الشرح:
قوله: (باب الصائم يصبح جنبا) أي هل يصح صومه أو لا؟ وهل يفرق بين العامد والناسي أو بين الفرض والتطوع؟ وفي كل ذلك خلاف للسلف، والجمهور على الجواز مطلقا، والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلَا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ وَقَالَ هَمَّامٌ وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ
الشرح:
قوله: (كنت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة) كذا أورده البخاري من رواية مالك مختصرا، وعقبه بطريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن فأوهم أن سياقهما واحد، لكنه ساق لفظ مالك بعد بابين وليس فيه ذكر مروان ولا قصة أبي هريرة، نعم قد أخرجه مالك في " الموطأ " عن سمي مطولا، ولمالك فيه شيخ آخر أخرجه في الموطأ عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن مختصرا، وأخرجه مسلم من هذا الوجه أيضا، وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن جريج عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه أتم منه، وله طرق أخرى كثيرة أطنب النسائي في تخريجها وفي بيان اختلاف نقلتها، وسأذكر محصل فوائدها إن شاء الله تعالى.
قوله في رواية شعيب (أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان) أي ابن الحكم، وإخبار عبد الرحمن بما ذكر لمروان كان بعد أن أرسله مروان إلى عائشة وأم سلمة، بين ذلك في " الموطأ " وهو عند مسلم أيضا من طريقه ولفظه " كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك.
قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة " فساق القصة.
وبين النسائي في رواية له أن عبد الرحمن بن الحارث إنما سمعه من ذكوان مولى عائشة عنها ومن نافع مولى أم سلمة عنها، فأخرج من طريق عبد ربه بن سعيد عن أبي الحديث عياض عن عبد الرحمن بن الحارث قال " أرسلني مروان إلى عائشة، فأتيتها فلقيت غلامها ذكوان فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك فقالت " فذكر الحديث مرفوعا قال " فأتيت مروان فحدثته بذلك فأرسلني إلى أم سلمة، فأتيتها فلقيت غلامها نافعا فأرسلته إليها فسألها عن ذلك " فذكر مثله.
وفي إسناده نظر، لأن أبا عياض مجهول، فإن كان محفوظا فيجمع بأن كلا من الغلامين كان واسطة بين عبد الرحمن وبين كل منهما في السؤال كما في هذه الرواية، وسمع عبد الرحمن وابنه أبو بكر كلاهما من وراء الحجاب كما في رواية المصنف وغيره، وسأذكره من رواية أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عند النسائي ففيه " أن عبد الرحمن جاء إلى عائشة فسلم على الباب فقالت عائشة: يا عبد الرحمن " الحديث.
قوله: (كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم) في رواية مالك المشار إليها " كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام " وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وأبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة " كان يدركه الفجر في رمضان جنبا من غير حلم " وستأتي بعد بابين، وللنسائي من طريق عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عنهما " كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم " وله من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال " قال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: اذهب إلى أم سلمة فسلها، فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام".
قال القرطبي: في هذا فائدتان، إحداهما أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز.
الثاني أن ذلك كان من جماع لا من احتلام لأنه كان لا يحتلم إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه.
وقال غيره: في قولها " من غير احتلام " إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى، ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام، وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر، وإذا كان فاعل ذلك عمدا لا يفطر فالذي ينسى.
الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك.
قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرء على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فبين في هذا الحديث أن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال.
قوله: (وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله) في رواية النسائي من طريق عكرمة ابن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن " فقال مروان لعبد الرحمن: الق أبا هريرة فحدثه بهذا، فقال: إنه لجاري، وإنه لأكره أن أستقبله بما يكره.
فقال: أعزم عليك لتلقينه " ومن طريق عمر بن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه " فقال عبد الرحمن لمروان: غفر الله لك، إنه لي صديق، ولا أحب أن أرد عليه قوله " وبين ابن جريج في روايته عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه سبب ذلك ففيه " عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول في قصصه: ومن أدركه الفجر جنبا فلا يصم.
قال فذكرته لعبد الرحمن، فانطلق وانطلقت معه حتى دخلنا على مروان " فذكر القصة، أخرجه عبد الرزاق عنه ومن طريقه مسلم والنسائي وغيرهما.
وفي رواية مالك عن سمي عن أبي بكر " أن أبا هريرة قال: من أصبح جنبا أفطر ذلك يوم " وللنسائي من طريق المقبري " كان أبو هريرة يفتي الناس أنه أصبح جنبا فلا يصوم ذلك اليوم " وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول " من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم"، ومن طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن الحارث " أن أبا هريرة كان يقول: من أصبح جنبا فليفطر " فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك، وسيأتي بيان من روى ذلك عنه مرفوعا في آخر الكلام على هذا الحديث.
قوله: (لتفزعن) كذا للأكثر بالفاء والزاي من الفزع وهو الخوف أي لتخيفنه بهذه القصة التي تخالف فتواه، وللكشميهني " لتقرعن " بفتح فقاف وراء مفتوحة، أي تقرع بهذه القصة سمعه، يقال قرعت بكذا سمع فلان إذا أعلمته به إعلاما صريحا.
قوله: (ومروان يومئذ على المدينة) أي أمير من جهة معاوية.
قوله: (فكره ذلك عبد الرحمن) قد بينا سبب كراهته، قيل ويحتمل أن يكون كره أيضا أن يخالف مروان لكونه كان أميرا واجب الطاعة في المعروف، وبين أبو حازم عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه سبب تشديد مروان في ذلك، فعند النسائي من هذا الوجه قال " كنت عند مروان مع عبد الرحمن، فذكروا قول أبي هريرة فقال: اذهب فاسأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال فذهبنا إلى عائشة فقالت: يا عبد الرحمن، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة " فذكرت الحديث " ثم أتينا أم سلمة كذلك، ثم أتينا مروان فاشتد عليه اختلافهم تخوفا أن يكون أبو هريرة يحدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مروان لعبد الرحمن: عزمت عليك لما أتيته فحدثته".
قوله: (ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة) أي المكان المعروف وهو ميقات أهل المدينة، وقوله (وكان لأبي هريرة هناك أرض) فيه رفع توهم من يظن أنهما اجتمعا في سفر، وظاهره أنهما اجتمعا من غير قصد، لكن في رواية مالك المذكورة " فقال مروان لعبد الرحمن: أقسمت عليك لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه.
قال فركب عبد الرحمن وركبت معه " فهذا ظاهر في أنه قصد أبا هريرة لذلك، فيحمل قوله " ثم قدر لنا أن نجتمع معه " على المعنى الأعم من التقدير لا على معنى الاتفاق، ولا تخالف بين قوله " بذي الحليفة " وبين قوله " بأرضه بالعقيق " لاحتمال أن يكونا قصداه إلى العقيق فلم يجداه ثم وجداه بذي الحليفة وكان له أيضا بها أرض.
ووقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر " فقال مروان عزمت عليكما لما ذهبتما إلى أبي هريرة، قال فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد " والظاهر أن المراد بالمسجد هنا مسجد أبي هريرة بالعقيق لا المسجد النبوي جمعا بين الروايتين، أو يجمع بأنهما التقيا بالعقيق فذكر له عبد الرحمن القصة مجملة أو لم يذكرها بل شرع فيها ثم لم يتهيأ له ذكر تفصيلها وسماع جواب أبي هريرة إلا بعد أن رجعا إلى المدينة وأراد دخول المسجد النبوي.
قوله: (إني ذاكر لك) في رواية الكشميهني " إني أذكر " بصيغة المضارعة.
قوله: (لم أذكره لك) في رواية الكشميهني " لم أذكر ذلك " وفيه حسن الأدب مع الأكابر وتقديم الاعتذار قبل تبليغ ما يظن المبلغ أن المبلغ يكرهه.
قوله: (فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل) ظاهره أن الذي حدثه به الفضل مثل الذي ذكره له عبد الرحمن عن عائشة وأم سلمة، وليس كذلك لما قدمناه من مخالفة قول أبي هريرة لقول عائشة وأم سلمة، والسبب في هذا الإبهام أن رواية شعيب في حديث الباب لم يذكر في أولها كلام أبي هريرة كما قدمناه فلذلك أشكل أمر الإشارة بقوله كذلك.
ووقع كلام أبي هريرة في رواية معمر وفي رواية ابن جريج كما قدمناه فلذلك قال في آخره " سمعت ذلك - أي القول الذي كنت أقوله - من الفضل " وفي رواية مالك عن سمي " فقال أبو هريرة لا علم لي بذلك " وفي رواية معمر عن ابن شهاب " فتلون وجه أبي هريرة ثم قال: هكذا حدثني الفضل".
قوله: (وهو أعلم) أي بما روى والعهدة عليه في ذلك لا علي.
ووقع في رواية النسفي عن البخاري " وهن أعلم " أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في رواية معمر.
وفي رواية ابن جريج " فقال أبو هريرة أهما قالتاه؟ قال: هما أعلم " وهذا يرجح رواية النسفي، وللنسائي من طريق عمر بن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه " هي - أي عائشة - أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا " وزاد ابن جريج في روايته " فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك " وكذلك وقع في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عند النسائي أنه رجع، وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد ويعلى بن عقبة وعراك بن مالك كلهم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، لكن عنده من طريق عمر بن أبي بكر عن أبيه " أن أبا هريرة قال في هذه القصة إنما كان أسامة بن زيد حدثني " فيحمل على أنه كان عنده عن كل منهما.
ويؤيده رواية أخرى عند النسائي من طريق أخرى عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه قال فيها " إنما حدثني فلان وفلان " وفي رواية مالك المذكورة " أخبر نية مخبر " والظاهر أن هذا من تصرف الرواة، منهم من أبهم الرجلين ومنهم من اقتصر على أحدهما تارة مبهما وتارة مفسرا، ومنهم من لم يذكر عن أبي هريرة أحدا، وهو عند النسائي أيضا من طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن الحارث ففي آخره " فقال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب".
قوله: (وقال همام وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالفطر والأول أسند) أما رواية همام فوصلها أحمد وابن حبان من طريق معمر عنه بلفظ " قال صلى الله عليه وسلم: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم حينئذ " وأما رواية ابن عبد الله بن عمر فوصلها عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن ابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة به " وقد اختلف على الزهري في اسمه فقال عنه شعيب عنه " أخبرني عبد الله بن عمر قال لي أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا " أخرجه النسائي والطبراني في " مسند الشاميين".
وقال عقيل عنه " عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر به " فاختلف على الزهري هل هو عبد الله مكبرا أو عبيد الله مصغرا، وأما قول المصنف: والأول أسند فاستشكله ابن التين قال: لأن إسناد الخبر رفعه فكأنه قال: إن الطريق الأولى أوضح رفعا، قال: لكن الشيخ أبو الحسن قال: معناه أن الأول أظهر اتصالا.
قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى أقوى إسنادا، وهي من حيث الرجحان كذلك لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدا بمعنى واحد حتى قال ابن عبد البر أنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتى به، وجاء عنه من طريق هذين أنه كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك وقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن " سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكره، أخرجه عبد الرزاق، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وله من طريق المقبري قال بعثت عائشة إلى أبي هريرة لأتحدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القاري " سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله " لكن بين أبو هريرة كما مضى أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة، وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك.
وأما ما أخرجه ابن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنه قال " كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر، وأن ذلك من كيس أبي هريرة " فلا يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك.
نعم قد رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك إما لرجحان رواية أمي المؤمنين في جواز ذلك صريحا على رواية غيرهما مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال، إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم، وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخا لخبر غيرهما.
وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي.
وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعا أو كالإجماع لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة من فرق بين من تعمد الجنابة وبين من احتلم كما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوس أيضا.
قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة.
قلت: ولم يصح عنه، فقد أخرج ذلك ابن المنذر من طريق أبي المهزم وهو ضعيف عن أبي هريرة، ومنهم من قال: يتم صومه ذلك اليوم ويقضيه حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر.
قلت: وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك فقال اختلف أبو هريرة وعائشة فأرى أن يتم صومه ويقضى ا ه، وكأنه لم يثبت عنده رجوع أبي هريرة عن ذلك، وليس ما ذكره صريحا في إيجاب القضاء.
ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء أيضا، والذي نقله الطحاوي عنه استحبابه، ونقل ابن عبد البر عنه وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع، ووقع لابن بطال وابن التين والنووي والفاكهي وغير واحد في نقل هذه المذاهب مغايرات في نسبتها لقائلها والمعتمد ما حررته.
ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه، وهذا النقل معترض بما رواه النسائي بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أنه احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح قال فاستفتيت أبا هريرة فقال أفطر، وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم، وهذا صريح في عدم التفرقة.
وحمل القائلون بفساد صيام الجنب حديث عائشة على أنه من الخصائص النبوية، أشار إلى ذلك الطحاوي بقوله: وقال آخرون يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت عائشة وحكم الناس على ما حكى أبو هريرة.
وأجاب الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحا ما يدل على عدمها، وترجم بذلك ابن حبان في صحيحة حيث قال " ذكر البيان بأن هذا الفعل لم يكن المصطفى مخصوصا به " ثم أورد ما أخرجه هو ومسلم والنسائي وابن خزيمة وغيرهم من طريق أبي يونس مولى عائشة عن عائشة " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة - أي صلاة الصبح - وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم.
فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى " وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهم أن أبا هريرة غلط في هذا الحديث ثم رد عليه بأنه لم يغلط بل أحال على رواية صادق، إلا أن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصيام كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم قال فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه.
قلت: ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية لقوله فيها " قد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر " وأشار إلى آية الفتح وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء.
قلت: وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين كما تقدم من قول البخاري والأول أسند " وكذا قال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولا سيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية، والمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعا، فكذلك إذا احتلم ليلا بل هو من باب الأولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهارا.
وهو شبيه بمن يمنع من التطيب وهو محرم لكن لو تطيب وهو حلال ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم عليه.
وجمع بعضهم بين الحدثين.
أن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز ونقل النووي هذا عن أصحاب الشافعي، وفيه نظر، فإن الذي نقله البيهقي وغيره عن نص الشافعي سلوك الترجيح وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، ويعكر على حمله على الإرشاد التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي الصيام فكيف يصح الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان؟ وقيل هو محمول على من أدركه مجامعا فاستدام بعد طلوعه عالما بذلك، ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه " أن أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم " وحكى ابن التين عن بعضهم أنه سقط " لا " من حديث الفضل، وكان في الأصل " من أصبح جنبا في رمضان فلا يفطر " فلما سقط " لا " صار " فليفطر " وهذا بعيد بل باطل، لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث وأنها يطرقها مثل هذا الاحتمال، وكأن قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلا على اللفظ المذكور.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم دخول العلماء على الأمراء ومذاكرتهم إياهم بالعلم.
وفيه فضيلة لمروان ابن الحكم لما يدل عليه الحديث من اهتمامه بالعلم ومسائل الدين.
وفيه الاستثبات في النقل والرجوع في المعاني إلى الأعلم، فإن الشيء إذا نوزع فيه رد إلى من عنده علمه، وترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الاطلاع دون الرجال على مروي الرجال كعكسه، وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه، والائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لم يقم دليل الخصوصية، وأن للمفضول إذا سمع من الأفضل خلاف ما عنده من العلم أن يبحث عنه حتى يقف على وجهه، وأن الحجة عند الاختلاف في المصير إلى الكتاب والسنة.
وفيه الحجة بخبر الواحد وأن المرأة فيه كالرجل.
وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه.
وفيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة وإنما بينها لما وقع من الاختلاف.
وفيه الأدب مع العلماء، والمبادرة لامتثال أمر ذي الأمر إذا كان طاعة، ولو كان فيه مشقة على المأمور.
(تكميل) : في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها، قال النووي في شرح مسلم: مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أو لا، وكأنه أشار بذلك إلى ما حكاه في شرح المهذب عن الأوزاعي، لكن حكاه ابن عبد البر عن الحسن بن صالح أيضا، وحكى ابن دقيق العيد أن في المسألة في مذهب مالك قولين، وحكاه القرطبي عن محمد بن مسلمة من أصحابهم ووصف قوله بالشذوذ، وحكى ابن عبد البر عن عبد الملك بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر لأنها في بعضه غير طاهرة، قال: وليس كالذي يصبح جنبا لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه.
*3*
باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا
الشرح:
قوله: (باب المباشرة للصائم) أي بيان حكمها وأصل المباشرة التقاء البشرتين ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج.
وليس الجماع مرادا بهذه الترجمة.
قوله: (وقالت عائشة رضي الله عنه يحرم عليه فرجها) وصله الطحاوي من طريق أبي مرة مولى عقيل عن حكيم بن عقال قال " سألت عائشة ما يحرم على من امرأتي وأنا صائم؟ قالت فرجها " إسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه أيضا ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن مسروق " سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائما؟ قالت كل شيء إلا الجماع".
الحديث:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَآرِبُ حَاجَةٌ قَالَ طَاوُسٌ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ
الشرح:
قوله: (حدثنا سليمان بن حرب عن شعبة) كذا للأكثر، ووقع للكشميهني عن سعيد بمهملة وآخره دال، وهو غلط فاحش فليس في شيوخ سليمان بن حرب أحد اسمه سعيد حدثه عن الحكم، الحكم المذكور هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعي.
وقد وقع عند الإسماعيلي عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب عن شعبة على الصواب، لكن وقع عنده عن إبراهيم " أن علقمة وشريح بن أرطاة رجلان من النخع كانا عند عائشة، فقال أحدهما لصاحبه سلها عن القبلة للصائم، قال: ما كنت لأرفث عند أم المؤمنين.
فقالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه " قال الإسماعيلي: رواه غندر وابن أبي عدي وغير واحد عن شعبة فقالوا " عن علقمة " وحدث به البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال " عن الأسود " وفيه نظر، وصرح أبو إسحاق بن حمزة فيما ذكره أبو نعيم في " المستخرج " عنه بأنه خطأ.
قلت: وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله بن معبد عن سليمان بن حرب كما قال البخاري، وكأن سليمان بن حرب حدث به على الوجهين، فإن كان حفظه عن شعبة فلعل شعبة حدث به على الوجهين، وإلا فأكثر أصحاب شعبة لم يقولوا فيه من هذا الوجه عن الأسود، وإنما اختلفوا: فمنهم من قال كرواية يوسف المتقدمة وصورتها الإرسال، وكذا أخرجه النسائي بطريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة.
ومنهم من قال عن إبراهيم عن علقمة وشريح، وقد ترجم النسائي في سننه الاختلاف فيه على إبراهيم، والاختلاف على الحكم وعلى الأعمش وعلى منصور وعلى عبد الله ابن عون كلهم عن إبراهيم، وأورده من طريق إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال " خرج نفر من النخع فيهم رجل يدعى شريحا فحدث أن عائشة قالت " فذكر الحديث، قال فقال له رجل: لقد هممت أن أضرب رأسك بالقوس، فقال قولوا له فليكف عني حتى نأتي أم المؤمنين؛ فلما أتوها " قالوا لعلقمة: سلها، فقال: ما كنت لأرفث عندها اليوم، فسمعته فقالت " فذكر الحديث، ثم ساقه من طريق عبيدة عن منصور فجعل شريحا هو المنكر وأبهم الذي حدث بذلك عن عائشة، ثم استوعب النسائي طرقه، وعرف منها أن الحديث كان عند إبراهيم عن علقمة والأسود ومسروق جميعا فلعله كان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وتارة يجمع وتارة يفرق، وقد قال الدار قطني بعد ذكر الاختلاف فيه على إبراهيم: كلها صحاح وعرف من طريق إسرائيل سبب تحديث عائشة بذلك واستدراكها على من حدث عنها به على الإطلاق بقولها " ولكنه كان أملككم لإربه " فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكا لنفسه دون من لا يأمن من الوقوع فيما يحرم.
وفي رواية حماد عند النسائي " قال الأسود قلت لعائشة أيباشر الصائم؟ قالت: لا.
قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه " وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قاله القرطبي.
قال: وهو اجتهاد منها.
وقول أم سلمة - يعني الآتي ذكره - أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة.
قلت: قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك كما تقدم، فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه " يحل له كل شيء إلا الجمع " بحمل النهي هنا على كراهة التنزيه فإنها لا تنافي الإباحة.
وقد رويناه في كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بلفظ " سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها، وكأن هذا هو السر في تصدير البخاري بالأثر الأول عنها لأنه يفسر مرادها بالنفي المذكور في طريق حماد وغيره والله أعلم.
ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في " الموطأ " عن أبي النضر " أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال أقبلها وأنا صائم؟ قالت نعم " قوله: (كان يقبل ويباشر وهو صائم) التقبيل أخص من المباشرة، فهو من ذكر العام بعد الخاص، وقد رواه عمرو بن ميمون عن عائشة بلفظ " كان يقبل في شهر الصوم " أخرجه مسلم والنسائي.
وفي رواية لمسلم " يقيل في رمضان وهو صائم " فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين صوم الفرض والنفل.
وقد اختلف في القبلة والمباشرة للصائم: فكرهها قوم وهو مطلقا وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر " أنه كان يكره القبلة والمباشرة " ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى (فالآن باشروهن) الآية.
فمنع المباشرة في هذه الآية نهارا، والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها، والله أعلم.
وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم وألزم ابن حزم أهل القياس أن يلحقوا الصيام بالحج في المباشرة ومقدمات النكاح للاتفاق على إبطالهما بالجماع، وأباح القبلة قوم مطلقا وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها، وفرق آخرون بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف أخرج أحدها أبو داود من حديث أبي هريرة والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفرق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك كما أشارت إليه عائشة وكما تقدم ذلك في مباشرة الحائض في كتاب الحيض.
وقال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا؛ ليسلم له صومه، وهو قول سفيان الشافعي، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أنه " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك.
فقال: يا رسول الله قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
فقال: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان شابا، ولعله كان أول ما بلغ وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار " عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم، فأمر امرأته أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسألته فقال إني أفعل ذلك، فقال زوجها: يرخص الله لنبيه فيما يشاء.
فرجعت فقال: أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم " وأخرجه مالك، لكنه أرسله قال " عن عطاء أن رجلا " فذكر نحوه مطولا.
واختلف فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء.
وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر، إلا في الإمذاء فيقضي فقط.
واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك.
وتعقب بأن الأحكام علقت بالجماع ولو لم يكن إنزال فافترقا.
وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فأنعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك.
وأبلغ من ذلك ما روى عبد الرزاق عن حذيفة " من تأمل خلق امرأته وهو صائم بطل صومه " لكن إسناده ضعيف.
وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف.
كذا قال وفيه نظر، فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل، وقوى ذلك وذهب إليه.
وسأذكر في الباب الذي يليه زيادة في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
قوله: (لأربه) بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروي بكسر الهمزة وسكون الراء أي عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير.
قوله: (وقال ابن عباس.
مأرب حاجة) مأرب بسكون الهمزة وفتح الراء، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (ولي فيها مآرب أخرى) قال: حاجة أخرى، كذا فيه، وهو تفسير الجمع بالواحد، فلعله كان فيها حاجات أو حوائج فقد أخرجه أيضا من طريق عكرمة عنه بلفظ " مآرب أخرى " قال " حوائج أخرى".
قوله: (وقال طاوس (غير أولي الإربة) الأحمق لا حاجة له في النساء) وصله عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: (غير أولى الإربة) قال: هو الأحمق الذي ليس له في النساء حاجة.
وقد وقع لنا هذا الأثر بعلو في " جزء محمد بن يحيى الذهلي"؛ المروي من طريق السلفي، وقد تقدم في الحيض بيان الاختلاف في قوله " لأربه " ورأيت بخط مغلطاي في شرحه هنا قال: وقال ابن عباس - أي في تفسير أولى الإربة - المقعد.
وقال ابن جبير المعتوه.
وقال عكرمة العنين، ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري.
وإنما أوقعه في ذلك أن القطب لما أخرج أثر طاوس قال بعده " وعن ابن عباس المعقد الخ " ولم يرد القطب أن البخاري ذكر ذلك، وإنما أورده القطب من قبل نفسه من كلام أهل التفسير.
قوله: (وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه) وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر بن هرم " سئل جابر بن زيد عن رجل نظر إلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها هل يفطر؟ قال: لا، ويتم صومه " وقد تقدم نقل الخلاف فيه قريبا.
(تنبيه) : وقع هذا الأثر في رواية أبي ذر وحده هنا، ووقع في رواية الباقين في أول الباب الذي بعده، وذكره ابن بطال في البابين معا، ومناسبته للبابين من جهة التفرقة بين من يقع منه الإنزال باختياره بين من يقع منه بغير اختياره كما سيأتي بسط القول فيه إن شاء الله تعالى.