صاح مهما ضقت زرعا فاستغث بالأولياء
ينزل القصد سريعاً راغماً للأشقياء
ولهذا يتبين لك وجوب التعلق بالوسائل والأسباب ،وتأكد لزوم التزام الوسائط والأبواب فتعلق بالوسائل والأسباب وألجأ واستغث وأنده لخواص الله والأحباب ، واطرق لدى الخطوب ما شئت من الأبواب ، تنل بذلك من فيض فيض الوهاب ، ما لا يدخل في حساب ، ولا يرقم في كتاب ، مما ربطه الحكيم الوهاب ، بالوسائط والأسباب ، وتكن مؤمن كاملاً ، وموقناً تاماً يقيناً وصدقاً كما حكى الله تعالى عن أهله بقوله: ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( وتبرأ من كفر من حكى عنه بقوله )وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( وهذا مذهب عامة السلف والخلف ، وعليه عمل الكل في كل وقت وحين وغرف ، فعليك به وبرهطه وحزبه ، وإياك ما ذهب إليه جلف العلماء وقلف القلوب ألو العمى ، ولا تفتتن بتزويفاتهم وتنميقاتهم واستدلالهم بالنقل والعقل ، وقوله : إن هذا من الشرك . وما ذاك منهم إلا أنواع من الكفر والإفك والحسد والأشر والكبر والبطر ، ويكفي أنه لا يوافق على ذلك إلا كل متكبر مجتري خائب محروم مما هنالك يكفر ، في الواقع تعرف البون هو الفرق بين الفريقين ، وتقطع بشرف فاعل ذلك ، وبتعس منكر ما هنالك ، ويكفي المحروم الحرمان ، ولو لم يكن إلا الرجوع إلى ذلك ، رغماً كما وقع لكثير لدى اشتداد الخطوب حتماً لكفى في فتح أبصار كل منكر أعمى ، لكن من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، ومن يقوى لعظم أنواع العذاب والطرد والضرب ؟ إذ قال تعالى (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) إلا كل متكبر عنيد جبار كما قال سبحانه ) فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (
فإن قلت: إن أردت الوجوب الثبوت فظاهر لكنه خلاف السياق والظاهر ، ولا قائل به . قلت: هو مقتضى قواعدهم وإن لم ينصوا عليه ، نعم تدور عليه الأحكام الستة كالدعاء ونحوه لاختلافه باختلاف المقاصد ، والله أعلم
تنبه : لعلك تقول : التصرف من لوازم الحياة ، وبالموت يزول ، فكيف يمكن أن يدول ؟ فأقول: هم أحياء عند ربهم ، وحضور لدى ملهم ، فيتصرفون بحول من له الحول ، وله القوة والطول ، وكم شوهد مما لا يحصى ، ولا يعد فيستقصى ، حتى لقد خرج البعض من قبره جهاراً ، وقضى لقاصده ومناديه أوطاراً فإن قلت: هذا القطب الأكبر والغوث الأعظم الأفخم الشيخ شمس الدين الحنفي قدس الله أسراره يقول: إذا مات الولي انقطع تصرفه في الكون وعدم الإمداد للزائرين فإن حصل مدد للزائرين وقضاء حاجة فمن الله على يد القطب ، ومنه أخذ أجلاف العلماء انقطاع تصرف الأموات الأولياء الكرماء
فأقول: لا شك في أنهم أحياء وتصرفهم أظهر من الممات والمحيا ، وكم وكم مما به الله أحكم ، وله في ذلك كم من حكم حتى أرشد بعضهم مريده جهاراً ، وصافحه ولقنه نهاراً ، كما خرجت اليد الشريفة للسيد الرفاعي ، وكم انتفع بعض المريدين من شيخه بعد مماته أكثر من حياته ، وكم دخل في طريقته كذلك ، وما ذاك إلا مما هنالك ، وكيف والشيخ نفسه يقول: من له حاجة فليأتي قبري ويطلب فإنها تقضى إلى أن قال: من حجبه عن أصحابه زراع فليس برجل ، وكم غيره قال ذلك وأعظم من ذلك ، وإنما قال بالانقطاع لما شوهد من خصوصيته بذلك في وقتها ولا مانع لكثير مزايا المعطي المانع ، لا أن ينقطع مطلقاً ، والمشاهد خلافه ، وفي الحديث عن أبي جرى جابر بن سليم t قال: (( رأيت رجلا يصدر الناس عند رأيه لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه قلت: عليك السلام يا رسول الله مرتين ، قال: لا تقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الموتى قل: السلام عليك ، قال: قلت أنت رسول الله ؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام سنةٍ فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض غفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك )) ، الحديث ، فهذه الأوصاف يمكن أنه أراد بها الله ، وهو الظاهر ، ويمكن أنه أراد نفسه وأراد بذلك النداء له في الخطوب فيسرع بتفريج الكروب ، ومن هنا قال السيد الحبر t وأمدنا بمدده ، ونفعنا بجواره ومدده آمين آمين
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى
وباكرني في حاجة لم يجد لها سواي
فرجت بمالي من همة من مقامه
وكان له فضل علي بظنه
وأعمل فكر الليل والليل عاكر
ولا من نكبة الدهر ناصر
وزايله هم طروق مسامر
بى الخير إني للذي ظن شاكر
وهذه الأبيات أثرها ظاهر في كثير الأوقات ، وكم كانت له بها كرامات ، وهي من المعجزات لسيد السادات r
خاتمة
أعلم يا أخي هداني الله وإياك ، ولا أعماني ولا أصماك ، أن أهل البيت النبوي قسمان ، صوري حسي ، ومعنوي إنسي ، فالقسم الأول معروف ، وبالشرف بين الأنام موصوف ، والقسم الثاني هم أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله ، وقد ألحقهم بالأول سيدنا رسول الله r في الفضل والشرف وبأهل البيت بقوله (( سلمان منا أهل البيت )) وقد جرت عادة الله في أجلاف العلماء والكبراء والعظماء بالحقد عليهم حسداً لهم بما أوتوا من الشرف الأعلى والمظهر الأغلى والظهور الأجلى والطهور الأحلى ، وكل ذي نعمة محسود وكل حاسد مطرود ، وعن الخير مبعود ، وفي الشر ممدود ، ومن آذى أولياء الله فقد حاربه الله ، ومن حاربه خسر دينه ودنياه ، وانقلب وجهه قفاه ، ورجع القهقرى إلى الوراء ، وأنشد لسان حالهم فيه :
نحن بالله عزنا لا بمال ومنصب
كل من رام ذلنا حسبنا الله والنبي
وقال فيه تصديراً وتعجيزاً
نحن بالله عزنا عز من كل مركب
كل من رام ذلنا حطه الله فارقب
وبطه افتخارنا لا بمال ومنصب
والنبي إن سهمنا حسبنا الله والنبي
وأرغمه بقولي منشداً على لسان حالهم
نحن الملوك لا تنقص iiعزئمنا
نحن الفوارس في العلياء بلا ريب
نحن الأعزة عند الله iiأجمعنا
نحن الغياث لمن ضاقت iiمذاهبه
نحن الذين لهذا الكون ذو مدد
نحن الذين من بداهم بالأذى iiله
نحن الذين لهم جاه له iiسعة
من رامنا في خطوب حل معضلها
يا منكراً عاذلا من أحب لنا
النعم تعرفنا ثم الجماد لها
خير الوجود دعي كيف iiتنفعنا
يكفي لنا شرفاً ما فوقه شرف
تحية الملك الأعلى ورحمته
والآل والصحب ما لاحت بروق ربا
فمن يكن في الناس أو iiيرم
ميداننا لم يحمه كل iiمتهم
فاقصد لنا إن ترمه غير منفصم
فاهتف بنا إن تضق وإن تكن تضم
يناله من دنا أو نأى فعمي
حرب من الله من يقوى له يقم
لكل من يخشى في الكون من إضم
وما رامنا بسوء صاح واندمي
يكيفيك حرماننا إذا كنت أنت iiعمي
شوق إلى مربع كنا به قدم
محيا مماتاً وحشرا ًفاستفق وهم
فأبصر هديت لما أوليت من نعم
على محمد المحمود في القدم
وفاح نشر الحمى من ذلك العلم
أولم يتأدب الحاسد الفاقد والجامد الخامد المطرود الراقد والمعبود الشاهد والمشاهد فيمن قال في حقه ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( وقال ) لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ( وقال ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (*) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( وقال بلسان نبيه r (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) إلى غير ذلك مما لا يذكر ، وما خفي كان أكبر ، وقد كانت هذه الكلمات في بعض السويعات ، وهي بحسب ما جرى على الخاطر ، وما ورد من الإله الفاطر ، وإلا فلو تتبعنا النقول لحار في تبيان سردها العقول ، ويكفي ذو اللب والإحساس آية ) ولو لا دفع الله للناس ( وعنها قال الأناس (( لا يشكر الله من لا يشكر الناس )) وبيان آية بأقصر الوجوه أن الدافع هو النفع وهو حسي ومعنوي ، والمدفوع الذي هو الفساد كذلك ، فالصوري ما عبر به بقوله تعالى ) لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ( والمعنوي ما أشار إليه بقوله سبحانه ) هُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ ( إلخ ، ومن المعلوم المشاهد المفهوم أن كل من حدث له شيء من نوائب الملك رجع إلى خاصته المخصوصة به ، وتوجه وتوسل بوسيلته وحزبه وهكذا فأفهم معاني النقول والمعقول ، لا كما احتج به الأجلاف واستدل به الأطراف ، فإنهم ما حاموا حوله فما عرفوا ، ولكن بعقولهم الفاسدة حرفوا وصرفوا ، فنعوذ بالله منهم ونعوذ ، ونلوذ إليه من أفعالهم ونلوذ ، أما علموا أن نتائج أفعالهم تكفير أكثر العلماء بأفعالهم ، فقبحهم الله تعالى وأخزاهم ، أما فهو أن آحاد أتباع الملوك المجازية لا يجتري أحد أن يقل أدبه معهم في قضية ، فكيف بخواصه السمية ، فضلا عن خواص الحضرة العلية ، لكن شأن الحمير والبقر ، أن تنفر وتنطح بلا نظر ، بل هي لو تدبرها العاقل لأراها في غالب أحوالها تتبصر ، وفي جل حركاتها وسكناتها تتمر ، فمن لا يساوي البقر والحمير ، لا ينفعه خمير ولا فطير ، ولا يفيد خطير ولا حقير .
واعلم يا أخي أن إنكار ذلك من ضعف اليقين ، وسخف الإيمان والجرأة على اليمين ، وسيما في هذا الحين ، الذي ذهب فيه الدين ، وعودي وهي من الخلق المهين ، فإن غالب أدلة السوى عندهم الحلال والحرام والمحاسن والملام والخبيث والطيب والقبيح والحسن ، بل قد افتخروا بالفواحش ، وتكبروا بالدناءة والنواهش ، فلا بدع أن ينكروا ذلك ويشكروا ما هنالك ، وهذا الأمر مشاهد محسوس ، ولا ينكره إلا كل أعمى مطموس ، وممن في قبائحه وفضائحه منكوس مغموس وقد أخبر بهذا الصادق المصدوق بأحاديث لا تحصى ، و، أخبار لا تستقصى ، ويكفي ما رواه البيهقي في الشعب عن علي t قال: قال رسول الله r (( يوشك أن يأتي للناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، علماؤهم شر من تحت أديم السماء ، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود )) وهذا مصرح برفع معالي هذه الأشياء وأسرارها والمقصود منها وإن وجدت صورته ، ومن تدبر أحوال هذا الوقت رأى الأمر كذلك بلا شك وأن ما هناك منفك ، وعنه قلت
ما في الزمان من العكوس ثم النحوس مع النكوس
لم لا ودين أهيله تلك الدراهم والفلوس
وقلت في بعض المنفرجات :
تباً لعباد قد عبدوا صنم الأهواء على عوج
فالدنيا الدنيا دينهم والله وأحمد في الهيج
آه منا ولنا ماذا يختار الأعوج من نهج
واعلم أن قوة التعلق بالوسائل والأسباب ، شدة ربط القلوب بالأسباب والأبواب من قوة الإسلام والإيمان وصلابة الدين والإيقان ، ووهن هؤلاء ووهن ذلك ، عاد كل بضد كل ذلك ، وما زالت الناس بخير ما قوي الكل ، وما عظم الجزء مع القل ، وما أكثر شر الزمان وضره ودنسه وغثائه ومره إلا بوهن ذلك ، وهذا شاهد لمن تدبر وتفكر وتبصر ، فتدبروا يا ذوي الأفكار ، واعتبروا يا أولي الأبصار ، قولوا الأمر لله الواحد القهار ، اللهم أهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وقنا شر ما قضيت ، اللهم آمين هذا : وقد جرى الإلهام بتسمية هذا الكلام (تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال في الأم وكان الفراق من نسخها يوم السبت 19 ذي القعدة سنة * 1255 هجرية على يد أفقر الناس إلى ربه المجيد محمد صالح بن محمد عباس محمد سعيد سنبل بن محمد سنبل فقيه بالمروة غفر الله له ولجميع المسلمين آمين آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن على خطيب بغداد رخمه الله تعالى ، رسمت في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصةً ولغيره عامة ما أقول نصيحة مني له وغيرة عليه وهو أن يتميز عمن رضي لنفسه الجهل ، ولم يلزم فيه معنى يلحقه بأهل الفضل ، وينظر فيما أذهب فيه معظم وقته وقطع به أكثر عمره من كتب حديث رسول الله r وجمعه . ويبحث عن علم ما أمر به من معرفة حلاله وحرامه وخاصه وعامه وفرضه وندبه وإباحته وحظره وناسخه ومنسوخه وغير ذلك من أنواع علومه قبل فوات إدراك ذلك فيه ، وروى بإسناده إلى الشافعي أنه قال: تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه . وروى بإسناده إلى أبي محمد المروزي قال: كان يقال إنما تقبل الطينة الختم مادامت رطبة ، أي أن العلم ينبغي أن يطلب في طرءة السن ، وقال جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عمر t أنه قال: تفقهوا قبل أن تسودوا ، ثم صاغه بإسنادين له أحدهما من طريق ابن سيرين عن الأحنف بن غيث عن عمر ، والآخر عن الحسن عن الأحنف عن عمر قال والصواب : عن ابن سيرين كما ذكرنا أولاً والله أعلم قال وقال أبو عبيدة في حديث عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا ، يقول: تعلموا العلم ما دمتم صغاراً قبل أن تصيروا سادةً رؤساء منظور إليكم ، فإن لم تتعلموا قبل ذلك استحيتم أن تتعلموا بعد الكبر فبقيتم جهالاً تأخذونه من الأصاغر فيزري ذلك بكم ، وهذا شبيه بحديث عبد الله : ((لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، فإذا أتاهم من أصاغرهم فقد هلكوا )) قال أبو عبيدة : وفي الأصاغر تفسير آخر بلغني عن ابن المبارك أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع ، ولا يذهب إلى السن ، ثم ساق بإسناده إلى أبي أمية الجمحي قال: سئل رسول الله r عن أشراط الساعة قال: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم علمائهم فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا )) وروى بإسناده إلى عبد الله بن مسلم بن قيبة الدينوري ((قال سألت عن قوله لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، يريد لا يزل الناس بخير مما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث لأن الشيخ قد زالت عنه ميعة الشباب وجدته وعجلته وسفهه ، واستصحب التجربة والخبرة ولا يدخل عليه في علمه الشبهة ولا يغلب عليه الهوى ولا يميل به الطبع ولا يستنزله الشيطان استنزال الحدث ، ومن المسن الوقار والجلالة والهيبة ، والحدث تدخل عليه الأمور التي أمنت على الشيخ ، فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك : قال الخطيب رحمه الله : ولا يقتنع أن يكون راوياً حسب ومحدث فقط وروى بإسناده إلى على بن موس الرضا عن أبيه عن جده عن آبائه أن رسول الله r قال: ((كونا دراة ولا تكونوا رواة حديث تعرفون فقهه خير من ألف ترونه )) وروى بإسناده إلى الربيع بن سلمان قال: سمعة الشافعي ، وذكر من يحمل العلم جزافاً ، فقال : هذا مثل حاطب ليل يقع حزمة حطب فيحملها لعل فيا أفعى فتلدغه وهو لا يدري . قال الربيع عنى الذين لا يسألون عن الحجة من أين ؟ وروى بإسناده إلى أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: سئل بعضهم متى يكون الأدب ضاراً ؟ قال إذا انقطعت القريحة وكثرة الرواية قال: أخبر القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي ، أنا أبو لحسن محمد بن جعفر التميمي الكوفي قال: قال لنا أبو العباس بن عقدة يوماً وقد سأله رجل عن حديث فقال : أقلوا من هذه الأحاديث فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها ، فقد روى يحيى بن سليمان عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً يقول : كثير من هذه الأحاديث ضلالة لقد خرجت من أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سواطين وأني لم أحدث به ، ولعله يطول عمره فتنزل به نازلة في دينه يحتاج أن يسأل عنها فقيه وعسى أن يكون الفقيه حديث السن فيستحي أو يألف من مسألته ويضيع أمر الله في تركه معرفة حكم نازلته ، وروى بإسناده إلى عمر t أنه قال: قد علمت متى صلاح الناس ، ومتى فسادهم ، إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا ، وإن أدركه التوفيق من الله وسأل الفقيه لم يأمن أن يكون بحضرته من يزري به ويلومه على عجزه في مقتبل عمره إذا فرط في التعليم فينقلب حينئذ واجماً ، وعلى ما أسلف من تفريط نادماً ، وروى بإسناده إلى محمد بن عبيد قال: جاء رجل وافر اللحية إلى الأعمش فسأله عن مسألة من مسائل الصبيان يحفظها الصبيان فالتفت إلينا الأعمش وقال: أنظروا إلى لحية تحتمل حفظ أربعة آلاف حديث مسألته مسألة الصبيان : قال وليعلم أن الإكثار من الحديث وروايته لا تصير الرجل فقيهاً وإنما تفقه باستنباط معانيه ، وإمعان التفكر فيه ، وروى بإسناده إلى مالك بن أنس أنه قال: لابن أخته أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس : أركما تحبان هذا الشأن وتطلبانه ؟ قالا: نعم ، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما فأقلا منه وتفقها ، وروى بإسناده إلى الأعمش قال: لما سمعت الحديث قلت : لو جلست إلى سارية أفتي الناس : قال: فجلست إلى سارية فكان أول ما سألوني عنه لم أدري ما هو . وروى بإسناده إلى ابن خلاد قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن سهيل قلت : حدثني رجل ذكره أهل العلم ، قال خلاد فأنسيت أنا اسمه ، قال: وقفت إمرة على مجلس فيه يحي بن معين وأبو خثيمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث فسمعتهم يقولون : قال: رسول الله r ورواه فلان ، وما حدث به غير فلان فسألتهم عن الحائض تغسل الموتى ، وكانت غاسلة فلم يجبها أحد منهم ، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ، فأقبل أبو ثور فقالوا لها : عليك بالمقبل فالتفتت إليه وقد دنى منها فسألته فقال : نعم تغسل الميت لحديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي r قال لها (( إن حيضتك ليست في يدك ، ولقوله كنت أفرق رأس رسول الله r بالماء وأنا حائض )) قال: أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحي فالميت أولى ، فقالوا: نعم ، رواه فلان وحدثناه فلان وفلان ويعرفونه من طريق كذا وخاضوا في الطريق ، فقالت المرأة : فأين كنتم إلى الآن ؟ وإنما أسرعت ألسنة المخالفين إلى الطعن على المحدثين لجهلهم أصول الفقه وأدلته في ضمن السنن مع عدم معرفتهم بمواضعها ، فإذا عرف صاحب الحديث بالتفقه خرست عنه الألسن ، وعظم محله في الصدور والأعين ، وخشي من كان عليه يطعن . وروى بإسناده إلى وكيع قال: قال: لقيني أبو حنيفة فقال لي : لو تركت كتابة الحديث وتفقهت أليس كان خيراً ؟ فقلت: أفليس الحديث يجمع الفقه كله ، قال: ما تقول في امرأة ادعت الحمل وأنكر الزوج ؟ فقلت له حدثني عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r (( لا عن بالحمل )) فتركني فكان بعد ذلك إذا رآني في طريق أخذ طريق آخر ، وروى بإسناده إلى علي بن خشرم قال: سمعت وكيعاً غير مرة يقول: يا فتيان تفقهوا فقه الحديث فإنكم إن تفقهتم فقه الحديث لم يقهركم أهل الرأي ، وروى بإسناده إلى علي بن خشرم المروزي أيضاً قال: : سمعت وكيعاً يقول لأصحاب الحديث : لو أنكم تفقهتم بالحديث وتعلمتموه ما غلبكم أصحاب الرأي ، ما قال أبو حنيفة في شيء يحتاج إليه إلا ونحن نروي فيه باباً ، قال رحمه الله : ولابد للفقيه أستاذ يدرس عليه ويرجع في تفسير ما أشكل إليه ، ويتعرف منه طريق الاجتهاد ، وما يعرف به الصحة والفساد ، وروى بإسناده إلى سليمان بن أبي شيخ قال أخبرني بعض الكوفيين قال: قيل لأبي حنيفة : في المسجد حلقة ينظرون في الفقه ، قال: لهم رأس ؟ قالوا: لا ، قال: لا يفقهه هولاء أبداَ ، وروى بإسناده إلى إبراهيم بن إسحاق الزهري ثنا أبو نعيم قال : كنت أمر على زفر محتب بثوبه كتده فيقول يا أحول تعال حتى أغربل لك أحاديثك ، فأريه ما قد سمعت فيقول: هذا ويأخذ به ، وهذا لا يأخذ به ، وهذا ناسخ ، وهذا منسوخ وروى بإسناده إلى عبيد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى الأعمش فسأله عن مسألة ، وأبو حنيفة جالس ، فقال الأعمش : من أين قلت هذا ؟ فقال: من حديثك الذي حدثتنا به ، قال: نعم نحن صيادلة وأنتم أطباء ، وفي رواية قال: كنا عند الأعمش وهو يسأل أبا حنيفة عن مسائل ويجيبه أبو حنيفة فيقول له الأعمش : من أين لك هذا ؟ فيقول : أنت حدثتناه عن إبراهيم بكذا ، وحدثتناه عن الشعبي بكذا ، قال: فكان الأعمش بعد ذلك يقول يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة ، وروى بإسناده عن إلى عطية بن بقية قال: قال أبي : كنت عند شعبة بن الحجاج إذ قال لي يا أبا محمد إذا جاءتكم مسألة معضلة : ممن تسألون عنها ؟ قال: قلت في نفسي : هذا رجل قد أعجبته نفسه ، قال: قلت يا أبا بسطام نوجه إليك وإلى أصحابك حتى يفتوه ، قال: فما كان إلا هنيهة إذ جاء رجل فقال يا أبا بسطام رجلا ضرب رجلا على أم رأسه فادعى عليه المضروب أنه انقطع شمه ، قال: فجعل شعبة يتشاغل عنه يميناً وشمالاً فأومأت إلى الرجل أن ألح عليه ، فالتفت إلي وقال يا أبا محمد ما أشر البغي على أهله ، لا والله ما عندي فيه شيء ولكن أفته أنت ، قال: قلت يسألك وأفتيه أنا ؟ قال فإني قد سألتك ، قال قلت: سمعت الأوزاعي والزبيدي يقولان : يدق الخردل دقاً بالغاً ثم يشم فإن عطس كذب ، وإن لم يعطس صدق ، قال: جئت بها باقية ، والله ما يعطس رجل انقطع شمه أبداً .