أما قبل: الصادق الرزيقي
انهار نظام زين العابدين بن علي أمس في تونس وذاب كقطع البسكويت المغموسة في الماء، بضع ضربات من شعب ثائر وعاطل وجائع دكت حصون واحد من أعتى النظم البوليسية في المنطقة، فقد تولى رئيس المخابرات التونسية ورئيس الوزراء زين العابدين بن علي في عهد الحبيب بورقيبة السلطة في السابع من نوفمبر 1987م، بعد أن أزاح الأخير من كرسي الحكم في تحرك وخطوة دراماتيكية رسمت الدهشة في وجوه التوانسة الذين لم يعرفوا رئيساً في حياتهم منذ الاستقلال في مارس 1956م غير الحبيب بورقيبة.
جاء زين العابدين للسطة مصحوباً بتاريخ مروع من البطش والتجاوزات، فقد كان مديراً للمخابرات العسكرية في بلده منذ 1977م، ثم مديراً لجهاز الأمن العام، وقفز بعدها لمنصب رئيس الوزراء، ولم تمض أشهر قلائل حتى فاجأ التونسيين والعالم ببيان يعلن فيه أن الرئيس بورقيبة لم يعد قادراً على ممارسة مهامه وأعفاه من منصبه، وشرب زين العابدين من نفس الكأس، فرئيس وزرائه محمد الغنوشي أعلن أمس بياناً بذات العبارات، يشير فيه لعدم تمكن بن علي من ممارسة صلاحياته الرئاسية، وتولاها بدلاً عنه في انقلاب أبيض، لكنه بضغط من الجماهير الغاضبة التي اقتلعته من السلطة اقتلاعاً.
أنشأ بن علي نظاماً الأكثر دموية وغلظة في المنطقة، ووجد ترحيباً من الدول الغربية لأنه نفذ بنجاح باهر مخطط تصفية الإسلام في تونس، فقد قمع بن علي بشكل لا يصدق التيار الإسلامي في تونس، وتجرأ على الله عزَّ وجلَّ ومنع الحجاب ووصفه بأنه زي متخلف وطائفي وغير جدير بمواكبة العصر، وسار في خطى أستاذه بورقيبة الذي أفطر في التلفاز في نهار رمضان، ساخراً من الصيام وممعناً في التهكم من الدين والمتدينين.
وجد بن علي حوافز ضخمة من الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا، خاصة في حربه المفتوحة ضد الشعب التونسي وهويته وانتمائه الأصيل وعقيدته التي لم يتراجع عنها، وفتح البلاد باسم الانفتاح على الغرب أمام كل جائحة ومهدد لشعبه، وحكم البلاد بقبضة من حديد، وكل ذلك لم يرهب الشعب التونسي العملاق ولم يفت من عزمه، وظلت الاحتجاجات والثورات تثور في وجه النظام الغاشم، ولم تنكسر لبطشه ولم تنحن لجبروته وغطرسته.
وبلغ الأمر ذروته عندما انغمس النظام في الفساد حتى أخمص قدميه، واتسعت دائرة الإفقار، وعمَّ الفساد البر والبحر، وأصبح بن علي لاهياً عن شعبه، وترك البلاد تسير بلا هدى ولا مسؤولية، حتى تندر الناس أن زوجته هي التي تدير البلاد بدلاً منه، وصارت تونس الخضراء شركة خاصة وضيعة حصرية لرئيسها وأسرته، ولم يتصور بن علي أن الأرض تميد من تحته، أرواح الشهداء الذين ذبحهم وسحلهم، والسجناء الذين امتلأت بهم سجونه المخيفة، كل شيء في تونس التحم مع ثورة الشعب الذي أراد الحياة واستجاب له القدر وانجلي الليل وانكسر القيد، وتحرر الشعب التونسي من ربقة النظام العميل، وأخذ ما يريده بقوته وتصميمه وعزمه.
لكن لا بد من الاعتبار والاتعاظ على طول الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، فالشعوب لا تزال قادرة على التغيير وعلى الفعل السياسي الناجح، وقد ساد الظن أن أدوات تحريك الشارع قد ولت، ولم يعد الشارع سيد نفسه وصاحب تصميم يستطيع قهر الصعاب وتحقيق المعجزات.
وما حدث في تونس هو درس لكل الأنظمة التي تتنكر لشعوبها وتعطيهم ظهرها وتغض الطرف عن فساد مسؤوليها، وتتنكب الطريق القويم، وتخون إرادة شعوبها، وتصم آذانها عن أنينهم وتوجعاتهم.
هذا الدرس التونسي يجب قراءته بدقة، فلا بقاء لنظام أو سلطة متحكمة إن لم ترجع لتستلهم شعاراتها من شعبها، وتصوِّب سياستها لصالح رفاهيته وتسعى لإسعاده.. ولنا في هذا البلد العربي الصغير الساطع عبرة وأي عبرة.