عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2010, 04:55 PM   #6
مصطفى علي
مُشرف المكتبة الصوتية
الصورة الرمزية مصطفى علي



مصطفى علي is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر MSN إلى مصطفى علي إرسال رسالة عبر Yahoo إلى مصطفى علي إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى علي
افتراضي رد: الرسائل الميرغنية .


الرسالة السادسة


منحة الأصحاب لمن أراد سلوك طريق الأصفياء والأحباب


تأليف


أحمد بن عبد الرحمن الشهير بالرطبي


تلميذ السيد محمد سر الختم الميرغني


رضي الله عنه



المقدمة

الحمد لله الذي منح أحبابه حسن لأدب ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المنتخب من خلاصة العرب .
وبعد : فيقول راجي غفران ربه القادر القوي ، أحمد الرطبي بن عبد الرحمن العدوي : هذه نبذة لطيفة في السير إلى الله ، والسلوك في طريق أهل محبته وأصفياه ، جمعتها من كتب القوم ، لينتبه بها من كان مثلي كثير الكسل والنوم ، وذلك بعد الإذن من الأستاذ الأعظم والملاذ الأفخم سيدنا السيد محمد بن القطب السني ، سيدي السيد محمد سر الختم الميرغني ، أمدنا بمددهم الغني ، وجعلنها تبصرت للإخوان ، وتذكرة للأصحاب والخلان ، خصوصاً إخواننا أهل الطريقة الختمية ، المشهورين بالميرغنية ، نفعني الله وإياهم بأهل محبته ، وسقانا من كؤوس مودته ، وسميتها

(منحة الأصحاب لمن أراد سلوك طريق الأصفياء والأحباب )

ورتبتها مقدمة وثلاث فصول وخاتمة ، نبلغ بها إن شاء الله المأمول وحسن الخاتمة

المقدمة في بيان ما يطلب من المريد ابتداءً

اعلم يا أخي أن من أراد سلوك طريق القوم فليتزود بالتقوى ويصحب الأدب ولا بد من دليل لئلا يخشى عليه العطب قال الله تعالى ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ وقال تعالى ]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ فانظر يا أخي قول الله تعالى : أتقاكم ولم يقل أعلمكم ولا أنسبكم ولا أشجعكم ولا أفصحكم إلى غير ذلك . والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، فإذا حصل ذلك منه كان مطمئناً في سيره ، وإذا كان يعلم آداب السير والسلوك كان ذلك أنيسه ، وإذا تلقى عن شيخ كامل كان دليله وجليسه ، فأول ما يجب عليك معرفة الله تعالى ، وهي الجزم المطابق للواقع عن دليل ، لأن العبادة لا تصح إلا بمعرفة المعبود ، فكيف يعبد من لا يعرف ؟ ومعرفته أن يعرف أسمائه وصفاته ، فيجب عليك أن تجزم بأن الله موجود قديم باقي مخالف للحوادث قائم بنفسه واحد في ذاته وفي صفاته وأفعاله ، متصف بالقدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ، ومتصف بكل كمال ، ومنزه عن أضدادها ، وعن كل نقص ، وأنه تعالى يجوز عليه فعل كل ممكن وتركه ، ووجود هذا العالم البديع الشكل هو الدليل على كل ذلك ، لأن كل صنعة لابد لها من صانع ، فإذا علمت ذلك فعليك الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما يجب للرسل ، وهو الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة ، وتنزيههم عن كل ما لا يلق بمقامهم الشريف ، وبما يجوز في حقهم من الأعراض البشرية التي لا تودي إلى نقص في مراتبهم العلية ، وأن تعتقد أن جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق ، وتؤمن بذلك : أي تصديق بقلبك وتقر به بلسانك ، وتعمل بجوارحك بحيث يكون الظاهر مبنيا على الباطن ، أي العمل يكون موافقاً للتصديق ، كما قال سيدي أحمد الدرديري في تحفته : فإن الله تعالى قد أمرنا بأعمال باطنية تتعلق بالقلب ، وأعمال ظاهرية تتعلق بالجوارح الظاهرية ، ونهانا عن أمور باطنية وأمور ظاهرية ، فالباطنية التي أمرنا بها : الإيمان بالله تعالى وبرسوله ، وهو تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما جاء به مما علم من الدين بالضرورة ، والإسلام ، هو انقياد القلب وخضوعه لقبول الأحكام الشرعية ، والرضا بالقضاء ، والتسليم لله تعالى ، والصبر على البلوى ، واعتقاد أن كل نعمة عليك فهي منه تعالى ، والاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور ، وحسن الخلق مع إخوانه والتواضع والخضوع والخوف والرجاء في الله تعالى والإخلاص في العمل وحب الله ورسول وأوليائه ، وبغض أعدائه من حيث أنهم أعداؤه ، وكف النفس عن إتباع الهوى والشهوات ، ومحبة العبد لأخيه ما يحب لنفسه ، ومحاسبة النفس على ما وقع منها من المخالفات . والباطنية التي نهانا الله عنها كالكبر ، والعجب ، والرياء ، وحب المحمدة ، والسمعة ، وحب الرياسة ، والجاه ، والتفاخر ، والحقد ، والحسد ، وهو تمني زوال نعمة الغير ، والمكر ، والشح ، والبخل ، وضد جميع ما تقدم ، لأن ذلك كل ذلك قواطع عن الله ، ووردت الأحاديث بذمها ، وعقاب من اتصف بها كما هو مقرر في محله .
وأما الظاهرية التي أمرنا الله تعالى بها فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، وجميع الفروع المتعلقة بها كفرائض الوضوء والغسل والصلاة وغير ذلك وبغية الأحكام المذكورة في الفقه ،
وأما الظاهرية التي نهانا الله تعالى عنها فكثيرة ، كالزنا وشرب الخمر وأكل أمول الناس بالباطل وقتل النفس وأذية الناس ، ومنها الغيبة والنميمة والسب والطعن في الأعراض وما يتعلق بذلك كله مما بينه الشرع الشريف ، فمن لم يتمسك بذلك كله فليس بمتقي فتجب عليه التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله تعالى من جميع الأوزار ، ومن تمسك بها كان من المتقين الفائزين .
ولما رأى أهل الله أن التمسك بالتقوى على الوجه الأكمل لا يتيسر للنفس إلا بأصول وآداب شرطوا على من أراد أن يتمسك بها تلك الأصول والآداب ، فلأصول ستة : أولها الجوع اختياراً بأن لا يزيد على ثلث البطن عند شدة الجوع ، قال سيدي وأستاذي السيد محمد عثمان الميرغني في حكمه من أعظم ما ينتج الخشوع لدى معشر السالكين : الجوع ، الجوع أحكم حاكم للنفوس ، وأعظم قائد لها إلى حضرة القدوس . لا كن المبتدى لا قدرة له على ذلك ابتداءً ، فيلزم الصوم في الابتداء أمره حتى ترتاض نفسه على ذلك ، ففي الحديث (( يكفي ابن آدم من الطعام لقيماتُ يقمن صلبه )) أو كما قال ، فبالجوع تنكسر النفس وتخضع وتذل ، والله تعالى عند المنكسرة قلوبهم . والثاني العزلة عن الخلق إلا لضرورةٍ من علم أو بيع أو شراء لمن احتاج ذلك . والثالث الصمت ظاهراً وباطناً إلا عن ذكر الله تعالى . والرابع السهر للذكر والفكر في مصنوعات الله ، فالتفكر في ذلك لحظة خير من عبادة سبعين سنة ، وأقله ثلث الليل الأخير إلى طلوع الشمس وارتفاعها ، ويصلي صلاة الشروق ، فعلم من ذلك أن من شأنهم ترك فضول الطعام والكلام والمنام ، الزائد عن الحاجة ، والخامس دوام الذكر الذي لقنه له شيخه ولا يتجاوز إلى غيره إلا بإذنه والأوراد المخصوصة بطريقة شيخه فإنها طريق الفتح . والسادس الشيخ الذي سلك طريقه وعلم ما فيها الذي قال في وصفه السيد الميرغني في حكمه : الشيخ من تواضع ، ووسع خلقه كثير من العالمين ، وحلاه الله بالبسط ، فذلك النافع للمريدين ، إي فلا تجد عنه كبراً ولا تجبراً ولا حسداً ، يرحم الضعيف ، ويعظم الشريف ، ذو معروف وسياسة وفهم ، يحب الفقراء والمساكين ، ويعلم الفرائض والسنن والتوحيد للمريدين .
وأما الآداب فهي كثيرة جداً اقتصرنا منها على المهمات ، بعضها يتعلق بحق الشيخ ، وبعضها يتعلق بالإخوان الذين معه في الطريق ، وبعضها يتعلق بحق العامة ، وبعضها يتعلق بالشخص في نفسه ، وبالتي نذكرها يتيسر له إن شاء الله تعالى ما لم نذكره .


الفصل الأول


في آداب المريد مع شيخه

وهو معظم هذه النبذة ، فأوجب آدابه تعظيمه وتوقيره ظاهراً وباطناً ، وعدم الاعتراض عليه في أفعاله ولو كان ظاهراً أنه حرام ، ولا يؤول ما أنبهم عليه ، بل ويسلم له فعله ، ولا يقل له لما فعلت كذا لأن لمن قال لشيخه لمَ ، لا يفلح أبدا . ومنها تقديمه على غيره وعدم الالتجاء إلى غيره من الصالحين ، فلا يزور ولياً من أهل العصر ، ولا صالحاً ، اللهم إلا بإذنه ، ولا يحضر مجلس غيره ، ولا يسمع من سواه حتى يتم سقيه من كأس شيخه ، وذلك لئلا يطلع على كرامة من أحد منهم فيرى أنه أعلى مقاماً من شيخه فلا ينتفع من شيخه ولا من غيره قال سيدي محي الدين : كم فسد من الزيارة ناس . وخطابي هذا للصادقين المجدين ، لا من تلقن الذكر عنه بقصد التبرك ، ومنها أن لا يقعد وشيخه واقف . ومنها أن لا يسأل شيخه من مسألة ولا تعبير رؤيا طالباً للجواب ، بل يسأل ويسكت ، فإن أجابه وإلا أعرض بقلبه عن طلب الجواب لئلا يصير شيخه محكوماً عليه تحت حُكمه بإلزام ، الجواب لأن طريق القوم تعلم العلم للعمل ، بخلاف غيرهم ، لأنه إذا اطلع الشيخ على أن هذا الأمر يعسر على المريد العمل به في ذلك الوقت ترك تعليمه له ومنها أنه لا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه ، ولا يكلم من بجانبه ، ولا يجيب أحداً دعاه ولو أحد والديه ، ولا ينظر في وجه الشيخ ولا يكلمه إلا همساً ، ولا ينام بحضرته إلا بإذنه في محل الضرورات ككونه معه في مكان واحد ، ولا يجلس على سجادته ، ولا يسبح بسبحته ولا يتوضأ بإبريقه ، ولا يجلس في المكان المعد له ، ولا يلح عليه في أمر ، ولا يسافر ، ولا يتزوج ، ولا يفعل فعلاً من الأمور المهمة إلا بإذنه ، ولا يمسك يده للسلام مثلاً ويده مشغولة بشيء كقلم ، أو أكل أو شرب ، بل يسلم بلسانه ، وينظر بعد ذلك ما يأمره به ، وأن لا يمشي أمامه ، ولا يساويه في مشي إلا بليل مظلم ليكون في مشيه أمامه صوناً له من مصادفة ضرر ، وأن لا يذكره بخير عند أعدائه خوفاً لأن يكون وسيلة لقدحهم فيه ، وأن لا يفشي له سراً ولو نشر بالمناشير ، ولا يستدبره بظهره ولو في الصلاة ، بل يقف في الصف الذي خلفه ، ولا يشير عليه برأي ، إذا استشاره شيخه فإنه غني عن استشارته ، وإنما استشاره تحبيباً وسياسةً ، أو غير ذلك ، وأن لا يستو هب من شيخه شيئاً ، ابتداءً ، ولا يلبس له ثوباً قبل أن يهبه إياه ، فإذا وهبه له فليظهر توقيره ذلك الثوب إظهاراً عظيما . ومنها : أن يحفظه في غيبته كحفظه في حضرته ، وأن يلاحظه بقلبه في جميع أحواله سفراً وحضراً لتعمه بركته ، وأن ولا يعاشر من كان الشيخ يكرهه أو من طرده الشيخ عنه ، وبالجملة يحب من يحبه الشيخ ، ويكره من يكره الشيخ ، وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته ، وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه ،وأن لا يقول لم فعل بفلان كذا من الخير ، ولم يفعل بي ، وإلا لم يكن مسلماً له قياده ، وإذ من أعظم الشروط تسليم قياده له ظاهراً وباطناً ، قال الجيلي

وكن عنده كالميت عند مغسل


يقلبه كيف يشاء وهو مطاوع


أخاطب بذلك المريدين الصادقين . ومنها أن يحمل كلامه على ظاهره ويسعى فيه وإن كان ظاهره مخالفاً فإن الشيخ أعلم ، ومأخوذ عليه من الله النصح ، ولو أنه غلط بُورك للمريد فيه بالاقتداء به ، ولا يعدل المريد عن الظاهر إلا لقرينه صارفةٍ عن إرادة الظاهر ، إذا قال له : اقرأ كذا وصل كذا أو صم كذا ، وجب عليه المبادرة ، وكذا إذا قال له وهو صائم افطر وجب عليه الفطر ، أو قال له : لا تقيم الليل إلى غير ذلك فإنه يطيعه في الأمر والنهي لأنه طبيبه وحكيمه . قال سيدي أبو يزيد البسطامي لتلميذه افطر ولك أجر يوم فأبى ، قال ولك أجر جمعة فأبى ، قال لك أجر شهر فأبي ، قال ولك أجر سنة فأبى ، فقال له بعض الحاضرين مخالفتك هذه تضرك وهذا نفل . فقال لهم الشيخ : دعوا من سقط من عين الله .
واعلم أن الشيخ العارف ربما باسط تلاميذه وخفف عليهم العبادة ، إذا شم منهم رائحة الصدق والاجتهاد ربما شدد عليهم وأعرض عنهم ، وأظهر لهم الجفوة لتموت نفوسهم عن الشهوات وتفنى في حب الله تعالى ، وربما اختبرهم هل يصدقون معه أولا .
ومنها أن لا يوثر أحداً بشيء أعطاه له شيخه ، وأن لا يتغير على شيخه إذا نقصه بين إخوانه أو نهره ، وأن لا يرد على شيخه كلاماً ، ولو كان الحق بيد المريد ، فإن الشيخ إنما يتكلم بحسب السامعين فليقف عند قوله ، ولو سمع من غيره قبل ذلك لا يقول له : سمعت منك أمس غير هذا فإن ذلك جدال ومنازعة وهو حرام في حق المريدين ، ولا فرق أن يكون التنازع بالظاهر أو بالباطن ، وأن لا يفعل ما يغير خاطره ، كأن يسب عبده أو خادمه فضلا عن أن يضربهما ، ولو هرة رآها تتردد إليه فلا ينهرها كرامة لشيخه .
ومنها ملازمة الورد الذي رتبه شيخه فإن مدد الشيخ في ورده الذي رتبه ، فمن تخلف عنه حرم المدد ، وهيهات أن يصح في الطريق ، وأن لا يتجسس على أحوال شيخه من عبادة أو عادة ، فإن في ذلك هلاكه ، وأن لا يدخل عليه خلوة إلا بإذنه ، ولا يرفع الستارة التي فيها شيخه إلا بإذنه وإلا هلك كما وقع الكثير ولا يزوره إلا على طهارة ، لأن حضرة الشيخ حضرة الله وأن يحسن به الظن في كل حال ، وأن يقم محبته على محبة غيره ما عدا الله ورسوله فإنها المقصودة بالذات ومحبة الشيخ وسيلة لها ، وأن لا يكلفه شيئاً حتى ولو المريد قدم من سفر لكان هو الذي يسعى ليسلم على الشيخ ، ولا ينتظر أن الشيخ يأتيه للسلام أو تهنئته أو عزاء أو غير ذلك . واعلم أن من لم يصحب المشايخ بالاحترام والأدب التام عدم فوائدهم وبركات نظرهم ، فلا يظهر عليه من آثارهم شيء ، وكان الجنيد t يقول : من حرم احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت بين العباد ، وقال شيخنا ختم أهل العرفان في حكمه : من أساء الأدب مع شيخ تربيته استحق أن يسقط من عين الله وحضرته . فمن شروط المريد أن لا يصحب من الشيوخ إلا من يقع له حرمة في قلبه ، فإنه أسرع في الانقياد له ، بشرط أن يكون موافقاً للعلماء وأصحاب الحديث في أصولهم واعتقادهم ، وأن يجانب الفقراء الجاهلين والفقهاء الغافلين والوعاظ المداهنين ، ولا يحضر لهم مجلساً فإن مشاهدة أحوالهم توقفه عن مقصوده ، فلا يصحب غير شيخه ، فإذا كمل حاله صح له أن يصحب ما يشاء ، وأن يسمع لشيخه إذا نهاه عن الاجتماع بإخوانه الذين في زاويته فأولى غيرهم ، ومتى طلب المريد أن يجتمع بغير من في حضرة الشيخ زجره وهجره حتى يرجع ، فعلى الشيخ الأمر ، وعلى المريد الاستماع ، وفي هذا القدر كفاية .

الفصل الثاني


في آداب المريد مع إخوانه

منها أن يكون محباً لهم كبيرهم وصغيرهم ، وأن لا يخصص نفسه بشيء دونهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، وأن يعودهم إذا مرضوا ، ويسأل عنهم إذا غابوا ، ويبدأهم بالسلام وطلاقة الوجه ، وأن يراهم خيراً منه ، لأنهم قالوا في كمال مقام التواضع : هو أن يشهد العبد في نفسه أنه دون كل أحد من المسلمين ، وأن ما على وجه الأرض أكثر عصياناً ، ولا أقل أدب وحياءً منه فإن من رأى نفسه فوق أحد من عوام المسلمين على غير وجه الشكر لله تعالى فقد شرع في درجات الكبر ، وقد انعقد إجماع العارفين على أن من كان عنده شيء من الكبر لا يصح له دخول حضرة الله تعالى أبداً ، ولو عبد الله تعالى في الظاهر عبادة الثقلين ، وكان الشيخ القصار رحمه الله تعالى يقول : من رأى نفسه خيراً من فرعون فقد أظهر الكبرياء ، لأن خاتمته مغيبة فقد يختم له ، والعياذ بالله بالكفر ، ويكون مثل فرعون . ومنها أن يحسن الظن بهم ، بل بالخلق كلهم ، وكان سيدي على الخواص t يقول : عليك يا أخي بحسن الظن بالمسلمين ما استعطت ، فإن الله تعالى لا يسألك في الآخرة لم حسنت ظنك بعبادي ، وإنما يسألك عن سوء الظن بهم ، فلو دعاك أخوك إلى وليمة وأجلسك عند النعال وقدم إليك فضلة العبيد والغلمان ، فمن الواجب عليك حمله على أنه ظن فيك الخير والتواضع وزوال الكبر والرعونات النفسانية ، ولو لا أنه ظن بلك ذلك لأخذ حذره منك وصدرك في المجلس وأكرمك كل الإكرام في الطعام ، وقد وقع لسيدي عبد الله المنوفي أنه دعي إلى وليمة فأجلسوه عند النعال هو وأصحابه ، وقالوا له ولأصحابه اصبروا عن الأكل حتى يفرغ الناس فقالوا سمعاً وطاعةً ، وقدموا لهم فضلة العبيد والأطفال صار سيدي عبد الله المنوفي t يلحس الأواني ويقول : اغتنموا بركة جميع من أكل ثم قال لأصحابه : تعلموا حسن الظن بالناس ، فإن هؤلاء لو لا أحسنوا بنا الظن وجعلونا من الصالحين الذين ماتت نفوسهم ما أجلسونا خلف النعال ولا أطعمونا الفضلة . وسمع سيدي أفضل الدين شخصاً يحكي أن أشعب الطماع كان يفت الخبز على دخان جاره فقال شيء لله من مدده فإنه لولا حسن ظنه بجاره ما فت خبزه على دخانه . فاستعن على تحصيل مقام حسن الظن بصحبة الأخيار وترك صحبة الأشرار ، وقد أغوى إبليس خلقاً كثيراً حين ظنوا بأنفسهم الخير والصلاح فوقعوا في أكبر الفواحش . وكان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يقول : ليس لإبليس حيلة يوقع بها الفقراء في المعاصي أكبر من حسن ظنهم بأنفسهم الخير والصلاح فيصرعهم من حيث لا يشعرون لأمانهم وعدم حذرهم منه ، فلا تعشق يا أخي نفسك فما أحد عشق نفسه إلا عشقه الكبر والحسد والذل والإهانة . وكان سيدي عبد العزيز الديرني t يقول : من أراد أن الوجود كله يمده بالخير فليجعل نفسه تحت الخلق كله في الدرجة ، فإن المدد الذي مع الخلق كالماء ، والماء لا يجري إلا في المواضع المنخفضة دون العالية ، فاعلم ذلك واعمل على زوال الظن السوء من باطنك وذلك بمجاهدة النفس ورياضتها والرجوع عليها باللوم مع ملازمة التوحيد حتى تصير لا ترى في أحداً نقصا . وبالجملة لا يسلم من سوء الظن بالناس إلا من طهر الله باطنه من سائر المخالفات بحيث يصير لا تخطر الفاحشة على باله فإنه حينئذ يصير يعتقد في الناس كلهم الخير قياساً على نفسه هو .
ومنها أن لا يذكر أحداً بعيب يراه ، وأن وقع أنه رأى في أحد عيباً يقول في نفسه : إنما ذلك العيب في ، لأن المسلم مرآة المسلم ، ولا يرى الإنسان في المرآة إلا صورة نفسه . ومنها أن يقبل عذر أخيه إن اعتذر إليه ، ولو كان كاذباً ، لحديث الترمذي (( من أتاه أخوه متنصلاً من ذنبٍ فليقبل اعتذاره محقاً كان أو مبطلاً ، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض )) وأنشد في المعنى
أقبل معاذير من يأتيك معتذراً
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره


أن بر عندك فيما قال أو فجر


وقد أجلك من يعصيك مستترا


وكان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يقول : من طلب أن الناس لا يقولون فيه من ورائه إلا ما يواجهونه به فقد رام المحال ، فإن السلطان لا يصح له ذلك ومعلوم أنه لا بد للإنسان من محب ومبغض ولو كان في فضل الإمام علي t . ومنها أن يستر عوراتهم فمن ستر عورة أخيه ستر الله عورته كما في الحديث (( من ستر عورة أخيه ستر الله عورته ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته )) ولا يخفى أن من جملة سترنا للمسلم أن نغلق عليه بابه إذا رأيناه خارجاً وهو سكران ، ونأمر الزانية مثلاً أن تنزل من حائط الجار إن خفنا أن أحداً ينظرها إذا خرجت من بيت الزاني ، كل ذلك حتى لا يعلم أحد بعصيان ذلك الرجل ، لاسيما إن كان جاراً لنا ، فأعلم ذلك يا أخي واستر عورات إخوانك ولا تبحث عنها ، وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول والله لقد أدركنا أقوماً لا عيوب لهم فتجسسوا على عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوباً ، ومعلوم أن أكثر الناس خطايا أكثرهم لذكر خطايا الناس ، ولا يقدر على العمل بذلك إلا من طهر الله باطنه من سوء الظن وإلا من لازمه البحث عن عورات الناس . ومنها أن يطلب منهم الرضا عنه ، وأن لا يزاحمهم على أمر دنيوي بل يبذل لهم ما فتح عليه به ، يوقر الكبير ، ويرحم الصغير ، يعضدهم ، أي يقويهم على ذكر الله تعالى ، ويتعاون معهم على حب الله ، ويرغبهم فيما يرضي الله ، كافاً عن عيوبهم ، مسامح لهم فيما وقع منهم ، وليجعل رأس ماله مسامحة إخوانه ظاهراً وباطناً ، ولا يعاتبهم على شيء صدر منهم ، يعادي من يعاديهم ، ويحب من يحبهم ، يرشدهم إلى الصواب إن كان كبيراً ، ويتعلم منهم إن كان صغيراً ، لا يوسع على نفسه وهم في ضيق ، يخدمهم ولو بتقديم النعال لهم ، وأن يكون بشوشاً لهم في مخاطبته ومجاورته ، وأن يكون خادماً لنفسه ولإخوانه فيما يحتاجون إليه ، وبذلك يقدمه الله تعالى في الدنيا والآخرة ، فإن من خُدم خدَم ، وأن يكون مع إخوانه دائماً على نفسه فلا ينتصر لها ، وليحذر من حسد أحد من أقرانه وغيرهم ، والوقيعة فيهم ، فإن احتقار الخلق مرض عظيم ، فاتح لباب النغم ، نسأل الله العفو والعافية .

الفصل الثالث


في آداب المريد مع نفسه

وهو أن يكون مشغولاً بالله ، زاهداً فيما سوى الله ، يحب ما يحبه الله ويكره كل ما نهى عنه الله ، غاضاً طرفه عن المحارم كريماً سخياً ، ليس للدنيا عنده قيمة ، تاركاً لفضول الحلال كالتوسعة في المأكل والملبس والمنكح ، مقتصراً على قدر الكفاية ، إذ المسافر لا يشتغل إلا بقدر الضرورات، مديم الطهارة لأنها نور ، لا ينام على جنابة ، لا يفضي بيده على عورته إلا في ضرورة استنجاء أو غسل ، ولا يكشف عورته ولو بخلوة في ظلام ، ولا يطمع في ما في أيدي الناس ، يفرح لإعراضهم عنه أكثر من إقبالهم عليه ، يحاسب نفسه على الدوام ، يداوم على ذكر الله سراً وجهراً ، ولا بد له من مجلس لنفسه يذكر الاسم الذي تلقته من شيخه بهمة ونشاط ، يوبخ نفسه ويحاسبها على اليسير كلما وقفت ، لا يأكل إلا حلالاً وهو ما جهل أصله ، وأكل الحلال منشأ كل خيرٍ ، وأكل الحرام لا ينشأ منه إلا المعاصي واسوداد القلب ، وأكل الشبهات لا ينشأ عنه إلا أفعال مشوبة بالرياء والكبر ، يكابد نفسه عن النظر إلى الصور الجميلة من النساء والأحداث ، لأن ذلك كله قواطع عن الله تسد باب الفتوح ، أجارنا الله من ارتكابها ، ولا ينكر على طريق أحد الفقراء والفقهاء لأن الإنكار فرع من النفاق ، فلا يجوز الإنكار على أحد الفريقين ، ولا يحتقر مسلماً ولو بلغ في الفسق ما بلغ ، بل يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر بقول لين ، لأن الكلام اللين يلين القلب الذي أقسى من الحديد ، والكلام الخشن يخشن القلب الذي أنعم من الحرير ، ففي الحديث (( كفوا عن أهل لا إله إلا الله ، ولا تكفروهم بذنب فمن كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب ، طب .
ومنها: أن يأخذ بالا حوط في العبادة ، ولا يقصد بذكره وعبادته ثواباً ولا فتحاً وإنما يعبد الله لله ، لا يرجع عن ذلك فتح عليه أو لا ، وأن يكون متواضعاً ، لأن التواضع يزيد العبد رفعة ، نظيفاً في ظاهره وباطنه ، صابراً شاكراً عابداً ، لكنه لا يشغل إلا بأوراد الطريق ، أو ما أذن له فيه الشيخ ، خائفاً من الله راجياً عفوه ، لا يرى لعبادته ولا ذكره وجوداً ، بل يرى أنه يستحق العقاب لولا فضل الله عليه ، وذلك لما فيه من رياء وسهو .
ومنها : أن يكون تواباً عن الخطرات والهفوات حتى يرتقي إلى مقام المتطهرين .

تتمه

لا يستحق المريد الطرد إلا بذم الشيخ وطريقته ، أو بقلة احترامه للشيخ ، أو بعدم حضور مجلسه من غير ضرورة ، وتكرر ذلك منه ، والشيخ ينهاه وهو لا يمتثل الأمر أو النهي ، أو بترك الفريضة كالجمعة وجمع الصلاة مع الأخرى اختياراً ، وتكرار ذلك منه ، أو بتأمره على الشيخ ، أو بمجادلته ومعاندته له أو لمن ينبه الشيخ مكانه ، فإذا حصل منه شيء من ذلك لم ينته عنه ، فعند ذلك يجب طرده وهجره حتى يرجع ويتوب ، وسندهم في ذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا ، وأمر الصحابة بهجرهم ، وكان سيدي محمد القمري إذا أساء الأدب أحد الفقراء يأمر النقيب ينادي عليه : فلان مهجور فلا يجالسه أحد حتى يتأدب وتنكسر نفسه ويطلب الصفح عنه ، ثم إذا طرده الشيخ أو إخوانه فالمحققون لا يطرون بالقلب بل في الظاهر لأجل الأب لأنهم لا يحبون إتلاف الإنسان إلا إذا خرج عن دين الإسلام ، والعياذ بالله تعالى .
وأما الآداب التي تطلب في حق العامة فالتواضع والتعظيم لهم لأنهم عبيد الله تعالى وقد كرمهم وفضلهم على غيرهم ، وقد كان الإمام علي t يقول : أعلم الناس بالله تعالى أشدهم حباً وتعظيماً لأهل لا إله إلا الله . ومن كلام الشافعي رحمه الله تعالى : ليس بعد الشرك ذنب أعظم من السخرية بالناس ومن عظم الناس لله عظمه الله تعالى بين الناس ، وصاحب العكس بالعكس : أي ومن أهانهم أهانه الله بين من يحب رفع قدره عندهم ، وكان الشيخ علي البحيري رحمه الله تعالى ينزل عن دابته ويسوقها أمامه كلما مر على ناس يتحدثون تعظيماً لهم . ومنها أن يحب المسلمين لله تعالى ويحفظ لهم الود القديم ففي الحديث : (( إن الله تعالى يحب حفظ الوٌد القديم ))
وقد صار ذلك من أغرب الغرائب في صلحاء هذا الزمان فضلا عن غيرهم فربما أكل الواحد منهم عند صاحبه أردب من العيش ، ثم إذا وقع بينهما شيء يصير كل واحد منهم يحط في الآخر لا بكيل ولا بميزان ، وما هكذا درج أهل الإيمان إنما كانوا يحفظون مقام من أكلوا عنده خبزاً أو ذاقوا عنده ملحاً ، ولا يخونونه ولو بالغيب ، حفظاً للخبز والملح ، حتى أن اللصوص كانوا لا يسرقون من بيت ذاقوا فيه ولو ملحاً ، وقد اتفق أن اللصوص نزلوا بيتاً وأيقظوا صاحبه وأخذوا منه ما طلبوه من الدنانير فلما هموا بالخروج وجد أحدهم حقاً فيه شيئا أبيض فذاقه فوجده ملحاً فنادى على إخوانه ردوا ما أخذتم فقد ذقت ملحاً فردوه له ، وقالوا لصاحب البيت : إن أخانا ذاق ملحك ونحن لا نأخذ شيئا ممن ذقنا طعامه ، وخرجوا بلا شيء فتأمل يا أخي ذلك ترَ اللصوص أفضل من صلحاء هذا زماننا مراراً . ومنها حسن الظن بهم وبذل الطعام لهم وإفشاء السلام والصدق معهم في جميع الأحول . ومنها كثرة الشفقة على خلق الله تعالى بأن يعطيهم من نفسه ما يطلبونه ، ولا يحملهم مالا يطيقونه ، ولا يخاطبهم بما لا يعلون ، وأن يعفوا عنهم إذا وقعوا في عرضه رحمة لهم من الوقوع في الإثم لا خوفاً من تنقيصه في أعين الناس ، وإن أحسن إليهم عند ذلك كان أعلى وأشرف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن لمن يسيء إليه وفي الحديث (( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )) ومنه أن يستغفر لهم فقد ورد (( من استغفر للمؤمنين والمؤمنات فله بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )) ويدعوا لهم عند صفاء وقته لما في الحديث (( أفضل الدعاء أن يقول العبد : اللهم أرحم أمة سيدنا محمد رحمة عامة )) وفيه أيضاً (( أسرع الإجابة دعاء غائب لغائب )) وفي صحيح مسلم : (( دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب تعدل سبعين دعوة مستجابة ويوكل الله تعالى بها ملكاً يقول
آمين آمين ولك مثل ذلك )) ودعاء الملك لا يرد . ومن فوائد الدعاء للمسلمين الوفاء بحقوقهم خصوصاَ إذا كان بهذه الصيغة وهي : اللهم أغفر لي ولولدي ولأصحاب الحقوق علي ، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، فإذا قال ذلك فقد أدى حقوقهم ، فاغتنم يا أخي ذلك لتكون من الناجين يوم لا ينفع ندم النادمين ، وأكثر ما تقدم من الآداب المتعلقة بالإخوان تجري هنا ، وفي هذا القدر كفاية .
تنبيه : فإذا حصل من المريد الإخلال بشيء من الآداب المتعلقة بحق الشيخ أو الإخوان ، أو صدر منه تنقيص لهم أو لأحدهم فليأتي إلى النقيب ليستأذن له في الدخول على الشيخ أو الخليفة أو الإخوان ، ثم يدخل إليهم خاضعاً ذليلاً نادماً على ما صدر منه ، ويقف في صف النعال مكشوف الرأس واضعاً يده اليمنى على اليسرى ، ويتضرع إليهم ، ويسألهم الصفح عنه ويمتثل لأمرهم بما يحكمون به عليه ، ولا يقعد حتى يحصل منهم الصفح عنه والرضا عنه ويجب عليه أن يرجع على نفسه باللوم ويقول : اللهم إن هذا من شؤمي وخبث طبيعتي .
واعلموا : أن اتخاذ المشايخ النقباء له أصل في السنة المحمدية ، بل وفي السنة الموسوية ، فقد اتخذ صلى الله عليه وسلم نُقبا من الأنصار : تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، وقال لهم : أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، وكان من جملتهم أسعد بن زُرارة ، كان نقيباً على أخواله صلى الله عليه وسلم بني النجار ، ولما مات أسعد قالوا له صلى الله عليه وسلم : اتخذ لنا نقيباً فقال : أنا نقيبكم . فينبغي أن يكون النقيب على الجماعة حسن الخلق ، مديم الذكر ، ينزل كل واحد في مرتبته ، كثير الود ، جميل الصفح عن إخوانه ، لا يغضب عليهم ، ولا يؤاخذهم بما يقع منهم في حقه بل يحسن إليهم ، وأن يكون ذا همة علية ونزاهة كلية ، يسأل عن إخوانه إذا غابوا ، ويتواضع لهم إذا حضروا ، وكذا كل من ولي رتبة في طريق الفقراء . ويجب عليهم احترامه وتعظيمه وامتثال أمرة ولو كانوا أكبر منه سناً ، وأن يتحمل أذاهم ، ويصبر على جفاهم ، ويخلص النية من شوائب الأغراض النفسانية ، ولا يستنكف عن الخدمة للصغير فضلا عن الكبير ، وقد قيل : من تعزز عن خدمة الإخوان ابتلاه الله بالذل والامتهان ، ولا ينفك عن ذلك حتى يموت ، فاحذر أيها النقيب ، من التقصير فتخيب : فاجعل سعيك لإخوانك لله وتحبب إلى إخوانك وحببهم لبعضهم ، وأصلح بين المتشاحنين والمتباغضين ، ولا يكن في قلبك غلا لأحد وعاملهم باللطف والرفق ، وأحذر من الكبر والحسد ، وحب الرياسة والحقد والغيبة والنميمة فإنها المهالك ، وتسد المسالك ، لا بد للمريد الذي يكون أهلا لمطالعة الكتب أن يطالع كتب القوم الموضوعة في الآداب ليتعلم منها أخلاق القوم ، ويعرف الخواص من العوام ، فيسير بسيرهم ، فيغترف من بحرهم ، وذلك كحكم شيخنا ختم أهل العرفان ، سيدنا السيد محمد عثمان الميرغني ، وحكم ابن عطاء الله السكندري t ،وكتب الشعراني و الغزالي ، ورسالة الغشيري وغيرهم .

الخاتمة


نسأل الله حسنها في آداب الذكر

اعلم : أن طريق القوم سدُداها هذه الآداب ، ولحمتها الذكر فلا يتم نسجها إلا بها ، وللذكر آداب لا بد من ملاحظتها ، وهي أن يكون على طهارة كاملة من حدث وخبث ، وإن يستقبل القبلة إن كان وحده ، وإلا تحلقوا ، فإن ضاق بهم المكان اصطفوا ، وأن يستحضر شيخه ويلاحظه ليكون رفيقه في السير إلى الله تعالى ، وهذا من أهم الآداب ، وأن يفرغ قلبه عما سوى الله تعالى حتى لا يطلب دنيا ولا أخرى ولا ثواباً ولا ترقياً ، إنما يذكر الله حباً في الله ، قالت السيدة رابعة العدوية : ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، فكانت عبادتها خالصة لله تعالى ، وأن يغمض عينيه حال الذكر لأنه أسرع في تنوير القلب ، وأن يكون المكان مظلماً حتى ولو كان هناك سراج أطفأوه أو أخرجوه إن كانوا في خاصة أنفسم ، وإلا أبقوه للحاضرين والواردين ، وأن يذكر بهمة قوية بحيث لا يبقى فيه متسع قط ، فمن فعل ذلك قرب فتحه ، وطويت له مراحل الطريق طياً ، وكل من لم يغب عن الحاضرين لم يحضر مع ربه عز وجل ، ومن لم يحضر مع ربه لم يكن له ترقّ ولا درجة ، فذكره حسنات لا درجات ، والذكر مع الجماعة ورفع الصوت له تأثير كبير في دفع الوسواس ، واشتغال الحواس عن الخواطر الذميمة التي تعتري غالب الناس حال الذكر ، والدليل على طلب الذكر مع الجماعة الحديث القدسي (( من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )) وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال حِلق الذكرِ) وعن جابر بن عبد الله t (( أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل لو أن هذا خفض صوته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإنه أواه ، أي ولا نظر لخوف الرياء في الذكر لأن ترك العمل لأجل الناس هو الرياء ، وفي كلام بعضهم : أجمعوا على أنه يجب على الفقير أن يذكر الله تعالى بقوة تامة وعزم شديد بحيث لا يبقى فيه متسع ، وأن يهتز من فوق رأسه إلى أصابع قدميه . وذكر سيدي أبو المواهب الشاذلي ، أن الذكر بالجهر مشروع مأمور به ، بل اقتضى حديث (( أذكروا الله حتى يقولوا مجنون )) استجابةً لأنهم لا يقولون مجنون حتى يسمعوه ، وذلك أعم من أن يكون السامع ممن يلي الذاكر أو أبعد من ذلك إلى مدى صوت الذاكر ، قال وذلك ظاهر عند من أنصف ، ولا عبرة بمن أتعب نفسه فتعسف .
ومن فوائد رفع الصوت بالذكر تنبيه الغافلين عن ذكر الله تعالى ، فإذا سمعه غافل ذكر الله تعالى فصار أواها ، وذكر الحافظ أبو النعيم عن الفضيل بن عياض كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الله تعالى تمايلوا يميناً وشمالاً كما يتمايل الشجر في الريح العاصف إلى قدّام ثم يرجع إلى الوراء . عند التلفظ بالذكر يميل برأسه إلى الجهة اليمنى بلآ ويرجع بإله إلى جهة صدره ، وبإلا الله إلى جهة القلب ، وهي اليسار ، وينعتها من سرته إلى قلبه حتى تنزل بالجلالة على القلب لتحرق سائر الخواطر الرديئة ، ويحقق الهمزة ويمد الألف مداً طبيعياً أو أكثر ، ويفتح الهاء من إله ويسكن الهاء من الله .
وأما الاسم الثاني : وهو الله ، وكذا بقية الأسماء فينعتها من سرته وينزل بها إلى قلبه ، وأن يصغي حال الذكر إلى قلبه مستحضراً المعنى حتى كأن قلبه هو الذاكر وهو يسمعه ، ولا يختم حتى يحصل له نوع من الاستغراق بأن يحس من نفسه بحلاوة الذكر ، ويحصل له تشوق وهيام ، ثم إذا ختم سكت وسكن واستحضر الذكر بإجرائه على قلبه مترقباً لوارد الذكر فعله يردُ عليه وارد فيعمر وجوده بما لم تعمره المجاهدة ثلاثين سنة ، وهذا الوارد وارد زهد أو ورع أو تحمل أذى أو سخاء أو كشف أو محبة أو غير ذلك ، فإذا سكت وسكن وكتم نفسه مراراً دار الوارد في جميع عوالمه ، فيجب عليه التمهل حتى يتمكن ، وإلا ذهب قال الغزالي : ولهذه السكتة ثلاثة آداب : مراقبة الله تعالى حتى كأنه بين يديه ،وأن يجمع حواسه بحيث لا تتحرك منه شعرة كحال الهرة عند اصطيادها الفأر ، وأن يزم نفسه مراراً حتى يدور الوارد في جميع عوالمه ويجري على قلبه معنى الله ، وينبغي تطييب المكان والبدن والفم بالروائح الزكية وبُعد الروائح الكريهة لأن الروحانين لا يقبلون الروائح الكريهة فبانقطاع التطيب من مجلس الذكر ينقطع المدد كما هو مشاهد بالذوق
ومن آدابه المؤكدة عدم شرب الماء إثر الذكر ولا في أثنائه لأن للذكر حرارة تجلب الأنوار والتجليات والواردات ، وشرب الماء يطفئ تلك الحرارة واقل ذلك أن يصبر نحو نصف ساعة فلكية ، وكلما كثر كان أحسن حتى إن الصادق لا يشرب إلا عن ضرورة قوية ، هذا ما يتعلق بطريق القوم على العموم .
وأما ما اختصت به طريقة شيخنا ختم أهل العرفان سيدنا السيد محمد عثمان الميرغني المكي نفعنا الله به في الدارين وهي الطريقة الختمية المشتملة على الطريقة النقشبندية والشاذليه والقادرية والجنيدية والميرغنية المنسوبة إلى سيدي عبد الله الميرغني جدّ الأستاذ ختم أهل العرفان شيخنا السيد محمد عثمان ، فقد اغترف t من أبحر هذه الطرق الخمس وشرب منها حتى روي فصار كل من أخذ عنه وسلك طريقته يكون سنده متصلاً بأسانيد تلك الطرق ، ومشربه من أبحرها ، وتمده رجالها ، وقد رتب لها أوراداً وأذكاراً كثيرة لا تتحملها هذه النبذة ، ولكن نذكر البعض منها لأجل التعلم .
فأول ما يطلب من المريد فيها أن يغتسل غسلاً كغسل الجنابة وينوي به التطهر ظاهراً وباطناً ، ثم يصلي ركعتين قريباً من محل الغسل ، وينوي عندها التوبة من جميع الذنوب ، وشروط التوبة : الندم والإقلاع والعزم أن لا يعود فلا بد من هذه الشروط ، وإلا لم تقبل توبته ، ثم بعد أن يسلم من الركعتين يستغفر الله تعالى بأن يقول : استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، سبعين مرة ، ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم مائة مرة ، ثم يشرع في الذكر بلا إله إلا الله حتى يتم سبعين ألفاً . ثم يغتسل ثانياً ويفعل كما فعل أولاً ، ثم يشرع في قراءة الصمدية حتى يتم مائة ألف مرة ، ثم يغتسل ويفعل كما فعل أولا ، ثم يشرع وهو في مجلسه في قراءه البسملة حتى يتم أربعة آلاف مرة وهو في مجلسه بخلاف الأولين ، ثم يلقنه الشيخ أو الخليفة أساس الطريقة ، وهو أن يذكر الله تعالى بعد كل صلاة لا إله إلا الله مائة نصفها بالقلب ونصفها باللسان ، ثم يقول : الله الله كذلك ثم يقول : هو هو كذلك ، ثم يقول : حي قيوم كذلك ، وكل مائة نصفها باللسان ونصفها بالقلب ، وذلك لأن الطريقة النقشبندية أذكارها قلبية ، فالذكر القلبي بالنظر لها ، وذكر اللسان لغيرها من باقي الطرق الخمسة ، ثم يقول : الصلاة الذاتية ثلاث عشرة مرة ، وهي اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بقدر عظمة ذاتك يا أحد ثم يقول : الفاتحة لقطب أهل الوصال مولانا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من الكبير المتعال ، ثم يقول الفاتحة لشيخ الطريقة ومعدن الحقيقة ختم أهل العرفان سيدي السيد محمد عثمان ، وشيخه العارف بربه القطب النفيس سيدي السيد أحمد بن إدريس وأتباعهما أجمعين ، ثم يقول : الفاتحة لأهل بيت رسول الله أجمعين ، ثم يلازم صباحاً ومساء قراءة حزبه المسمى بالراتب ، وبعده توسل أسماء الله الحسنى ، وتوسل الرجال ، ثم ما تيسر من بقية أوراده كصلواته المسماة بفتح الرسول كل يوم حزب مخصوص منها ، وأوراد الليل ، ومنها الاستغفار الكبير ، وهو : استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه من كل ذنب أذنبته عمداً وخطأ ظاهراً وباطناً سراً وجهراً قولاً وفعلاً ، في جميع حركاتي وسكناتي وأنفاسي كلها داماً أبداً سرمداً من الذنب الذي أعلمُه ، ومن الذنب الذي لا أعلَمُه عدد ما أحاط به العلم وأحصاه الكتاب وخطه القلم وأوجده القدرة وخصصته الإرادةُ ومداد كلمات الله ، وكما ينبغي لجلال وجه ربنا وجماله وكماله ، وكما يحب ربنا ويرضى ، سبعين مرة ، والأساس الكبير وأوار السحر ، وغير ذلك مما رتبه t ، وهي مشهورة عند أهلها أطلبها تجدها ، فتمسك يا أخي بهذه الطريقة الختمية ، وتلبس بهذه الآداب المحمدية ، وتعلق بأذيال أهلها لترد موار فضلها ، وتغترف من بحرها الزاخر ، وتشرب بالكأس الأول والآخر ، فمن تمسك بها واشتغل بأورادها نال سعادة الدارين ، وانجلى عنه الرين والغين ، لأن طريق القوم هي تقوى الله تعالى أي أساسها التقوى ، فالمتقون هم أولياء الله تعالى ، والذاكرون هم أحبابه فليحذر المعترض عليهم مقت الله وغضبه لأن من اعترض إنطرد كما قيل :
لا تعترض واعتقد تكتب من الأحباب
الأولياء في الورى أخفاهم الوهاب


ولا تكن منكرا يغلق عليك الباب


كليلة القدر أخفاها على الطلاب


اللهم أجعلنا ممن يصدق بأقوالهم ، ويسلم لهم سائر أفعالهم ، ولا تجعلنا من المنكرين عليهم فإن الله تعالى لا يتركهم لغيره لأنهم أحبابه ، ولا يعيبهم ذكر الله قياماً وقعوداً وهزتهم في الذكر والإنشاد الذي يقع منهم ، وليس هذا بخفة كما يزعمه المنكرون ، فإن للذكر حلاوة ومخامرة باطنية يعلمها أرباب القلوب تقتضي هذه الحالة من شدة الذكر وشدة الهز ، كما أشار له الغوث سيدي مدين في بعض إنشاده :
أيا حادي العشاق قم وأحد بنا
وصن سرنا في حال سكرنا عن حسودنا
فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا







وزمزم لنا باسم الحبيب وروحنا


وإن أنكرت عيناك شيئا iiفسامحنا



وخامَرنَا خمر الغرام تهتكنا


وقد ورد في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما استنشد حسان بن ثابت أنش له أبياتاً منها ،
اكشف حجاب التجلي بيننا سحراً


لا شك أنك معبودي وخلاقي


فتواجد النبي صلى الله عليه وسلم فسقط الرداء عن منكبه الشريف ، فهو دليل السماع فلا يجوز الإنكار على الفقراء بما يحصل منهم عند سماع كلام القوم من الوجد ، فإن ذلك سر من أسرار الله تعالى تحركه رياح الأنس من بحار القدس متفرقة في الأعضاء ، فما وقع في اليد كان منه التصفيق ، وما وقع في الرجل كان منه الرقص ، وما وقع في القلب كان منه البكاء ، وما وقع في الروح كان منه الصراخ ، وما وقع في سويداء القلب كان منه الغثيان ، وقد ترى الإنسان يكون هادياً فيضطرب عند السماع ، لأن الله تعالى لما خاطب الذر ]أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى[ استغرقت عذوبة سماع الكلام والأرواح ، فإذا سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك ، أي ممن قال من ذلك شيئاً في ذلك العالم الذري ظهرت عليه آثاره في هذا العالم الصوري ، قال الشيخ أبا مدين : السماع جوهر لا يطلع عليه إلا الفضلاء ، فإذا حضرتم إلى السماع فأغلقوا أبوابكم ، وإذا حضرتم الطعام فافتحوها لأن طريق القوم مبنية على الستر عمن لم يكن من أهل طريقتهم . ولا ينبغي أن يكون تلقين الذكر بحضور من لم يكن على طريقتهم وسنتهم ، وأهل السماع في أحوالهم مختلفون في الصفات والحركات ، فمنهم من تأخذه الأحوال وهي تمر مر السحاب وهو قاعد لا يتحرك ، كما قال الله تعالى ]وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ، ومنهم من يأخذه الضحك والبكاء والشهيق ، والأحوال مختلفة حسب المقامات والدرجات ، والسماع كالبرق يلوح ويخفي وهو ذو صدق وحقيقة ، فمن سمع بقلبه تحق ، ومن سمع بنفسه تزندق ولا يشك فيه إلا جاهل به معاند ، لأن من جهل شيئا عاداه ، وقال الشاعر :
لا يعرف الشوق إلا من يكابده


ولا الصبابة إلا من يعانيها


وقال الشيخ الأمير في حاشيته على عبد الباقي : كلما جمع قلبك على الله فلا بأس به ، أي لا بأس في تعاطيه إذا ازددت به حباً في الله ، والسماع مع غير أهله حرام لا يحل حضوره حتى يجاهد نفسه بالصيام والقيام والوصال ، فحينئذ يحل حضوره ، قال الجنيد : السماع لا يليق إلا من أهله مع أهله .
واعلم أن طريق أهل الحق مدارها الصدق ، ورأس مالها الذل ، قال العارفون حكم القدوس أن لا يدخل حضرته أرباب النفوس ، فمن رأى نفسه على أحد من إخوانه فقد خسر خسراناً مبينا . وقال سيدي أبو يزيد البسطامي t قال لي الحق ، تقرب إلي بما ليس من صفتي : الذل والانكسار ، والله عند المنكسرة قلوبهم ، وقال سيدي مصطفى البكري t : {إلهي بأهل الانكسار وحقهم } فتخلق يا أخي بأخلاقهم ، وتأب بآدابهم ، وسر بسيرهم لتشرب من بحرهم ، وعليك يا أخي بمجاهدة النفس فإنه الجهاد الأكبر حتى تتخلص من الصفات الذميمة وتتصف بالصفات الحميدة ، لأن النفس الأمارة من أوصافها الجهل والبخل والحرص والكبر والغضب والشهوة والحسد والغفلة وسوء الخلق والخوض فيما لا يعني من الكلام وغيره والبغض والاستهزاء والإيذاء باليد واللسان وغير ذلك من القبائح ، فهي نفس خبيثة ، فإذا جاهدها ترقت إلى الثاني الذي تكون فيه النفس لوامة ، وصفاتها اللوم والفكر والعجب والاعتراض على الخلق والرياء الخفي وحب الرياسة ، فأوصافها ذميمة أيضاً لأنها أمراض لا دواء لها ، إلا كثرة الذكر والمجاهدة حتى يتخلص منها ، ويرتقي إلى المقام الثالث الذي تكون فيه النفس ملهمة فتتصف نفسه بالصفات الحميدة لأن صفتها السخاء والقناعة والعلم والتواضع والصبر والتحلم وتحمل الأذى والعفوي عن الناس وقبول عذرهم وشهود أن الله تعالى آخذ بناصية كل دابة فلم يبق له اعتراض على مخلوق أصلاً غير ذلك ، وسميت ملهمة لأن الله تعالى ألهمها فجورها وتقواها ، فشد مئزرك وأهجر النوم ولازم التهجد والذكر في الأسحار حتى ترتقي إلى المقام الرابع الذي تكون فيه النفس مطمئنة ، ومن صفاتها الجود والتوكل والحلم والعبادة والشكر والرضا بالقضاء والصبر على البلاء ، ومن علامات دخول السالك في المقام الرابع الذي تسمى فيه النفس مطمئنة أنه لا يفارق الأمر ألتكليفي شبراً ولا يلتذ إلا بالتخلق بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يرتقي إلى المقام الخامس الذي تسمى فيه النفس راضية ، ومن صفاتها الزهد فيما سوى الله تعالى والإخلاص والورع والرضا بكل ما يقع في الوجود من غير اختلاج قلب ولا اعتراض أصلاً ، وذلك لأنه مستغرق في شهود الجمال المطلق ، وصاحب هذا المقام غريق في بحر الأدب مع الله تعالى ، ودعوته لا ترد إلا أنه لا ينطلق لسانه بالسؤال حياءً وأدب إلا إذا اضطر فإنه يطلب ويدعو فلا ترد دعوته ، وذكر هذا المقام (حي) فأكثر منه ليزول فناؤك ويحصل لك البقاء بالحي فتدخل في المقام السادس الذي تسمى فيه النفس مرضية ، ومن صفاتها حسن الخلق وترك ما سوى الله تعالى واللطف بالخلق ، وحملهم على الصلوات والصفح عن ذنوبهم وحبهم والميل إليهم وإخراجهم من ظلمات طبائعهم وأنفسهم إلى أنوار أرواحهم لا كل الميل الذي في النفس الأمارة لأنه مذموم ، ومن صفات هذه النفس الجمع بين حب الخلق والخالق ، وهذا شيء عجيب لا يتيسر إلا لأصحاب هذا المقام ، وسميت وهذه النفس بالمرضية لأن الحق تعالى قد رضي عنها سيرها عن الله ، بمعنى أنها أخذت ما تحتاج إليه من العلوم من حضرة الحي القيوم ، ورجعت من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بإذن الله تعالى لتفيد الخلق مما أنعم الله به عليها ، فإذا ارتقى إلى المقام السابع تسمى فيه النفس كاملة ، وصفاتها جميع ما ذكر من الأوصاف الحسنة للنفوس المتقدم ذكرها فقد كمل ، والاسم الذي يشتغل به هذا الكامل ((القهار)) وهو الاسم السابع وهو أطهر المقامات لأن اسم القهار من أسماء القطب ، قال المشايخ : ومنه يمد القطب المريدين الطالبين الأنوار والهدايا والبشارات ، قالوا : إن ما حصل في قلوب المريدين من الفرح والسرور والجذبات الكائنة بغير سبب فهو من مدد القطب عوضا عن أذكارهم وتوجهاتهم لربهم وصاحب هذا المقام لا يفتر عن العبادة ، وذلك إما يجمع البدن أو باللسان أو بالقلب أو باليد أو بالرجل ، وهو كثير الاستغفار والتواضع .
وإياك أيها المؤمن الكامل أن تأمن للنفس في مقام من المقامات لأن العدو الذي غرست في طبعه العداوةُ لا يؤمن مكره وإن صار صديقاً قال صاحب البردة t
وخالف النفس والشيطان واعصهما


وإن هما محّضَاك النصح فأتهم


فيبغي للفقير أن يزجر نفسه وينهاها عن إتباع هواها ، وقد قيل : من لم يستحي من العيب ، وير عوى عند الشيب : أن ينزجر ، ويخش الله بظهر الغيب ، فلا خير فيه . وأن لا ينظر إلى عيب أخيه ، فقد قيل : خير الإخوان من إذا رأى عيب ستر ، وإذا رأى فضل شكر ، بل إذا نظر إلى عيب أخيه اتهم نفسه وقال إنما هذا العيب في لأن المسلم مرآة أخيه المسلم ولا يرى الشخص في المرآة إلا صورة نفسه وقد قيل : من ظن أنه خير من فرعون فقد أظهر الكبرياء كما تقدم ، ولا عقل لمتكبر ، وفي الحديث (( اجتنبوا الكبر فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول الله تعالى : اكتبوا عبدي هذا من الجبارين )) وقد قيل للحسن : من شر الناس ؟ قال : الذي يرى أنه خيرهم . وقد قيل : لا يكون الفقير فقيراً حتى لا يذكر أحد بغيبة ، ولا يشمت في أحد بمصيبة وقد جاء لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك ، وفي الحديث (( من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يفعل ذلك الذنب )) وقال الحسن البصري : عيرت شخصاً بذنب فابتليت بذلك بعد عشرين سنة عقوبة لي ، ولا يغضب الفقير بغير حق فقد قيل : من أخرجه الغضب أخرجه إلى العطب ، ومن أطاع غضبه أضاع أدبه ولا يحقد ولا يحسد ، فقد قيل : من لا يفارقه الحزن والكآبة الحقود والحسود فهما في الهم والغم دائماً أبداً . وأن يكون الفقير متواضعاُ ، وقد قيل : التواضع يرفع الخسيس ، والتكبر يضع النفيس ، ومن طلب الرياسة أعيته ، ومن فر منها تبعته ، فجاهد يا أخي نفسك واستعن عليها بالجوع فإنه زمام قاهر لها فقد ورد : لما خلق الله النفس أقامها بين يديه وقال لها : من أنا ؟ فقالت : من أنا : فأقامها في نوع من العذاب كذا وكذا من الأعوام ثم أخرجها وقال لها : من أنا ؟ فقالت : من أنا ؟ فأقامها في نوع آخر من العذاب ، وهكذا وهي تجيبه بهذا الجواب إلى أن أدخلها في بحر الجوع كذا وكذا من الأعوام ، ثم أخرجها وقال لها : من أنا ؟ فقالت : أنت الله ، فلم يقهرها إلا الجوع ، فبه تتذكر ما حصل لها أولاً من العذاب به فتنقاد وتخضع وتذل وترتاض .
واعلم أن جميع ما ذكر من الأوصاف المذمومة وهو بعض القبائح التي ينطوي عليها الإنسان . وأما ذكر جميعها لا يمكن ، لاكن من سلك الطريق على الصدق خلص من جميع الرذائل والآفات الباطنية والظاهرة ، لأن السالك الصادق في سلوكه يقطعها من أصلها فلا يبغي لها أثر أصلا . وأما من أراد التطهير من الأوصاف القبيحة بغير سلوك الطريق المذكورة فقد طلب المحال ، لذا ترى الأبرار وإن سعوا في الخلاص فهم على خطر وإن أخلصوا لقوله صلى الله عليه وسلم (( المخلصون على خطر عظيم ))
وتمسك يا أخي بالشريعة ، فإنك لا تصل إلى الطريقة إلا بالشريعة ، ولا تصل إلى الحقيقة إلا بالطريقة ، كالبيضة فإن لها ظاهراً هو القشرة ، وباطن هو اللب الأبيض ، وباطن الباطن هو اللب الأصفر ، فلا يمكن الوصول إلى اللب الأبيض إلا بعد تقشير القشر ولا الوصول إلى اللب الأصفر إلا بعد أخذ الأبيض من فوقه ، فكذلك ينبغي للمريد أن يتعلم أولاً الأحكام الشرعية وهي أقواله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث (( الشريعة أقوالي ، والطريقة أفعالي ، والحقيقة أحوالي )) فأفهم ، فمن تتبع أقواله وأهمل أفعاله فهو من أفسق الفاسقين ، ومن تتبع أفعاله وأهمل أقواله فهو زنديق متين ، ومن ادعى أحواله وأهمل أقوله وأفعله فهو من الضالين المضلين ، بل هو من إخوان الشياطين ، لأن الشريعة باب ، والحقيقة دار ، ولا يتواصل للدار إلا من الباب ، والشريعة أصل والطريقة فرع ، والحقيقة ثمر ، فلا يكون الثمر إلا بوجود الأصول والفرع ، ولا الفرع إلا بوجود الأصل ، فمن تشرع ولم يتطرق فقد تفسق ، ومن تطرق ولم يتشرع فقد تزندق ، وقد قيل : الطريقة معاملات والحقيقة مكاشفات ، الشريعة هي الأحكام الشرعية ، والطريقة تتبع الأخلاق المحمدية ، والشرف في العلم والكمال في الحلم ، لا يتطهر من الرعونات إلا من خالف نفسه في الشهوات ، وذكر الله في جميع الحالات ، وأكثر من الصلاة والسلام على سيد السادات ، فبذلك تدخل إلى الحضرات ، وترفع لك الدرجات ، وتظهر أنوارك ، وتشرق أقمارك ، ويفاض عيك من السر المخزون ، وينادي المنادي ]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين .
وهذا آخر ما يسر الله جمعه على يد الفقير المعترف بالعجز والتقصير ، خادم نعال السادة الميرغنية ، المتعلق بأذيال أهل الطريقة الختمية ، أحمد الرطبي بن الشيخ عبد الرحمن ، ابن الشيخ يوسف العدوي ، ابن العارف بالله تعالى سيدي عيسى الشهير في مصر بالعدوي بباب الشعرية ، وذلك في شهر رجب الأصم سنة ألف ومائتين واثنين وتسعين ، بلغه الله في الدارين أمله مع من أحب آمين ، وغفر الله له ولوالديه الخطايا وصرف عنه وعن محبيه البلايا آمين فائدة : اعلم أن مراتب الشيوخ ثلاثة : الأولى مرتبة المتحققين بالمشيخة الذين عليم الاعتماد في الدنيا والآخرة ، وهما شيخ جلالي ، وشيخ جمالي ، فالجمالي يغلب عليه من الحضرات البسط وشهود الرحمة ، فيظهر بذلك النعمة ، والجلالي يغلب عليه من الحضرات القبض والتجليات الجلاليات ، فيظهر منقبضاً لما يشاهده من الهيبات ، والثانية شيخوخة التبرك ، وأصلها إذن العارفين ، وذلك أن يأذن العارف لبعض مريديه بالنيابة عنه في نصيحة الإخوان ، وذلك إما أن ينال المريد بعض فيض من تقوى ، وإما أن يكون تقياً بلغ في الخشية الغاية القصوى ، فإذا كان المريد كذلك فحينئذ يأذن العارف له ، وأدبه أن يتقي الله ويأمر أتباعه بملازمة الذكر والخشية والوعظ ، ويتحلى بحلى الشيخ من حيث الزجر والردع ، وينبه إخوانه على أنه ليس صاحب مدد ، ويعلمهم بأن مددهم من شيخه ويعرفهم أنه أخ لهم ، محجوب مثلهم ولا يتركهم يمدحونه يوصفونه بأوصاف الأولياء فيستوجب هو وهم المقت من الله ، ويعلمهم أنهم مسئولون بما يتكلمون به ، وينبغي له أن يزور بعض إخوانه الذين يراهم ناصحون له غير مستحين منه لأجل أن ينبهه إذا غفل ، ويذكره إن جهل ، وأتباعه يتأدبون معه ويحترمونه ويراعونه ، ولا يمدحونه بما ليس فيه ، ولا يمنعونه ما ليس له ، ويقال له خليفة فلان أو نائبه أو نقيبه ، ويلقن الذكر إن أجيز به من الشيخ ، وأما غيره فلا يجوز به التلقين لأحد ، ولا يصح له التصدر على فرد من أفراد المؤمنين ، فإن فعل كما هو حال بعض المتصدرين ، فلا يحصل لمن تلقن منه نفع ، والثالثة شيخوخة القرآن والعلم : فينبغي لهم أن ينصحوا أتباعهم ويأمروهم بالتقوى وتحقيق المقروء وإتقانه والعمل به من قرآن وكتب ظاهر ، وأما كتب القوم فأمرها إلى أهلها .


مصطفى علي غير متواجد حالياً  

التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى علي ; 02-15-2010 الساعة 05:25 PM.
رد مع اقتباس