بعدها دخلت الأطراف المتحاربة في هدنة غير معلنة امتدت من يناير إلى مايو 1885م وفي شهر مايو اجتمع أمراء المهدية بعد حضور الحسن ود حاشي من أم درمان ليبحثوا أمر الختمية واستقر أمرهم على محاصرة الختمية حتى سقوطها . فأتجه الأمير مصطفى هدل بجيشه لحصار الختمية وعسكر قبالتها . فخرج إليهم السيد بكرى على حصانه ومعه السنجك الحلنقى الحسن أحمد وسنجك الجعليين محمد سعيد زروق فأمر الأمير مصطفى هدل أن تنصب له خيمه شرق معسكر الأنصار ومن ثم أمر الناظر محمد موسى وأحد رجال البني عامر بمقابلة السيد بكري وقراءة منشور المهدى الذي خلاصته ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلى في مساجد مدينة الأبيض والخرطوم وبربر والأزهر وبيت المقدس والمدينة المنورة والكعبة المشرفة ) فكان رد السيد بكرى: هذا سحر ولا يقوله إلا من اتخذ إلهه هواه وضل ضلالا بعيدا) وبعدها عاد السيد بكري للختمية وفى الغد عاد السيد بكرى إلى خيمته المنصوبة شرق المعسكر فأرسل إليه أمراء الأنصار رسالة تقول (هل تحضر عندنا أم نحضر نحن إليك لمتابعة المفاوضات ) فرد بكري بأنه سوف يحضر اليهم.
الاعتداء على السيد بكري :
تشاور الأمراء ليلا في أمرهم واتفقوا على تسليم القيادة للسيد بكرى إذا بايع بالمهدية وذلك لأنهم لاحظوا اندفاع الجيش نحوه والتبرك به عندما قدم إليهم يوم أمس
حضر السيد بكري ومعه كاتباه ابنا عبد الماجد من الجعليين وأحد مواليه مسلحاً بمسدس. وعقد الاجتماع بمنزل الأمير الحسن ود حاشي فجلس السيد بكري وجلس بجانبه بلال و قبالته عوض الكريم وابن أخته0 وعندما اكتمل الاجتماع ابتدر الاجتماع عوض الكريم قائلا: ( نريد منك أن تبايع للمهدية وان تبايع أي من شئت من هؤلاء الأمراء إن شئت تبايع بلال لأن والدته شريفية أو الحسن ود حاشي لأنه عالم وقدوة حسنه، أو أن تبايعني أنا لأنني حضرت من المهدى وبايعته) عندئذ أخرج بكري من جيبه خطابا كان المهدى قد أرسله إليه وقرأه عليهم ومضمونه (إذ كنت لا تريد نصرتي فإنني أطلب منك أن تهاجر إلى مكة).
فقال له عوض الكريم كافوت

هذا الخطاب قد فات أوانه، والآن يريد منك أن تبايعه ولا شيء غير ذلك). تجادل السيد بكري وعوض الكريم وكثر بينهم الجدل فأغلظ عوض الكريم القول على السيد بكرى ، فلم يتمالك مولى السيد بكري نفسه فأطلق رصاصه من مسدسه نحو عوض الكريم الذي صرخ بأعلى صوته ووقع على وجهه إلا أن الرصاصة أخطأته فهجم ابن أخته على السيد بكري بالخنجر يريد قتله إلا أن بلالاً حمى السيد بجسده الضخم وجرح جرحا بليغا بينما جرح السيد بكرى في قدمه ويده ومن ثم هاج المعسكر وماج وهجم الجعليون على خفراء السيد بكري وكاتبيه وقتلوهم بينما فر مولى السيد بكري الذي أطلق الرصاصة إلى الختمية . وكان الناظر محمد موسى في طريقه إلى مكان الاجتماع عندما سمع إطلاق الرصاص فوصل مسرعا ووجد الجعليين وقد تحصنوا بزريبتهم بينما تجمع الهدندوه في صف واحد استعداداً لقتال الجعليين ، وعندما رأى الناظر السيد بكري جريحا وبلال تسيل منه الدماء صرخ في الهدندوه بأن يهجموا على الجعليين إلا أن السيد بكرى أوقف الناظر قائلا ( أنا بخير ولم أمت فلا تأمر أحد بسفك مزيدا من دماء المسلمين وإلا أنني برئ منك ومما يحصل ) . وعندها أوقف الناظر محمد موسى الهدندوه عن مهاجمة الجعليين وعمل على نقل السيد إلي (راكوبته) ( ) بتوكروف ووضع له سريره وهو السرير الوحيد في المعسكر ومن ثم اخرج ثيابه الجديدة من جرابه وفرش بعضها على السرير إذ أن الفرش على الأسرة كانت ممنوعة في المهديه ثم طلب الناظر من السيد بكري أن يلبس ملابسه الجديدة حتى يتم غسل ثيابه الملطخة بالدماء وقد عمل الناظر ومن حوله لإنقاذ السيد بكري من أصابته.و بعد أن ارتاح السيد بكرى واستجمع أنفاسه سأل عن أولاده وأهله بالختمية، فطمأنه الناظر محمد موسىعليهم وجمع نفر من فرسان الهدندوه وذهب بهم إلى الختمية حيث كان الأمير مصطفى هدل قد احتلها وتكامل معه باقي الأمراء. وصل الناظر إلي حوش السيد بكري فوجدوا عوض الكريم كافوت ومعه جمع من خاصته قد احتلوا حوش السيد واستولوا على كل شيء فيه فسألهم الناظر عن أولاد السيد بكري فأنكر عوض الكريم رؤيتهم ولكن واحد من خاصته أومأ للناظر على مكان وجودهم ، فتقدم الناظر إلى الحجرة التي بها أبناء السيد بكري وهما جعفر والحسن فكسر بابها واخرج السيدين منها وعندها حضر له عوض الكريم ومن معه واحتج عوض الكريم على فعل الناظر مدعيا أن السيدين أحد غنائمه وانه لن يتركه بأخذهما فأشرعت سيوف الهدندوة من أغمادها وساد هرج ومرج ثم تبع ذلك لحظة صمت والناظر محمد موسى يسب ويشتم في عوض الكريم والكل مترقب وسيوف الهدندوة تلمع فوق رؤوس أصحاب عوض الكريم كافوت . عندها فسح عوض الكريم وصحبه الطريق للناظر ومن معه فركب السيد جعفر على جواد الناظر وركب السيد الحسن على جواد أنور عيسى الأرتيقي . وقبل أن يتحرك الناظر ومن معه سمعوا خبراً مفاده أن بعض أهل الختمية اعتصموا بجامع السيد الحسن وأن جنود الأنصار يحاصرونهم ويكادون يقتلونهم فأسرع الناظر ومن معه إلى مسجد السيد الحسن وفرقوا الجيش المحيط بهم وفكوا اسر المعتصمين.
بعدها عهد الناظر محمد موسى السيد بكرى وأسرته إلى الناظر محمد عوض ناظر الحلنقة الذي آواهم مكرمين معززين في (ديم أبريد) حيث مكثوا زمنا يتوافد عليهم الزوار بالهدايا من كل معسكرات الأنصار ماعدا معسكر عوض الكريم كافوت .
وبعد حين جاء الشيخ عمارة يوسف أبوسن إلى أبريد واستأذن الناظر محمد عوض بأخذ السيد بكرى وأسرته واستعد السيد بكرى للرحيل مع عمارة .
وصل السيد بكري ومن معه إلى العمدة عوض عجيل زعيم الحمران (وهم فرع من الأشراف الغمريين الأرتيقه) حيث ترك السيد بكري ولديه وأسرته وعماره وواصل رحلته مع العمدة عجيل إلى ( دقا ) بنى عامر حيث استقبله ناظر البني عامر بالترحاب والإجلال وبعدها عرج إلى مصوع حيث عبر منها السيد بكرى البحر إلى مكة المكرمة والتي توفي فيها عام 1304ه . أما أبناء السيد بكرى جعفر والحسن فقد أخذهما عمارة ابوسن إلى جدتهما الشريفة مريم والتي كانت بام درمان حيث كان معتقل السادة المراغنه أيام المهدية .
السيد جعفر بن بكري :
بعد وفاة السيد بكري استقر أبنه جعفر في إرتريا حيث اصبح راعي الطريقة الختمية هناك. وفي الأربعينات من القرن العشرين استلم الراية السيد بكري بن جعفر، فلعب أدوارا هامة في مقاومة الاستعمار الإيطالي والبريطاني والأثيوبي وأصبح زعيماً وطنياً بارزا وأختير رئيسا أعلى للرابطة الإسلامية في إرتريا إبان فترة تقرير المصير ، وبعد وفاته خلفه ابناه عبدالله وإبراهيم .
عبدالله بن بكري بن جعفر:
كان للسيد عبدالله بن بكري بن جعفر الفضل في توطيد أركان الطريقة الختمية في ربوع الريف الإرتري وقد بذل جهوداً جبارة في إقامة الخلاوي القرآنية ومراكز التعليم الخاص وبناء المساجد، وكان دوره بارزاً إبان معاناة الشعب الإرتري الذي حرقت قراه وذاق الأمرين على يد قوات الاحتلال الأثيوبي .
وعلى اثر ذلك انتقل السيد عبدالله إلي بورسودان فكان خير معين لأبناء إرتريا هناك وكانت جهوده في إيواء اللاجئين من مختلف أبناء إرتريا دون تمييز محل إشادة واحترام وتقدير من جميع الإرتريين وذاد ذلك من مكانته وأحترامه وسط نفوس القبائل الإرترية الممتدة من داخل إرتريا حتى شرق السودان إلى إن وافته المنية في أبريل 1993م حيث دفن في سواكن .
كان السيد عبدالله من قلائل المثقفين في إرتريا وكان داعية للسلام في ربوع إرتريا يبصر المواطنين بأمور دينهم وكانت له دروس بعد صلاة العصر في جامع الخلفاء الراشدين بمدينة أسمرا كما كان يحاضر عن الإسلام والمسلمين وأمضى حياته مجاهداً في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ، وخلف ولدين هما إسماعيل ومحمد سر الختم الذين توليا خلافة الطريقة الختمية في إرتريا من بعد والدهما.
الشريفة مريم الميرغنية :
لا يختلف اثنان في شرق السودان على احترام وتوقير الشريفة مريم ، ولا تجد أسرة في شرق السودان لا يوجد ضمن أسماء أبنائها أسم مريم تيمنا بالشريفة . فقد كانت الشريفة مريم بنت السيد هاشم الميرغني علما من أعلام الشرق . وكانت رحمها الله أريجاً طيبا لا يزال الناس في شرق السودان يتنسمون عبيره ، وكانت رحمها الله ظلا ظليلا لا يزال الناس في الشرق يتفيئون ظلاله ، وكانت يد بيضاء حانية وأماً للجميع .
جاء السيد هاشم بن الأستاذ محمد عثمان الميرغني الختم إلي سواكن وطلب مقابلة أحمد عاولي عمر الأرتيقى وعند مقابلته له قال له إنني حضرت لأتزوج ابنتك ولى فيها علامات، اسمها فاطمة ولها علامة تحت انفها.
جاء الأرتيقه إلي سنكات وتم زواج السيد هاشم من فاطمة بنت أحمد عاولى في نفس مكان مسجد الشريفة الحالي . حيث نحرت الذبائح وأقيمت الولائم .
أقام السيد هاشم خمسة عشر يوما أو اكثر بقليل وسافر إلى مصوع التي اتخذها مقرا له ، بعد أن أوصى قائلا إن كان المولود بنتا فسموها (مريم).
ولدت الشريفة مريم وسط أهلها الأشراف الغمريين الأرتيقه واعتنوا بها وكرموها . أما والدها السيد هاشم فقد كان حريصا على تربيتها وتعليمها فاحضر لها معلمين من جده ومكة .. وبعد أن شبت الشريفة مريم فكرت في زيارة والدها بمصوع فسافرت إلى مصوع وقضت هناك شهرين ثم رجعت عائده إلى سواكن .
وعندما بلغت سن الزواج اقترنت الشريفة مريم بالسيد محمد عثمان تاج السر (أبوزينب) الذي أنجب السيدة زينب من زوجة أخرى وتربت في كنف الشريفة مريم إلى أن تزوجها السيد جعفر بن السيد بكري فانجب منها الشريفة فاطمة زوجة السيد علي الميرغني ووالدة ابنيه السيدين محمد عثمان وأحمد الميرغني.
تعتبر الشريفة مريم المرغنية بحق أم المساكين إذا أنها استقرت بسنكات ترعى شؤون أهلها ومحبيها و تتفقد اليتامى والمساكين0 ولا يكاد بيت من بيوت سنكات وسواكن يخلو من أثر من أثارها الكريمة –
اعتقلت سلطات المهدية الشريفة مريم مع من اعتقلت من المراغنة ولما علم الأمير دقنة بالأمر تحرك مسرعا إليها لمكانتها في نفوس أهل الشرق وعمل على فكها من الاعتقال التحفظي وبعث بها إلى ديارها في سواكن عزيزة مكرمة بمعية كل حشمها وتابعيها .
وضمت الشريفة مريم أبناء محمد عثمان بن السيد جعفر بن السيد بكري الثلاثة، محمد سر الختم وهاشم ومريم المشهورة ب (باقدبسيت) إليها في سنكات . تزوج السيد محمد عثمان بن السيد علي الميرغني من الشريفة مريم (باقدبسيت) وتزوج السيد محمد سرالختم من الشريفة رقيه ، وتزوج السيد هاشم من كريمة الشريف طه محمد سعد.
بعد انتهاء فترة المهدية ورجوع الحكم البريطاني شاركت الشريفة مريم في الحياة العامة من خلال موقعها الاجتماعي فناهضت قيام الجمعية التشريعية وعملت على دعم الفصائل الحركة الوطنية في منطقة البحر الأحمر مما أدى إلى التفاف كافة المواطنين حولها . وكان سائقو القطارات يطلقون صفارة معينة عند مرورهم بدارها الكريمة في سنكات كإشارة لالتزامهم المبدئي الثابت بروح المقاومة الشعبية التي عمقتها في نفوسهم وهي ترفض التكريم البريطاني بعرض رتبة (ليدي) عليها وبالرغم من الضغوط التي تعرضت لها بقيت على موقفها الرافض للاستعمار البريطاني .