الشرح:
قوله: (باب عمرة في رمضان) كذا في جميع النسخ ولم يصرح في الترجمة بفضيلة ولا غيرها، ولعله أشار إلى ما روي عن عائشة قالت " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت " الحديث أخرجه الدارقطني من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عنها وقال إن إسناده حسن.
وقال صاحب الهدى: إنه غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان.
قلت: ويمكن حمله على أن قولها في رمضان متعلق بقولها خرجت ويكون المراد سفر فتح مكة فإنه كان في رمضان، واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة لكن في ذي القعدة كما تقدم بيانه قريبا، وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير فلم يقل في الإسناد عن أبيه ولا قال فيه في رمضان.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُخْبِرُنَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا قَالَتْ كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلَانٍ وَابْنُهُ لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ قَالَ فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ
الشرح:
قوله: (حدثنا يحيى) هو القطان، وقوله "عن عطاء " في رواية مسلم عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج " أخبرني عطاء".
قوله: (لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها) القائل نسيت اسمها ابن جريج، بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من أن القائل عطاء، وإنما قلت ذلك لأن المصنف أخرج الحديث في " باب حج النساء " من طريق حبيب المعلم عن عطاء فسماها ولفظه " لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية: ما منعك من الحج " الحديث، ويحتمل أن عطاء كان ناسيا لاسمها لما حدث به ابن جريج وذاكرا له لما حدث به حبيبا، وقد خالفه يعقوب بن عطاء فرواه عن أبيه عن ابن عباس قال " جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: حج أبو طلحة وابنه وتركاني.
فقال: يا أم سليم عمرة في رمضان تعدل حجة معي " أخرجه ابن حبان، وتابعه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء أخرجه ابن أبي شيبة، وتابعهما معقل الجزري لكن خالف في الإسناد قال " عن عطاء عن أم سليم " فذكر الحديث دون القصة، فهؤلاء ثلاثة يبعد أن يتفقوا على الخطأ، فلعل حبيبا لم يحفظ اسمها كما ينبغي، لكن رواه أحمد بن منيع في مسنده بإسناد صحيح " عن سعيد بن جبير عن امرأة من الأنصار يقال لها أم سنان أنها أرادت الحج " فذكر الحديث نحوه دون ذكر قصة زوجها، وقد اختلف في صحابيه على عطاء اختلافا آخر يأتي ذكره في " باب حج النساء"، وقد وقع شبيه بهذه القصة لام معقل أخرجه النسائي من طريق معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث " عن امرأة من بني أسد يقال لها أم معقل قالت: أردت الحج فاعتل بعيري، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة في رمضان تعدل حجة " وقد اختلف في إسناده فرواه مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال " جاءت امرأة " فذكره مرسلا وأبهمها، ورواه النسائي أيضا من طريق عمارة بن عمير وغيره عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي معقل، ورواه أبو داود من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رسول مروان عن أم معقل، والذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين، فعند أبي داود من طريق عيسى بن معقل عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل قالت " لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجته جئت فقال.
ما منعك أن تحجي معنا؟ فذكرت ذلك له قال: فهلا حججت عليه، فإن الحج من سبيل الله، فأما إذا فاتك فاعتمري في رمضان فإنها كحجة " ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها أبو علي بن السكن وابن منده في " الصحابة " والدولابي في " الكنى " من طريق طلق بن حبيب " أن أبا طليق حدثه أن امرأته قالت له - وله جمل وناقه - أعطني جملك أحج عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، قالت: إنه في سبيل الله أن أحج عليه " فذكر الحديث وفيه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت أم طليق " وفيه " ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان " وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان، وفيه نطر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق ابن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين، ويدل عليه تغاير السياقين أيضا، ولا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عباس بأنها أم سنان أو أم سليم لما في القصة التي في حديث ابن عباس من التغاير للقصة التي في حديث غيره، ولقوله في حديث ابن عباس أنها أنصارية، وأما أم معقل فإنها أسدية، ووقعت لأم الهيثم أيضا والله أعلم.
قوله: (أن تحجي) في رواية كريمة والأصيلي " أن تحجين " بزيادة النون وهي لغة.
قوله: (ناضح) بضاد معجمة ثم مهملة أي بعير، قال ابن بطال: الناضح البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقي عليه، لكن المراد به هنا البعير لتصريحه في رواية بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس في رواية أبي داود بكونه جملا.
وفي رواية حبيب المذكورة " وكان لنا ناضحان " وهي أبين.
وفي رواية مسلم من طريق حبيب " كانا لأبي فلان زوجها".
قوله: (وابنه) إن كانت هي أم سنان فيحتمل أن يكون اسم ابنها سنانا، وإن كانت هي أم سليم فلم يكن لها يومئذ ابن يمكن أن يحج سوى أنس.
وعلى هذا فنسبته إلى أبي طلحة بكونه ابنه مجازا.
قوله: (ننضح عليه) بكسر الضاد.
قوله: (فإذا كان رمضان) بالرفع وكان تامة وفي رواية الكشميهني " فإذا كان في رمضان".
قوله: (فإن عمرة في رمضان حجة) وفي رواية مسلم " فإن عمرة فيه تعدل حجة " ولعل هذا هو السبب في قول المصنف " أو نحوا مما قال " قال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها، لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر.
وقال ابن بطال: فيه دليل على أن الحج الذي ندبها إليه كان تطوعا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة.
وتعقبه ابن المنير بأن الحجة المذكورة هي حجة الوداع، قال: وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضا، لأن حج أبي بكر كان إنذارا.
قال: فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج.
قلت: وما قاله غير مسلم، إذ لا مانع أن تكون حجت مع أبي بكر وسقط عنها الفرض بذلك، لكنه بنى على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة حتى يسلم مما يرد على مذهبه من القول بأن الحج على الفور.
وعلى ما قاله ابن خزيمة فلا يحتاج إلى شيء مما بحثه ابن بطال.
فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض، للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض.
ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن.
وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها.
وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد.
وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة عمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة.
وقال ابن التين: قوله " كحجة " يحتمل أن يكون على بابه، ويحتمل أن يكون لبركة رمضان، ويحتمل أن يكون مخصوصا بهذه المرأة.
قلت: الثالث قال به بعض المتقدمين، ففي رواية أحمد بن منيع المذكورة قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها.
ووقع عند أبي داود من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل في آخر حديثها " قال فكانت تقول: الحج حجة والعمرة عمرة، وقد قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فما أدري ألي خاصة " تعني أو للناس عامة.
انتهى.
والظاهر حمله على العموم كما تقدم.
والسبب في التوقف استشكال ظاهره، وقد صح جوابه، والله أعلم.
(فصل) لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أشهر الحج كما تقدم، وقد ثبت فضل العمرة في رمضان بحديث الباب، فأيهما أفضل؟ الذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل، لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فأراد الرد عليهم.
بالقول والفعل، وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل، والله أعلم.
وقال صاحب " الهدى ": يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادة بما هو أهم من العمرة، وخشي من المشقة عل أمته إذ لو اعتمر في رمضان لبادروا إلى ذلك مع ما هم عليه من المشقة في الجمع بين العمرة والصوم، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفا من المشقة عليهم.
*3*
باب الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَغَيْرِهَا
الشرح:
قوله: (باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها) الحصبة بالمهملتين وموحدة وزن الضربة، والمراد بها ليلة المبيت بالمحصب.
وقد سبق الكلام على التحصيب في أواخر أبواب الحج، وأورد المصنف فيه حدث عائشة وفيه " فلما كان ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم " قال ابن بطال: فقه هذا الباب أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة هي ليلة النفر الأخير لأنها آخر أيام الرمي.
واختلف السلف في العمرة أيام الحج، فروى عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال " سئل عمر وعلي وعائشة عن العمرة ليله الحصبة، فقال عمر: هي خير من لا شيء.
وقال علي نحوه.
وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة " انتهى وأشارت بذلك إلى أن الخروج لقصد العمرة من البلد إلى مكة أفضل من الخروج من مكة إلى أدنى الحل، وسيأتي تقرير ذلك بعد بابين، وسيأتي الكلام على الحديث بعد باب.
ومحمد شيخ البخاري فيه هو ابن سلام.
*3*
باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ
الشرح:
قوله: (باب عمرة التنعيم) يعني هل تتعين لمن كان بمكة أم لا؟ وإذا لم تتعين هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أو لا؟ قال صاحب " الهدي " لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلا إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجا من مكة إلى الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها انتهى.
وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته.
واختلف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة، فكرهه مالك، وخالفه مطرف وطائفة من أتباعه وهو قول الجمهور، واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ووافقه أبو يوسف إلا في يوم عرفة، واستثنى الشافعي البائت بمنى لرمي أيام التشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقا كقول الجمهور والله أعلم.
واختلفوا أيضا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة؟ فروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين قال " بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم " ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتا أي ميقاتا من مواقيت الحج.
قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج.
وخالفهم آخرون فقالوا: ميقات العمرة الحل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة.
ثم روي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها قالت " وكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه " قال فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ وَيُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً سَمِعْتُ عَمْرًا كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍو
الشرح:
قوله: (عن عمرو) هو ابن دينار.
قوله: (سمع عمرو بن أوس) يعني أنه سمع، ولفظ " أنه " مما يحذف من الإسناد خطأ في الغالب كما تحذف إحدى لفظتي " قال".
وقد بين سفيان سماعه له من عمرو بن دينار آخره.
ووقع عن الحميدي عن سفيان " حدثنا عمرو بن دينار " قال سفيان: هذا مما يعجب شعبة، يعني التصريح بالإخبار في جميع الإسناد.
قوله: (ويعمرها من التنعيم) معطوف على قوله " أمره أن يردف " وهذا يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم " الحديث، ونحوه رواية مالك السابقة في أوائل الحج ابن شهاب عن عروة عن عائشة " أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن إلى التنعيم " ورواية الأسود عن عائشة السابقة في أواخر الحج " قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم " وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن الأسود والقاسم جميعا عنها بلفظ " فاخرجي إلى التنعيم"، وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يفسر قوله في رواية القاسم عنها السابقة في أوائل الحج حيث أورده بلفظ " أخرج بأختك من الحرم".
وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مليكة عنها في هذا الحديث قال " ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتى تخرج من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم " فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة، ويحتمل أن يكون قوله " فوالله إلخ " من كلام من دون عائشة قاله متمسكا بإطلاق قوله " فأخرج من الحرم " لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة فهو أولى ولا سيما مع صحة أسانيدها والله أعلم.
(فائدة) : زاد أبو داود في روايته بعد قوله " إلى التنعيم ": " فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم فإنها عمرة متقبلة " وزاد أحمد في رواية له " وذلك ليلة الصدر " وهو بفتح المهملة والدال أي الرجوع من منى.
وفي قوله " فإذا هبطت بها " إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة.
والتنعيم بفتح المثناة وسكون النون وكسر المهملة مكان معروف خارج مكة، وهو على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي.
وقال المحب الطبري: التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل، وليس بطرف الحل بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحل فقد تجوز.
قلت: أو أراد بالنسبة إلى بقية الجهات.
وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير قال: إنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له ناعم، والذي عن اليسار يقال له منعم، والوادي نعمان.
وروى الأزرقي من طريق ابن جريج قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة قال فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن علي بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب.
ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة، وقيل هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجحه المحب الطبري.
وقال الفاكهي: لا أعلم إلا أني سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم.
وفي هذا الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرا وحضرا، وإرداف المحرم محرمه معه.
واستدل به على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة، وهو أحد قولي العلماء، والثاني تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات، وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك، واستدل به على أن أفضل جهات الحل التنعيم، وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم، لا أنه الأفضل، وسيأتي إيضاح هذا في " باب أجر العمرة على قدر التعب".
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلَّا مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا بَلْ لِلْأَبَدِ
الشرح:
قوله: (عن عطاء) هو ابن أبي رباح.
قوله: (وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة) هذا مخالف لما رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة " إن الهدي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسار " وسيأتي بعد بابين للمصنف من طريق أفلح عن القاسم بلفظ " ورجال من أصحابه ذوي قوة".
ويجمع بينهما بأن كلا منهما ذكر من اطلع عليه، وقد روى مسلم أيضا من طريق مسلم القري وهو بضم القاف وتشديد الراء عن ابن عباس في هذا الحديث " وكان طلحة ممن ساق الهدي فلم يحل " وهذا شاهد لحديث جابر في ذكر طلحة في ذلك وشاهد لحديث عائشة في أن طلحة لم ينفرد بذلك وداخل في قولها " وذوي اليسار " ولمسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه الهدي.
قوله: (و كان على قدم من اليمن) في رواية ابن جريج عن عطاء عند مسلم " من سعايته " وسيأتي بيان ذلك في أواخر المغازي.
قوله: (بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن جريج عن عطاء عن جابر، وعن ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس في هذا الحديث عند المصنف في الشركة " فقال أحدهما يقول لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الآخر يقول لبيك بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي " وقد تقدم بيان ذلك في " باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم " في أوائل الحج.
قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة) زاد ابن جريج عن عطاء فيه " وأصيبوا النساء " قال عطاء ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم، يعني إتيان النساء، لأن من لازم الإحلال إباحة إتيان النساء، وقد تقدم شرح ذلك في آخر " باب التمتع والقران".
قوله: (وأن عائشة حاضت) في رواية عائشة نفسها كما تقدم أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكة.
وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية، ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة.
وفي رواية القاسم عنها " وطهرت صبيحة ليلة عرفة حتى قدمنا منى"، وله من طريقه " فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت " الحديث.
واتفقت الروايات كلها حتى أنها طافت طواف الإفاضة من يوم النحر.
واقتصر النووي في " شرح مسلم " على النقل عن أبي محمد بن حزم أن عائشة حاضت يوم السبت ثالث ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره يوم النحر، وإنما أخذه ابن حزم من هذه الروايات التي في مسلم.
ويجمع بين قول مجاهد وقول القاسم أنها رأت الطهر وهي بعرفة ولم تتهيأ للاغتسال إلا بعد أن نزلت منى، وانقطع الدم عنها بعرفة وما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى، وهذا أولى والله أعلم.
قوله: (وأنطلق بالحج) تمسك به من قال أن عائشة لما حاضت تركت عمرتها واقتصرت على الحج، وقد تقدم البحث فيه في " باب التمتع والقران".
قوله: (وأن سراقة لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو يرميها) يعني وهو يرمي جمرة العقبة.
وفي رواية يزيد بن زريع عن حبيب المعلم عند المصنف في كتاب التمني " وهو يرمي جمرة العقبة " هذا فيه بيان المكان الذي سأل فيه سراقة عن ذلك، ورواية مسلم من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر كذلك، وسياق مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر يقتضي أنه قال له ذلك لما أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة، وبذلك تمسك من قال إن سؤاله كان عن فسخ الحج عن العمرة، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين لتعدد المكانين.
قوله: (ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد) في رواية يزيد بن زريع " ألنا هذه خاصة " وفي رواية جعفر عند مسلم " فقام سراقة فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذه أم للأبد؟ فشبك أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل للأبد أبدا " قال النووي: معناه عند الجمهور أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إبطالا لما كان عليه الجاهلية، وقيل معناه جواز القران أي دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج، وقيل معناه سقط وجوب العمرة، وهذا ضعيف لأنه يقتضي النسخ بغير دليل، وقيل معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، قال: وهو ضعيف.
وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث.
والله أعلم.