عبادته وبرنامجه اليومي :
لقد ذكرنا ان الوالد رحمه الله كان ذا مشرب جمالي ، فلم يكن يعبد الله علي الخوف .. ولا علي الرجاء ، بل علي الحب العميق الذي تخلل جسده وروحه ، فلقد باع نفسه وماله لله فلا تجده إلا في طاعة من أعمال الخير والبر ، علي مدي الأنفاس .
يدل علي ذلك برنامج الوالد اليومي المتفرد الذي وفقه الله إليه ، والذي كان يبدا عند منتصف الليل , فقد كان مواظباً علي النوم بعد صلاة العشاء مباشرة ، وبعد تناول عشاء خفيف من الزبادي المضروب في كوب من اللبن . وفي الوقت الذي كنا نذهب فيه للنوم ، كان رحمه الله يستيقظ قبيل منتصف الليل ، ويغتسل ، ثم يبدأ برنامج القيام والتهجد .. والتلاوة والذكر والتضرع والمناجاه لحبيبه الاعلى ، ويختمه بالاستغفار عند الاسحار فلا يفوته التجلي الإلهي .. وتنزل الرحمات ، ولا ساعة الإجابة ابدآ .
ثم يوتر قبيل طلوع الفجر ، ثم يقوم بإيقاظنا جميعاً وبعد صلاة الرغيبة والفجر يتلو اوراده ، ويظل يذكر حتي طُلُوع الشّمسِ وتَحِلُّ النَّافِلَةُ ، فيصلي ركعتين ، وعندما ترمض الفصال يصلي الضحي ثمان ركعات ، ثم ياخذ قيلولة خفيفة ليستيقظ عند صلاة الظهر فيصليها وأربعة قبلها ، ثم المغرب وست ركعات بعدها ، ثم العشاء فيتناول العشاء ليواصل برنامجه بعد النوم ، وهو بين كل تلك الاوقات لا يفتر لسانه عن التلاوة التسبيح ، لا يقطعه الا لاكل وشرب او حمام ونوم ، او حديثاً وضرورة ، وله سبحه صغيرة يضبط بها اعداده واوراده وهكذا كان يعمر اوقاته علي مدار اليوم ، طوال عمره ولم يزل لسانه رطباً بذكر الله حتي وفاته . ولم يمنعه حتي مرض الموت عن الذكر وتلاوة القران ، حيث كنا نسمعه كثيراً يردد اخر سورة براءة (لقد جاءكم) واخر سورة الكهف (ان الذين امنوا وعملوا الصالحات .....) ، وهو غائب عن الوعي ، حتي مات علي ذلك .
ومما يدل علي كثرة ذكره ايضاً ان حسن طه المذكور انفاً ذكر انه فتح الخزنة مرة ، فوجد ورقه بخط يد الوالد تقول : اليوم اكملنا توريد عدد ( يا مغيث ) عشرين مليوناً، ولّله الحمد ، وقس عليها غيرها .
اما الزكاة فلم يكن يتهاون في اخراجها عند حلول حولها فيقوم بحسابها والزيادة على الواجب عليه منها ، ويوزعها علي الفقراء والمحتاجين والاهل والمعارف وغيرهم . اما نافلتها من الصدقات والمنح والهبات ، فقد كان ينفق كما ذكرنا بغير حساب ولا اشهار ، ولا من ولا اذي ، وعلي القريب والبعيد ، ويصل بها الرحم والاخوان في الله ، وينفقها في كل وجوه البر .
اما الصيام فلم يمنعه منه الا الالحاح الشديد من الاطباء ، وكان اجود ما يكون في رمضان ، يظهر ذلك من مائدته العامرة . ومن كان يدعوهم عليها طوال الشهر .
اما الحج .. فلم يزد علي حجة الفريضة ، اقتداء بالمصطفي ، صلي الله عليه وسلم ، وابتعاداً عن الرياء ، بل كان يرصد اموال حج النافلة لتحجيج من لم يتمكن من الحج ، وللصرف منها في البر ، وقضاء الحوائج ، حسب فقه الاولويات .
كما كان يكثر من زيارة المقابر ، للاتعاظ والسلام علي اهلها والدعاء لهم . وكان بيتنا بحي نمرة اثنين بالخرطوم ،ويفصل بينه وبين مقر الحزب الان حائط ، وتفتح ابواب البيت علي مقابر فاروق . ومن عجائب الامر ان الوالد كان يلزم مكاناً واحداً داخل المقابر .. يظل يذكر ويتلو ويهدي ثواب ذلك للاموات ويدعو لهم منه ، ثم تمضي الايام ويدفن الوالد بعد وفاته في نفس المكان ، وكانه كوشف بمكان سكنه البرزخي ، فاخذ في اعداده .. وتعميره.. وتهيئته لاستقباله .