وبما أن السودان ارتبط تاريخياً بما يجري في مصر فقد قام الحاكم البريطاني في السودان بزيارة لبعض المدن للتعرف على الشعور العام لدى المواطنين في حالة إعلان الحرب مع الدولة العثمانية .
وعلى أثر اندلاع الحرب بين الدولتين أذاع الجنرال ريجنالد ونجت الحاكم العام للسودان بلاغ إعلان الحرب بين بريطانيا والدولة العثمانية وطلب من جميع الرعايا في السودان تقديم المساعدة للقوات البريطانية والمصرية والسودانية في حالة وقوع اعتداء على البلاد . كما التقى ونجت بمجموعة من كبار الضباط في الجيش المصري بالخرطوم وشرح لهم وجهة النظر البريطانية وطلب منهم تجديد الولاء والإخلاص للسلطة البريطانية في السودان وتحدث عن إمكانية إعفاء أي جندي أو ضابط من أصل عثماني لا يرغب في رفع السلاح في وجه الجيش العثماني ، ثم اجتمع بالمشائخ والعلماء في الخرطوم وشرح لهم الوضع القائم ، وعبر عما قدمته بريطانيا للشعب السوداني وإنها لا تحمل أي عداء للعالم الإسلامي .
على اثر هذا النشاط المكثف من الحاكم العام أرسل السيد علي الميرغني برقية إلى الحاكم العام يعلن فيها ولاءه للحكومة البريطانية كما حذا حذوه الشريف يوسف الهندي وآخرين( ) . كان لبرقية السيد على الميرغني أثرها الفاعل لدى الحكومة البريطانية لما للسيد علي من تأثير على كثير من السودانيين وخاصة أنه ظهرت بعض الأصوات متمثلة في المشائخ الذين يدعون إلى الرابطة الإسلامية ويوزعون بعض الكتيبات التي تذكر الناس بأنهم مسلمون ولا يجب عليهم محاربة الدولة العثمانية التي تمثل الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت .
غير أن السيد علي الميرغني لم يوقف تعاونه مع البريطانيين عند حد إرسال برقية تأييد ، فقد كان يعلم جيداً أن المطلوب منه دوراً أكبر من ذلك وخاصة أن المستعمر البريطاني الخارج من معركة دحر الحركة المهدية لن يسمح بمراكز قوى خارج سيطرته ، فلذلك لم يألو جهداً في التعاون مع الجنرال ريجنالد ونجت في إقناع الشريف حسين بن علي شريف مكة للقيام بالثورة العربية مما حدا بالسلطات البريطانية منحه لقب (سير) كأول سوداني يمنح ذلك اللقب تقديراً لدوره المتميز في المفاوضات مع الشريف حسين بن علي ( ) ولمساعيه الكبيرة في العمل القضاء على تيار الدعاية للخلافة الإسلامية وكان ذلك في عام 1915م ( ).
في نوفمبر 1917م أصيب السيد علي بوعكة صحية ألزمته الفراش فنقل إلى مصر وهناك وجد الاهتمام من المسؤولين البريطانيين واستقبل عددا منهم طيلة فترة إقامته هناك مؤكداً تعاونه من البريطانيين( ) وأصبح السيد علي الميرغني أهم شخصية سودانية في ذلك الوقت ,
وصفه الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه "بحوث في تاريخ السودان" بأنه حصيف لا يفقد الرؤية . مثقف ثقافة واسعة . يجيد العمل في السياسة وهو المحرك الأساسي لكثير من الحركات ، ولكن من خلف الستار. يكرر باستمرار أنه ليس سياسياً ولكنه يوحي بالخط الذي يريده . حذر لا يقطع في الأمر بسرعة . يتكلم دوماً بالاستعارة . أطلق عليه الإنجليز اسم "ابو الهول" !! يتميز بالازدواجية . يبارك الاستقلال وفي نفس الوقت يتعاون مع المصريين ويساند المطالبين بالاتحاد
تعاون السيد علي تعاونا مخلصاً مع الإنجليز وبالذات في أوائل الحكم الثنائي وكانت الظروف تستدعي ذلك . فالحكم قوي يقابل المعارضة بصرامة . والمراغنة لا يرون بديلاً لحكم الإنجليز فالمهدية حاربتهم وأضرت بهم . وأطلق الناس على الطريقة الختمية "الطريقة الحكومية" لتعاونها مع الحكومة ).
ويقول محجوب باشري عنه ( كان حريصاً جداً في آرائه التي تنقل عنه بطرق غير مباشرة إلا في الضرورة القصوى ، فهو يعلن ذلك في خطاب موجز لا يتعدى الثلاثة أسطر.عرف باطلاعه الواسع ومتابعته للأحداث ، فقد اقتنى مكتبة نادرة كما حرص على مجريات الأحوال في العالم . كما أنه اعتنى بطهارة نفسه والترفع عن الصغائر، فلا يستطيع أحد أن يمسه في سمعته أو في سلوكه أو سلوك أسرته ، فكان منضبطاً حريصاً على الفضائل والمكرمات ، كما أنه قليل الكلام لا يتبسط في حديثه ، بل أنه كان في كثير من الأحيان يتحدث في ما يشبه الحجاب) ( ).
(لم يأبه السيد علي بحسب أو نسب أو جاه بل كان بسيطاً في كل شي وكانت كل الحكومات تقيم له وزناً واحتراماً ) ( )
ويشهد السيد إسماعيل الأزهري على ذلك فيقول ( …ويهمني بهذا المناسبة أن أقرر أن السيد الميرغني لم يطلب مني في أي يوم من الأيام أن أطلعه على أمر من الأمور الدولة، أو أن أسلك في الحكم أسلوباً بعينه) ( )
وظل السيد علي الميرغني حتى قيام الحرب العالمية الأولى وما بعدها الزعيم الديني الأوحد في السودان الذي يلجأ إليه أغلب السودانيين في شتى أمورهم . ونرى أن السلطان علي دينار يرسل له خطاباً طويلا يشكو فيه الحكومة للسيد علي الميرغني ويعلمه بأن الحكومة تمد أعداءه التقليديين من قبائل الرزيقات والكبابيش بالسلاح ( ) لمس الإنجليز تعاون السلطان علي دينار سلطان دارفور مع الشريف أحمد السنوسي ودعوتهما للوقوف بجانب دولة الخلافة العثمانية مما أقلقهم . وخشي الإنجليز من أن يوجه الأتراك دعوة للجهاد فتجد تلك الدعوة المؤازرة من السلطان علي دينار وتجد صدى لدى أبناء غرب السودان الذين يدينون بالولاء المطلق للإمام المهدي ، فما كان من الإنجليز إلا أن اعترفوا بالسيد عبدالرحمن المهدي الذي ولد بعد وفاة أبيه الإمام محمد أحمد المهدي عام 1885م والذي كان يقيم في أم درمان زعيما لطائفة الأنصار رغم أن طائفة الأنصار لم يكن لها وجود رسمي. ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى في 1914م طلبت الحكومة من السيد عبدالرحمن المهدي مساعدتها في الدعوة ضد الأتراك ومساندة الإنجليز . إلا أن الحكومة لم تنس أن تحذره من استغلال هذه الفرصة لتنظيم الموالين لفكرة المهدية ( ) واستجاب السيد عبدالرحمن لذلك وطاف بمناطق الجزيرة وكردفان ودارفور لحشد التأييد للإنجليز ضد الدولة العثمانية .
وهكذا بدأ إحداث التغيير السياسي بإبراز السيد عبدالرحمن المهدي كزعيم ديني ومن ثم ليكتسب مركزاً سياسياً معترف به وكان أول الاعتراف دعوته للإنظمام إلى الوفد الذي سافر إلى لندن لتهنئة بريطانيا على انتصارها في الحرب.
السيد علي رئيساً لوفد السودان :
في يوليو 1919م ترأس السيد على الوفد المتجه إلى لندن في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأربعاء الثاني من يوليو 1919م غادر القطار الخاص والذي يقل وفد السودان إلى لندن عن طريق بورتسودان وقد أحتشد المواطنون لوداع الوفد . وصل الوفد إلى بورتسودان ومنها أبحر إلى لندن في 12 يوليو ووصل لندن في 23 يوليو ونزل في فندق (كارتون) . وفي الساعة الحادية عشر من صباح الاثنين 28 يوليو 1919م استقبل السير ونجت وبرفقه الفيلد مرشال اللورد غرافيل والسير أرثر ولش والسير روثا الدجيم شام والكولنيل السير اودال برناردو حيث تقدموا بالوفد إلى صالون وقلدوا أعضاء الوفد النياشين ومن بعد توجه الوفد إلى قاعة العرش لمقابلة جلالة الملك. وقف الوفد صفاً واحد أمام الملك على الترتيب التالي :السير السيد على الميرغني ، الشريف يوسف الهندي، السيد عبد الرحمن المهدي ، الشيخ الطيب هاشم، الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم ، السيد إسماعيل الأزهري ، الشيخ على التوم ، الشيخ إبراهيم موسى ، الشيخ إبراهيم محمد فرح،الشيخ عوض الكريم أبوسن.ثم تلا رئيس الوفد السير السيد على الميرغني خطاباً جاء فيه:
( يا صاحب الجلالة والإمبراطورية: نحن الذين تم لنا الشرف الرفيع بالمثول لدى جلالتكم :السير السيد على الميرغني ، الشريف يوسف الهندي ،السيد عبدالرحمن المهدي بالنيابة عن زعماء البلاد الدينيين .
والشيخ الطيب هاشم مفتى السودان والشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم رئيس مجلس العلماء والسيد إسماعيل الأزهري( ) قاضي مديرية دارفور بالنيابة عن موظفي الحكومة ورجال المحاكم الشرعية .
والشيخ على التوم ناظر الكبابيش والشيخ إبراهيم موسى ناظر الهدندوة والشيخ إبراهيم محمد فرح ناظر الجعليين والشيخ عوض الكريم عبدالله أبوسن وكيل ناظر الشكرية نيابة عن زعماء الوطنيين الإداريين لدى حكومة البلاد…. نلتمس بالأصالة عن أنفسنا وبالنيابة عن جميع أهالي السودان أن يسمح لنا بأن نتقدم بكل خضوع لجلالتكم تهانينا القلبية على الانتصار المجيد الذي أحرزته جنودكم. إن ثبات جنود الحلفاء المجيد الذي دعا إلى انهزام العدو انهزاماً تاماً وانتصاركم الباهر أوجب الإعجاب العظيم من أهل السودان وأفعم قلوبهم سروراً. وقد تحققوا أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من الحروب لأنه فصل في هذه الحرب في مصير الشعوب الضعيفة . إذ كانت الحرب بين الحق والباطل فغلب الحق وزهق الباطل ومحقت المدنية الهمجية ولم يعدم أهل السودان الثقة في النصر النهائي أبدا فأنه رغما عما سمعناه من استعدادات العدو العظيمة مدة أربعين سنة لم نشك أبداً بالنتيجة لأنه يستحيل أن تقهر أمة جعلت غايتها نصرة الضعيف والمساواة والعدالة . إن أفقر عضو في الإمبراطورية العظيمة وأحداثها (أي السودان) قدم مما لديه بغيرة ونشاط .