مشاهد من اتفاقية السلام السودانية في نوفمبر 1988
حينما شارك الحزب الاتحادي الديمقراطي حزب الامة القومي في الحكومة الائتلافية في الثمانينات وبحكم الحس الوطني لدي قيادة الحزب الاتحادي قام الحزب بتكوين لجنة للنظر في امكانية التوصل الي تفاهم مع حركة قرنق للوصول الي ايقاف الحرب والاقتتال وحل الخلافات بالحوار. ذلك لان الحرب بين الحركة الشعبية والجيش السوداني لم تكن دوافعها ذات بعد مبدئى او اسس جلية او سبب ديني ولم تكن مرغوبة لدي قطاع واسع من الشعب السوداني في مقدمته الجيش السوداني الذي عاني الامرين علي الرغم من الميزانية الكبيرة التي كانت مخصصة له منذ حكومة نميري - وكان الصرف علي الجيش والحرب يمثل عبئا كبيرا علي الدولة ويهدر اموالا اولي ان تصرف في الصحة او التعليم او التنمية - فالوقود واللبس والسلاح والتدريب والصيانة للمعدات والاسلحة والاكل والشرب والمأوي كلها منصرفات وعبئ تتحمله الدولة - كذلك كانت الروح المعنوية للضباط والجنود تتأثر بطول امد القتال الاستنزافي وطول غياب الضباط والجنود عن اهلهم وذويهم لنقص في عددية الجنود والضباط الذين يمكن ان يستبدلوا بهم - فرأت قيادة الحزب حينها (ولا نقول الحكومة) ان هذه الحرب له اضرار علي مستقبل السودان ولا بد من محاولة حلها وقامت حينها بالسعي في صمت لمعرفة اهداف الحركة وامكانية التوصل لحلول بتكوين لجنة اختير علي رأسها قائد عسكري كبير (هو المرحوم الفريق يوسف احمد يوسف) بحكم ان الجيش السوداني هو صاحب المصلحة الاول في وقفها وصاحب المعرفة التفصيلية برحاها وبدأت المفاوضات في لندن (دون تدخل اي قوي اجنبية) في كتمان (وهذا من نهج النبوة حيث قال المصطفي (ص) استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان) وتطور التفاوض عبر مراحل كثيرة الي ان اتفق الوفدان علي مسودة اتفاق ليعرض علي لقاء القادة في اديس ابابا للتوقيع النهائي.
وحينما انتهت اللجان من المسودة النهائية وعرضتها علي قيادة الحزب برئاسة مولانا السيد محمد عثمان ولم يكن بها ما اعترض عليه السيد محمد عثمان او احد في قيادة الحزب - تأملوا هنا نهج الشوري - قام السيد محمد عثمان (ادراكا منه لتحديات مستقبليه ومحكات ستواجه اعلان الاتفاق وبنظرة سياسية ثاقبة) قام باعلام عدد من قادة جيران السودان وعلماء المسلمين (ولعل احد تلك الاسباب كان توقع لجلجة الكيزان ومحاولتهم اظهار الاتفاق وكأنه موجه ضد مصر بتجميد اتفاقية الدفاع المشترك والسعودية والعلم الاسلامي بتوقيع اتفاق مع حركة اغلب قادتها من غير المسلمين وكذلك خلق منافسة غير مجدية بين اثيوبيا ودول اخري لاستضافة مثل ذلك الحدث ) فقطع عليهم السيد محمد عثمان طريق بث الفتن بضمان الدعم السياسي من داخل وخارج السودان قبل التوقيع (ومن ضمن ما قاله عدد من القادة - كان كلام شيخ الازهر وقتها دعما للسيد محمد عثمان "افعل ما تشاء والله معك ونحن نؤيدك" - وارجو ان نتأمل في اختيار السيد محمد عثمان لشيخ الازهر ليكون من ضمن من يعلمهم بالامر قبل الولوج فيه (لقول المصطفي (ص) ما خاب من استشار- وانظروا الي اختيار من يستشار)
عموما عزم رئيس الحزب علي السفر لقابلة قرنق في اثيوبيا وكمحاوله اخيرة من ناس لجلج لاعتراض رحلة السيد محمد عثمان قاموا بترتيب اطلاق نار علي دار السيد محمد عثمان ليلة سفره -ولا اعتقد ان قرارا كهذا اتخذه الكيزان بمنأي عن كبار احبارهم وكانت عملية دنيئة ودخيله علي العرف السياسي في السودان - ولعلنا نحتاج ان نتأمل في لماذا اجتهد الكيزان لهذا الحد في اعتراض التوصل الي اتفاق مع الحركة (مع النظر الي حجم التنازلات وتضييع حقوق السودانيين جنوبا وشمالا في اتفاقهم مع الحركة في نيفاشا ) - لعلنا نصل الي فهم اعمق لعقلية الفرد الكوز وما يدور في قلوبهم وعقولهم ان وجد بها شئ يستحق البحث.
لم يبالي الحزب وقيادته بتلك المحاوله (ولعل من لطائف الرحمن ان جعلها الله سببا في انضمام المناضل حسن عباسية الي جيش ابو هاشم وتركه لخدمة الشرطة للابد -فكم لله من لطف خفي يدق خفاة عن فهم الذكي)
وذهب السيد محمد عثمان لاثيوبيا لاول مرة بعد عقود طويلة علي رغم الدعوات المتكررة والطلبات المتعددة من الامبراطور هيلاسيلاسي للسيد علي -عليه رضوان الله - ليأذن للسيد محمد عثمان بزيارة اثيوبيا - ورفض السيد علي الميرغني المتكرر للاذن للسيد محمد عثمان نسبة لاوضاع المسلمين في عهد هيلاسيلاسي. فكانت الزيارة بعد سقوط هيلاسيلاسي وتولي منقستو هيلامريم الذي استقبل مولانا لدي وصوله اثيوبيا تأكيدا لاهمية الزيارة ودعم القيادة الاثيوبية لها. وقد قام مولانا في تلك الزيارة بالالتقاء بوفود المسلمين من انحاء اثيوبيا المختلفة وتفقد احوالهم واذكر من ضمن من صحب مولانا من هيئة الختمية احد علماء الشريعة الذي لم يأتي ولن يأتي مثله في السودان (وهذا الكلام ليس كلامي وانما كلام احد اقطاب علم الحقيقة واصحاب المشاهدة) وهو المرحوم قاضي قضاة السودان الشيخ الجزولي.
التقي مولانا وجون قرنق في لقاء ودي لاول مرة وعرضت عليهم اوراق الاتفاق قبل يوم التوقيع فلاحظ مولانا (وجل نظره ملاحظة) تغيرا لجملة في احد البنود تقول "الغاء قوانين الشريعة الاسلامية" كاحد مطالب الحركة الشعبية - فسأل مولانا جون قرنق "كيف تتوقع مني ان اوقع علي هذا الكلام؟" وانظروا الي "كيف تتوقع" فهي ليست مثل "كيف اوقع او كيف اوافق" - وللحقيقة لم يكن قرنق ملما بهذه الصياغة او موافقا عليها فذهب ووبخ وفده شدة التوبيخ علي هذا المطلب وفي اليوم التالي تغيرت العبارة الي "تجميد قوانين سبتمبر" والتي كان وراءها حسن الترابي حينما كان حليفا للديكتاتور جعغر نميري ولم تكن قوانين سبتمبر هذه الا اشانه لشرع الله ومحاوله للهروب من مقاصد الشرع الحقيقية باستمالة قلوب الجهلاء بقطع الايادي و ظواهر بعض الاحكام التي لا يعلم او يفهم الفرد الكوز معناها اوغيرها.
وتم توقيع الاتفاق بين القائد الفريق يوسف احمد يوسف ورئيس وفد التفاوض من الحركة وموافقة مولانا وجون قرنق وقال مولانا يومها في بيان الاتفاق "ان كافة القوي السياسية السودانية وافقت علي الاتفاق ما عدا حزب واحد -قصد الكيزان) وهناك يا اخوان شاء الله لعبدين من عبادة وهم علي رأس المؤمنين وغير المؤمنين في اكبر بلد في احدي اكبر قارات الارض ان تكون بينهم مودة وثقة كانت محل درس في تعاليم الدين الحقيقية وحملت معاني مازال يعيش بها كثير من ابناء بلدنا وكانت وستكون نبراسا ومثالا يحتذي في التعاطي مع الخلافات في اسوأ ظروف المشاحنات والتعبئة السلبية والفتن لنتعلم من نهج السيد محمد عثمان - والذي هو والله مدرسة في فن السياسة وادارة الامور لمن سعي للتعلم وطهر قلبه - وللتأمل في شيم الرجولة التي حملها قرنق وطهاره قلبه وشاء الله كذلك لتلك العلاقة ان تكون ارضية لتوحيد رؤي السودانيين في الشمال والجنوب نحو حياة مشتركة ومستقرة - عملا لها سويا فيما بعد عبر التجمع الوطني الديمقراطي وما زال يحلم وينادي بها الكثير من ابناء شعبنا المخلصين اليقظين- في ظل استمرار نفس الجماعة التي اطلقت النار علي دار السيد محمد عثمان في سعيها للتفرقة بين ابناء الوطن الواحد (ابعدوا الشعب عن نيفاشا حتي فصلوا البلد الواحد ومستمرين في محاولة حكم النصف الشمالي بالقهر والظلم والجهل)
وحين الوداع وخروج مولانا من المبني وقف قرنق وامسك بيديه الاثنان بيد السيد محمد عثمان اليمني (وكان مولانا ممسكا بعصاه باليسري) امام الناس في مودة وتقدير حقيقيين ولم يرفع يده الي ان رفع السيد يده
(في مقبل الاعوام قال قرنق مخاطبا السيد محمد عثمان في احد الامور حيث كان يبحث عن السيد محمد عثمان ولا يعلم مكان تواجده فاتصل مولانا باحد الناس وصادف ذلك زيارة قرنق لذلك الرجل فقال قرنق متعجبا لمولانا: this is not politics this is something else)
عاد مولانا وفرح الشعب وارتجته الملايين من سلم الطائرة الي داره وهي تحلم بوطن مستقر وسلم تهنأ به - وكان هو بمثابه الاب الذي يجلب الخير لابناءه متي ما حل او ارتحل ( وحكي انه حينما حطت الطائرة في مطار الخرطوم تدفق الالاف من المواطنين اليها فطلب عدد من اعضاء الوفد المرافقين من مولانا الانتظار بالطائرة حتي يفتح الطريق له ولكنه لم يبالي فقد كان السودان امانا وانسانه انسانا ومولانا في سفينته ربانا
وكانت فرحة الجيش اكبر بوعد السلام ولذلك كان غضب الجيش اكبر بتأخر موافقة البرلمان واقراره للأتفاقية فرفع الجيش مذكرته للحكومة محذرا من عواقب عدم تنفيذ الاتفاق وانسحب نواب الحزب الاتحادي من البرلمان حينما تواني الصادق المهدي في اقرار الاتفاق في البرلمان (فصدقا قال الامام الجنيد: التردد شؤم والتواني هلكة) فقد كان وراء هذا التردد من جانب حزب الامة حسن الترابي وكان بين الترابي والصادق وصال - فكما حكي احد نواب حزب الامة في البرلمان حينذاك ان غالبية الشعب ونواب حزب الامة كانوا مع الاتفاق ويتهيأون للتصويت بالموافقة في اليوم المحدد للتصويت علي الاتفاقية - ولكن استدعاهم رئيس الحزب الصادق المهدي الي داره قبل التصويت بيوم وظلوا في انتظار قدومه اليهم (حيث كان خارج الدار) وبعد فترة رأوه يحضر في سيارة ومعه حسن الترابي حيث نزلا وصعدا الي مكتب الصادق وبعد مدة نزل الترابي وركب السيارة مغادر وبعدها بقليل نزل الصادق اليهم متجهم الوجه وفاجأهم قائلا " اني استخرت ورأيت ان تصوتوا ضد الاتفاق غدا في البرلمان" واستغرب الكثيرون منهم وتعجبوا من الامر وكان ما كان من انسحاب الاتحادي من الحكومة ودخول الترابي مع الصادق في ائتلاف - ومع ذلك قام الترابي في الخفاء بترتيب انقلابه المشؤوم وامر خادمه البشير وفراد العصابة باعتقال كافة السياسيين في كوبر مع استثناء علي محمود حسنين لان علي محمود وقتها كان خارج البرلمان والحزب الاتحادي الديمقراطي (حيث لم يحصل الحزب الذي انشأه بعيد الختلاف مع الشريف الهندي - الحزب الوطني الاتحادي(كانت داره في الخرطزم 3) - علي اي دائرة في الانتخابات - وكانت له علاقة قديمة حميمة مع حسن عبدالله الترابي) فأشار الترابي الماكر لقادة عصابته بأن يذهبوا لعلي محمود ويعرضوا عليه منصب رئيس الوزراء في حكومة الانقاذ (املا من الترابي في ان يفشي علي محمود غلة وينتقم من الاحزاب وقادتها بحساب خروجة عن حزبة وسقوطه في دائرته الانتخابية في دنقلا - لعله ظنا من الترابي ان الجميع مثله اصحاب ضغائن ونفوس مريضة - حينما حقد علي احزاب الامة والشيوعي والاتحادي حينما تحالفوا لاسقاطه في دائره الصحافة متنازلين لمرشح الحزب الاتحدي الذي فاز بها علي رغم اموال الترابي الكثيرة - حين كان الكيزان اغني الاحزاب علي الاطلاق وكن يأتيهم الدعم من عدة مصادر خاصة الخليج عبر علي عثمان حيث ينافق العرب قائلا بحوجتهم للمال لنشر الدعوة في افريقيا) وسبب تحالف الاحزاب ذاك ازمة نفسية في دواخل حسن الترابي حيث فشل في حلمه الطفولي في ان يدخل البرلمان عبر صندوق الاقتراع - ولاحظوا سعي الترابي لاحقا ان يكون رئيسا للبرلمان في عهد الانقاذ متحدثا باسمه - ومحاولته التي عجلت بنهايته السياسية للالتفاف علي شلة القصر الجمهور وعمر الكزاب بطلب ان يأتي الولاة "بالانتخاب" اي اختياره هو بمعني اخر- وليس بتعيين البشير. ولكن علي محمود لم يقبل العرض وذهب واخبر السيد علي بن السيد محمد عثمان بالامر - حيث كان السيد محمد عثمان في كوبر. ولكن اختلاف وجهة النظر لم يفسد للود قضية فرد علي محمود الجميل للترابي بعد مدة وترأس لجنة الدفاع عنه ضد شلة القصر - المراسلة حقت زمان.
ولعله جدير بالذكر هنا - للاعتبار يا اخوان وادراك ان مكر السوء دائما يحيق بأهله - ان خطة الترابي تلك والتي عجلت بانشقاق حزب الكيزان كانت من بنودها شق صف التجمع الوطني بسحب الصادق وحزب الامة منه عبر الاتفاق مع الصادق في جنيف علي دخول الصادق الحكومة (ولا تنسوا ان بين الصادق والترابي وصال) كرئيس وزراء (الشغلة القديمة ذاتها) ويتولي الترابي رئاسة البرلمان بنوابه وولاته الكرتون اياهم وعجل بتلك المساعي مبارك الفاضل بلهثه خلف الانقاذ بتوقيع اتفاقية جيبوتي (التي قال قرنق فيها للسيد محمد عثمان: مبارك يتحاسب, وحزب الامة يعود للتجمع وجيبوتي مرفوضة....وده تأملو كيف انا ما أرف فضحك هوومولانا في ذلك) - فحين علمت شلة القصر وكان قد ضاق بها الحال ونفد صبرها -الذي كان اصلا قليل- بمؤامرة جنيف (وكانت قبلها اتفاقية جيبوتي مع مبارك الفضل بمنأي عن التجمع حينما كان امينه العام)
قررت شلة القصر ان تتغدي بالترابي قبل غروب شمس "الانقاذ" التي ضحوا من اجلها بالرفيق والصديق, باقيم واحترام النفس, واجتهدوا من اجلها وتعلموا وتفننوا في كافة فنون الرياء في الدين والنفاق في المبادئ والمداهنة مع الناس والرشوة وبيع الذمم والمكابرة وتضليل العامة من الناس و القتل والنهب والسرقة ووووو...
فكان طبيعي ان ينقلب عليه من علمهم تلك الفنون - ويرجع مكر السوء الي اهله
اما الصادق المهدي الذي كل في السعي للدنيا وأضرته صحبه الترابي ووساوسه وما زال بينهم حبل وصال - فلم يوفق في مقصد له قط الي الان وسنمر إن شاء الله علي رحلته الي التجمع ثم منه لعلنا نهتدي منها بعبر - اوليست تهتدون؟؟؟ فلا استخارته ليلة التصويت وفقته لمقاصد وعده بها الترابي ولا جيبوتي اومنافستها جنيف نجحتا في تحقيق مأربهما - ودون الاجتهاد في التفاصيل - فكلتا المسعيين كانا من مكر السوء - ولكن للحقيقة فربما كان الصادق بريئا من مكر الترابي - فقد اعلم رئيس التجمع وقتها بنيته السفر الي جنيف دون تفاصيل ورد عليه مولانا بأنه معه الي حين يعود ولكن بعدها لم يعود الصادق ولم يخبر احدا بما دار او الاتفاق فكان ما كان وكان المناضل نقد الله (عجل الله بشفاءه) من اصحاب المواقف المشرفة في ذلك الوقت وعلي الرغم من غضب الكثير من فصائل التجمع من مسلك مبارك والصادق في التعاطي مع الامور واخفاء الاتفاقيات مع العدو (الكيزان) عن رفقاء النضال في التجمع اصر الامير نقد الله علي مشاركة وفد من حزب الامة في اجتماعات التجمع وكان ذلك ضربة قوية للكيزان في مسعاهم لاخراج حزب الامة من التجمع وشق صفه - واعاب مولانا السيد محمد عثمان علي اعضاء مؤتمر التجمع انذاك التصفيق عند خروج وفد حزب الامة وقال مقولته الشهيرة كرئيس للتجمع ان " مكان حزب الامة محفوظ متي ما قرر العودة الي التجمع"
نكتفي بهذا القدر الان - وحكمة اليوم يمكن تكون: احذروا مكر السوء فتضلوا فتهتدون