الباب الثالث ، وفيه فصلان
الفصل الأول : في ذكر بعض كراماته
فأما كراماته رضي الله عنه فليس يحصرها إلا من لها أبدع ، فلنتبرك بذكر نذر منها ليشنف بها السمع ، هو في معرفة الضمائر قل من يساويه ، بل نقطع بعدم من يقاربه فيها أو يجاريه . فمما له وقع في جزيرة سنار في قرية مملكتهن ، أنه لما قدمها هرع إليه جميع عظمائهم وسفلتهم ، وتلقى منه جل علمائهم وجهلتهم ، وكان فيها رجل يشار إليه بالأصابع ، وجميع أهل السلطة وأهل الدين له محب وتابع ، منتهية له الرياسة في تلك القرى لوسع عمله ، فصار في أعينهم مثله لا يصح أن يرى. فلما سمع هذا العالم بقدوم الأستاذ ، وما وقع له من أولئك من المحبة والتعلق والانقياد أخذته الغيرة أخذا شافيا ، وأرسل إليهم أن كفوا عنه حتى أكون له موافيا ، ولم يفد ذلك منهم شيئا لما رأوه وعاينوا ، فقدم بنفسه إليهم لما رآهم نبذوه وباينوا ، وكان دخوله المشئوم يوم الأربعاء ، فبمجرد وصوله أرسل للأستاذ مشيعا، إنا على محبتكم منطوون ، فغدا إن شاء الله بكم مجتمعون ، ومراده بذلك المناقشة والمناظرة ، لظنه أن ليس أحد مثله في العلوم يصادره ، فجاءت الأحباب للأستاذ يخبرونه بفساد طويته ، وهو أعرف بخبث قصده في سره وعلانيته ، فما بالي به وحياتك حتى ولا اكترث ، ولسان حاله يقول : عما قليل يتحول عماره رث ، فقامت ريح شديدة يوم الخميس منعته القدوم والخروج والتدريس ، فما جاء عليه الظهر إلا وأعلام الحمام عليه بانت ، وأصابته حمة للحمه عن عظامه أبانت ، فأرسل رسوله للأستاذ يعتذر إليه من خلف وعده بالزيارة ، وأمر بوابه خوف الشماتة أن يغلق عليه في الحين داره ، فو الله ما فرغ الناس من صلاة الجمعة في الغد إلا وقد نودي في الناس بطلوع روحه ، فارتعد لذلك كل واحد فانقلب قصده على الضد مما رامه ، وجعل الناس يذمونه ويصفونه بالملامة ، وما درى المسكين أن المحارب لأجله القوى القادر ، وغفل عن من آذى وليا فأنا لمحاربته متصادر،لكن سبقت سوابق الأقدار،وهذا كان سبب لرفع المقدار ، فلا تجد بعد ذلك أحدا من النساء والصبيان ، إلا وألسنتهم دائما تلوذ : بشيء لله ياميرغني محمد عثمان.
ومنها : ما وقع له مع أمير بلد عظيم يقال لها كردفان ، احتوت ولاته على أنواع الظلم والطغيان ، فحل به يدعو إلي الله بالسر والإعلان ، حتى تعلق به وأخذ عنه جميع ما به من رجال ونساء وصبيان ، وخلف بهذا البلد وفي قراه ما ينوف عن المائتين ، كل منهم يدعو بدعاية لله رب العالمين ، فحسده في ذلك البلد من كان ، كل منهم يدعو بدعاية لله رب العالمين ، فحسده في ذلك البلد من كان قبله منتهية إليه رياستها ، وأغرى عليه وعلى أتباعه السلطنة وقال : عما قليل ستكون عند هذه الرجل مملكتها ، فقام عند ذلك أمير البلدة ينهي الناس عن الاجتماع به ، ويتوعدهم بقتله ونهبه ، وما زادهم ذلك إلا ملازمة وحضروا ، وصاروا حوله صافين عشية وبكورا. فلما رأى الأمير عصيان رعيته عليه ، والواشي دائما يركض فيه ومنه وإليه ، أمر بحبس أعيان أتباعه ولذلك أشاع ، فأغرى الشيخ رضي الله عنه من لم يحبس من الأتباع وقال له : هكذا يفعل الجبابرة بأتباعك ؟ فقال رضي الله تعالى عنه : إني رأيت القطب وكل ولي سالك ، غاروا على هذا الظالم الفاجر ، عزموا عليه وعلى أصل مملكته بقطع الدابر ، وخرج الشيخ رضي الله عنه من ذلك البلد بالعجل ، فما مضى عليهم ثلاثة أشهر إلا وقد أنجز الله الأجل ، فخرجت عليهم الدولة المصرية ، فأفنوا في ساعة واحدة كل من كان من أهل تلك الطوية.