدكم للدفاع عن عرشي وإمبراطوريتي وبصفته برهان على قبول شعائر خضوعكم وخضوع اتباعكم).
ثم ودع الملك وفد السودان الذي عاد إلى الخرطوم عن طريق حلفا في يوم 17 أغسطس 1919م ( ). وفي عصر يوم الخميس 21 أغسطس 1919م اكتظت دار الخرجين بالمدعوين احتفالا بالوفد وحضر المحتفى بهم وعلى رأسهم فضيلة السيد على الميرغني والسيد عبدالرحمن المهدي والشيخ الطيب هاشم والسيد إسماعيل الأزهري والشيخ إبراهيم موسى والشيخ عوض الكريم أبوسن وتحدث باسم نادي الخرجين فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي وتلاه الشاعر عبدالرحمن أفندي شوقي بقصيدة ثم وقف السيد علي الميرغني فشكر أعضاء النادي على حفاوتهم بالوفد وتمنى للنادي كل تقدم وازدهار( )
في يوم السبت 24 يوليو 1920م نال السادة السيد على الميرغني والشريف يوسف الهندي والسيد عبدالرحمن المهدي امتيازاً بإصدار صحيفة فكانت صحيفة حضارة السودان التي تحمل أسماءهم الثلاثة كأصحاب امتياز وتنطق بلسان جميع السودانيين. وقد اختير لرئاسة تحريرها السيد حسين شريف .
بعد نهاية الحرب العالمية (1914 - 1919م) رأى الإنجليز تكوين دولة حليفة لهم في العالم العربي والإسلامي دون أن يكون لها ارتباط بغيرهم 0 وبما أن مصر كانت على صلة قوية بالسودان وهناك اكثر من رابط يربطهما، رأت الإدارة البريطانية العمل على تفريق مصر والسودان وذلك بإبعاد السودان عن فلك السياسة المصرية ، ولا يتم هذا الأمر إلا باختيار ملك للسودان تحت الوصاية البريطانية . وترى الإدارة البريطانية أن هذا الأمر قد يساعد في خلق مملكة سودانية تدور في الفلك البريطاني في المستقبل البعيد0 لكل هذا بعثت الإدارة البريطانية اللورد اللنبي إلى السودان لإنجاز هذه المهمة في إبريل 1923 أجتمع اللورد اللنبي بالسيد على الميرغني بحضور الحاكم العام البريطاني وأحيط الاجتماع بالسرية التامة ، إلى أن كشفت الصحف المصرية أسباب ذلك الاجتماع ونتائجه . عرض اللورد اللنبي على السيد على الميرغني أن ينصب ملكا على السودان إلا أن السيد على رفض المنصب معللا ذلك بأن الملك الذي يصنعه الإنجليز فهو من السهل نزعه.
بعد رفض السيد علي لهذا الأمر فكر الإنجليز في خلق موازنة اجتماعية بالبحث عن الشخص المناسب لتصدر مثل هذا الأمر فكان الأمام عبدالرحمن أبن الإمام المهدي. وكانت الفرصة عندما أحس البريطانيون بمعارضة خفيه لحكمهم مصدرها الختمية بقيادة السيد على الميرغني ، وكان السيد عبدالرحمن المهدي قد استرد حريته بعد أن كان يقيم في أم درمان كما أسلفنا فثقف نفسه وقرأ العلم على الشيخ محمد البدوي ولكن إمكانياته المادية لم تكن بالقدر المطلوب .
وكانت الإدارة البريطانية قد أعدت للسيد عبدالرحمن دوراً في الحياة السياسية كما أسلفنا ، فظهرت فتوى الشيخ مصطفى المراغي مفتى الديار السودانية وقتئذ (بأن راتب المهدي لا يعتبر كتاباً ممنوعاً وغير مرغوب فيه من وجهة النظر الدينية) . ومن ثم ظهرت أول نسخ مطبوعة من راتب الإمام المهدي في عام 1921م وفي عام 1924م ظهرت النسخة الثانية والتي تحمل عبارة " المهدي عليه السلام" والتي كان غير مسموح باستخدامها حتى ذلك التاريخ.