د. إبراهيم بلال .... سيرة فخيمة ومسيرة عظيمة
تقول بطاقته الشخصية بأنه من مواليد العقد الرابع من القرن المنصرم ، والده علي بلال من أسرة البلالاب الشهيرة في قرية حزيمة بمنطقة ريفي كريمة وهي أسرة شغوفة بالعلم والمعرفة ، أفرادها يربطهم رباط المحبة ولهم قدرة على إحتواء القادم إليهم بحميميتهم العالية ، والدته مدينة سيد احمد حامد ترجع أصول والدها لقرية البركل ووالدتها تنحدر من أسرة علي ودعمر بمقاشي . له من الابناء اثنين ومن البنات ثلاث .
شب د. إبراهيم في قرية حزيمة وحفظ القران الكريم يافعاً في خلوة اليمني الشهيرة ، واصل رحلة تعليمه بكريمة ومن ثم الأزهر الشريف ، تخرج من الأزهر متخصصاً في الشريعة واللغة العربية ورجع للسودان في السنوات التي أعقبت الاستقلال وهو من أولئك النفر الذين استنشقوا عبير ثورة اكتوبر 1964م ، كانت له صداقات وعلاقات وثيقة مع طلائع المتعلمين والمثقفين في قرية مقاشي ولعلنا نذكر منهم الأساتذة الأجلاء علي عطا المنان ، أحمد خليفة وحسين مجذوب عليه الرحمة ، زامله في دراسته بالأزهر أدباء وشعراء وكتاب منهم الأديب فاروق الطيب البشير والشاعرجيلي عبد الرحمن رحمهم الله والشاعر تاج السر الحسن أطال الله عمره .
عمل في سلك التعليم وتنقل في محطات كثيرة منها ، كريمة ، عطبرة ،حلفا الجديدة،بورتسودان ، الجزيرة أبا ، الدويم ، القطينة واغترب لمدة خمس سنوات في الجماهيرية الليبية منتدباً من وزارة التعليم .
تقاعد رسمياً في تسعينيات القرن المنصرم وانتقل للعيش بالخرطوم وهناك بدأت رحلته التي تحمل الكثير من الدروس للأجيال ، توقفت كلى د. إبراهيم عن العمل وأجريت له عملية زراعة كلية ناجحة في عام 2000م بمستشفى الملك فهد بالمدينة المنورة ورجع بعدها سالماً غانماً ، كانت السنوات العشر الممتدة من عام 2000م وحتى 16/11/2010م وهو يوم وفاته ذاخرة ومليئة ، فيها أنجز رسالتي الماجستير والدكتوراه والتحق بقسم اللغة العربية بجامعة أفريقيا العالمية وظل بها حتى داهمه المرض الأخير في يونيو من هذا العام وظل يصارعه بجسده المنهك وعزيمته القوية ، انتقل مستشفياً للأردن ورجع منها صبيحة يوم 11/11/2010م وبقي خمسة أيام فقط بعد رجوعه ليغادر دنيانا الفانية فجر يوم عيد الأضحى المبارك وهو من أيام الله المباركة ، دفن بمقابر الصحافة عليه الرحمة وسط دموع وحسرات أصحابه وطلابه وجيرانه وأهله ومحبيه .
لم يكن د. إبراهيم بلال ابن خالتي ووالد زوجتي وصديقي فحسب بل كان أكبر من ذلك بكثير ، على يديه تعلمت الكثير وقد كانت له بصمات واضحة في مسيرة حياتي ،كان ملهماً ومحفزاً ، كان موسوعي الثقافة والاطلاع كاتباً للقصة والمقال ، كان معلماً ومربياً من طراز فريد ، له قدرة عجيبة على التعامل مع الناس بمختلف أعمارهم ودرجات تعليمهم ، يحس الجالس إليه لأول مرة وكأنه يعرفه منذ أمد بعيد ، حباه الله بقدرة على التواصل داخل فضاء الانسانية الرحب ، يبتسم لك في أحلك الظروف ويحيل لحظات الحياة الصعبة إلى أخرى سهلة الاحتمال . كان كحامل المسك ينفحك من طيبه كلما مررت به أو جالسته .
لقد كان خبر رحيل د. إبراهيم فاجعاً وموجعاً ، برحيله هوت آمال الشفاء التي كنت أعلل بها النفس طوال فترة مرضه وهويت معها في جب أحزاني العميق .
حزنت لأنه كان قبلة للكثيرين ينشدون عنده الرأي الراجح والنصح المبين ، حزنت لأنني وجدت الكل في حاجة لمن يواسيه، حزنت لأن أمثال هؤلاء لن نجد لهم بديلاً ، حزين لأنه كان حالة خاصة في عشق الوطن فقد كان حريصاً طوال مسيرة حياته على غرس هذا العشق في نفوس طلابه وطالباته وكل من يلتقيه ، حزين لأنه شاهد معاول الهدم تعمل بلا هوادة في تفتيت وطن أحبه وهام به وهو حب لو وزع على كل هؤلاء الغافلين لأفاقوا قبل ضحى الغد . حزين لأنه لم يستمتع بأصغر أحفاده ( أحمد وابراهيم ) وسيكون حظهما الاستماع فقط لسيرته العطرة .
ألا رحمك الله د. إبراهيم بلال أضعاف غدوك ورواحك في رحلتك التعليمية التنويرية الممتدة ، رحمك الله بقدر سعيك الدؤوب في كل موقع عملت به ، رحمك الله بقدر ما قدمت من خدمة للغة القرآن ، رحمك الله بقدر ما علمت فجودت و ربيت فهذبت ، رحمك الله بقدر ما أمَّ دارك معلمون وطلاب و هاتفك المحبون والأصحاب ، رحمك الله بقدر ما سعيت لإسعاد من حولك ، رحمك الله بقدر صدق دواخلك وصفاء نيتك وحسن مقصدك ، رحمك الله بقدر دروب الخير التي خطيت والنصح الذي أسديت ، رحمك الله بقدر ما عانيت وصبرت ورجوت ودعوت ، رحمك الله رحمة واسعة وأنزلك منزل صدق مع الشهداء والصالحين ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وداعاً أيها الركن الركين وسلام عليك إلى يوم الدين وأنت في مرقدك الوثير بإذن رب العالمين .
محمد العباس الحسين
27/11/2010م