الشرح:
قوله: (باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة) ذكر فيه حديث أنس في قصة بني سلمة وقد تقدم الكلام عليه في " باب احتساب الآثار " في أوائل صلاة الجماعة.
(تنبيه) : ترجم البخاري بالتعليلين، فترجم في الصلاة باحتساب الآثار لقوله صلى الله عليه وسلم "مكانكم تكتب لكم آثاركم " وترجم هنا بما ترى لقول الراوي " فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة " وكأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر في مخاطبتهم على التعليل المتعلق بهم لكونه أدعى لهم إلى الموافقة.
الحديث:
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ وَقَالَ يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فَأَقَامُوا
الشرح:
قوله (ألا تحتسبون) كذا للأكثر.
وفي رواية " ألا تحتسبوا " وحذف نون الرفع في مثل هذا لغة مشهورة.
*3*
باب
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي
الشرح:
قوله: (باب) كذا في جميع النسخ بلا ترجمة، وهو مشتمل على حديثين وأثر، ولكل منهما تعلق بالترجمة التي قبله: فحديث " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " فيه إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة، وحديث عائشة في قصة وعك أبي بكر وبلال فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بقوله " اللهم صححها " وفي ذلك إشارة إلى الترغيب في سكناها أيضا، وأثر عمر في دعائه بأن تكون وفاته بها ظاهر في ذلك، وفي كل ذلك مناسبة لكراهته صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، أي تصير خالية.
فأما الحديث الأول في المنبر فقوله " ما بين بيتي ومنبري " كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري بدل " بيتي " وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ " بيتي " وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله بيتي أحد بيوته لا كلها وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ " ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة " أخرجه الطبراني في الأوسط.
قوله: (روضة من رياض الجنة) أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيها بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازا، أو هو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقة بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة.
هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة، وأما قوله " ومنبري على حوضي " أي ينقل يوم القيامة فينصب على الحوض.
وقال الأكثر المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر.
ويؤيده حديث أبي سعيد المتقدم وقد رواه الطبراني في " الكبير " من حديث أبي واقد الليثي رفعه " إن قوائم منبري رواتب في الجنة " وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم.
ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعا وقيل أربع وخمسون وسدس وقيل خمسون إلا ثلثي ذراع وهو الآن كذلك فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار، واستدل به على أن المدينة أفضل من مكة لأنه أثبت التي بين البيت والمنبر من الجنة، وقد قال الحديث الآخر " لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " وتعقبه ابن حزم بأن قوله أنها من الجنة مجازا إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة (أن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب هذا من أيام الجنة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجنة تحت ظلال السيوف " قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة، فإن قيل إن ما قرب منها أفضل مما بعد لزمهم أن يقولوا إن الجحفة أفضل من مكة ولا قائل به.
وأما حديث عائشة فقوله " وعك " بضم أوله أي أصابه الوعك وهو الحمى، وقيل مغث الحمى، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفي في كتاب المغازي أول الهجرة إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا
الشرح:
قوله: (قالت) يعني عائشة، والقائل عروة فهو متصل.
قوله: (وهي أوبأ) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور بهمز وبغير همز هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المرض ولو عم.
قوله: (قالت فكان بطحان) يعني وادي، المدينة وقولها (يجري نجلا، تعني ماء آجنا) هو من تفسير الراوي عنها، وغرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الذي هذه صفته يحدث عنده المرض، وقيل النجل النز بنون وزاي، يقال استنجل الوادي إذا ظهر نزوزه.
و " نجلا " بفتح النون وسكون الجيم وقد تفتح حكاه ابن التين.
وقال ابن فارس: النجل بفتحتين سعة العين وليس هو المراد هنا.
وقال ابن السكيت: النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء.
وقال الحربي نجلا أي واسعا، ومنه عين نجلاء أي واسعة، وقيل هو الغدير الذي لا يزال فيه الماء.
قوله: (تعني ماء آجنا) بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي متغيرا، قال عياض: هو خطأ ممن فسره فليس المراد هنا الماء المتغير.
قلت: وليس كما قال فإن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة.
وأما أثر عمر فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي ثم قال: بلى يأتي بها الله إن شاء.
الحديث:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الشرح:
قوله: (وقال ابن زريع روح بن القاسم) وصله الإسماعيلي عن إبراهيم بن هاشم عن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع به ولفظه " عن حفصة قالت: سمعت عمر يقول: اللهم قتلا في سبيلك ووفاة ببلد نبيك.
قالت فقلت: وأنى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء".
قوله: (وقال هشام) ابن سعد (عن زيد عن أبيه) أسلم، وصله ابن سعد عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك عنه ولفظه " عن حفصة أنها سمعت أباها يقول " فذكر مثله، وفي آخره " إن الله يأتي بأمره إن شاء " وأراد البخاري بهذين التعليقين بيان الاختلاف فيه على زيد بن أسلم، فاتفق هشام بن سعد وسعيد ابن أبي هلال على أنه " عن زيد عن أبيه أسلم عن عمر " وقد تابعهما حفص بن ميسرة عن زيد عند عمر ابن شبة، وانفرد روح بن القاسم عن زيد بقوله " عن أمه " وقد رواه ابن سعد " عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر " فذكره مرسلا، وللحديث طريق أخرى أخرجها البخاري في تاريخه من طريق " محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القارئ عن جده عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله أنه سمع عمر يقول ذلك " وطريق أخرى أخرجها عمر بن شبة من طريق " عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر " إسنادها صحيح، ومن وجه آخر منقطع وزاد " فكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يدرون ما وجهه حتى طعن أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه".
(تنبيه) : تقدم ما يتعلق بفضل الصلاة في المسجد النبوي ومسجد قباء والمسجد الأقصى في أبواب في أواخر كتاب الصلاة.
(خاتمة) : اشتمل ذكر المدينة على ستة وعشرين حديثا، المعلق منها أربعة، والمكرر منها فيه وفيما مضى تسعة، والخالص سبعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في ذكر بني حارثة، وحديث أبي بكرة في ذكر الدجال.
وفيه من الآثار أقر واحد وهو أثر عمر الذي ختم به فأخرجه موصولا ومعلقا، وفيه إشارة إلى حسن الختام، فنسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، وأن يعين على ختم هذا الشرح، ويرفعنا به إلى المحل الأسنى، إنه على كل شيء قدير.