فلنبحث عن مواصفات القوي الامين و خير مكان لليحث هو الكتاب و السنة و اليكم ما كتبه أ.د. عبدالكريم بكار
قصّ الله جل وعلا علينا خبر موسى مع شعيب عليهما السلام حين جاء مدين ، ووجد ابنتين لشعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ المكان ، وما حدث من تطوع موسى بالسقيا لهما ، وما كان من أمر شعيب حين بلغه ما قام به موسى حيث أرسل له يطلبه ليجزيه على ذلك وذكر لنا القرآن الكريم كذلك نصيحة ابنة شعيب لأبيها باستئجاره ، وعللت ذلك بقوة موسى وأمانته ، ويذكر المفسرون أن شعيباً عليه السلام أثارت حفيظته الغيرة من كلامها ، فقال : وما علمك بقوته وأمانته ؟ فذكرت له أن موسى حمل حجراً من فوق فوهة البئر ، لا يحمله في العادة إلا النفر من الناس وتلك قوته ، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه ، ولم ينظر إليها ، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه ، حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف ما لا تحل له رؤيته وتلك أمانته .
وقد صدق حدسها فهي ما رأت إلا نبياً من أولي العزم المؤتمنين على الوحي ، الأشداء الأقوياء ! وقد قيل : إن أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف حين قال ( عسى أن ينفعنا ) [1] ، وأبو بكر حين اختار عمر لإمارة المؤمنين . [2]
وقد جمعت ابنة شعيب عليه السلام في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين عظيمين ، ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية ، وهما الأمانة والقوة ، وهذه وقفات سريعة معهما :
1- ليست الأمانة هنا إلا رمزاً لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد كالإخلاص والأمانة والصدق والصبر والمروءة ، وأداء الفرائض والكف عن المحرمات ؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه : { إنا عرضنا الأمانة } [3] الآية : إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة [4] ، وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه ، ومشيه أمامها .
أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.
2- الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائماً ، فقد يتحدان ، وقد يتقاطعان فالصبر جزء من الأمانة ؛ لأنه قيمة من القيم ، وهو في ذات الوقت قوة نفسية إرادية ، وإذا كان العلم من جنس القوة ، فإنه يولد نوعاً من الأمانة ؛ إذ أهله أولى الناس بخشية الله ، { إنما يخشى اللهّ من عباده العلماء } [5] والإيمان أجل القيم الإسلامية ، فهو من جنس الأمانة ، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال ، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية :
ظاهرة ( المسلم لا ينتحر ) ! . إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة ، كما يجعل التحقق من إحداهما المعبر للتحقق من الأخرى .
3- سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادراً في بني الإنسان وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة ، والقوي الذي لا يؤتمن ، والموثوق العاجز هم أكثر الناس ، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة كثيرون ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه : » أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة ، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب ، ودخل عمر أيضاً على لفيف من الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير ، فقال : أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي ، فأستعين بهم على أمور المسلمين ! .
4- العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب والإخلاص ضرب من الأمانة ، والصواب وهو هنا موافقة الشريعة ضرب من القوة ، هذا بصورة عامة ، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما يطلب من الآخر ؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب ، فالمجتهد المؤهل ينال أجراً إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئاً ، لكن لا ثواب ألبتة على عمل لا يراد به وجه الله تعالى ، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص ، فكم من مؤسسة يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة ، ثم حققت أهدافها المادية كاملة وكم من مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين ، فأعلنت إفلاسها !
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء ، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين ؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئاً فماذا نعمل به ؟ ! [6]
وقد ولى النبي -صلى الله عليه وسلم-أهل الكفاية الحربية مع أن في الصحابة من هم أتقى منهم وأورع ؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة الجيش أكثر من الأمانة ، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار وطلب بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين فحجبها عنهم لضعفهم .
يتبع