وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
الشرح:
قوله: (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة) جزم بالحكم الأول لتصريح الأخبار التي ذكرها في الباب بذلك، وأورد المسألة الثانية مورد الاستفهام للاحتمال وكأنه أشار إلى ما روي عن مالك في حديث الباب بزيادة " ولا بين الصفا والمروة " قال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن مالك إلا يحيى بن يحيي التميمي النيسابوري.
قلت: فإن كان يحيي حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله فإذا كان الطواف ممتنعا امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له.
وقد روي عن ابن عمر أيضا قال " تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة " أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال: وحدثنا ابن فضيل عن عاصم قلت لأبي العالية تقرأ الحائض؟ قال: لا، ولا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
ولم يذكر ابن المنذر عن أحد من السلف اشتراط الطهارة للسعي إلا عن الحسن البصري، وقد حكى المجد بن تيمية من الحنابلة رواية عندهم مثله، وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح " إذا طافت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع " وعن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن مثله، وهذا إسناد صحيح عن الحسن فلعله يفرق بين الحائض والمحدث كما سيأتي.
وقال ابن بطال: كأن البخاري فهم أن قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت".
أن لها أن تسعى ولهذا قال: وإذا سعى على غير وضوء ا ه، وهو توجيه جيد لا يخالف التوجيه الذي قدمته وهو قول الجمهور، وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث واحتج بحديث أسامة بن شريك " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج " وقال الجمهور: لا يجزئه، وأولوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم وقيل طواف الإفاضة.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي
الشرح:
حديث عائشة وفيه " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا أو هو على حذف إحدى التاءين وأصله تتطهري، ويؤيده قوله في رواية مسلم " حتى تغتسلي " والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور، وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط، قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر حدثنا شعبة سألت الحكم وحمادا ومنصورا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا.
وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها.
وفي هذا تعقب على النووي حيث قال في " شرح المهذب ": انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف، واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله ا ه، ولم ينفردوا بذلك كما ترى، فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ ح وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ
الشرح:
حديث جابر في الإهلال بالحج وفيه قصة قدوم علي ومعه الهدي، وقصة عائشة " حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت " الحديث وسيأتي الكلام عليه مستوفى في " باب عمرة التنعيم " من أبواب العمرة، والاحتياج منه لقوة " غير أنها لم تطف بالبيت".
(تنبيه) : ساقه المؤلف هنا رحمه الله بلفظ خليفة، وسيأتي لفظ محمد بن المثنى في " باب عمرة التنعيم".
الحديث:
حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ أَنَّ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدْ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلْنَهَا أَوْ قَالَتْ سَأَلْنَاهَا فَقَالَتْ وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا إِلَّا قَالَتْ بِأَبِي فَقُلْنَا أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي فَقَالَ لِتَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى فَقُلْتُ أَلْحَائِضُ فَقَالَتْ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا
الشرح:
حديث حفصة " كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف - وفيه - ويعتزل الحيض المصلى " وقد تقدم في الحيض وفي العيدين وتقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الحيض، والمحتاج إليه هنا قولها في آخره " أو ليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا " فهو المطابق لقول جابر " فنسكت المناسك كلها إلا الطواف بالبيت " وكذا قولها " ويعتزل الحيض المصلى " فإنه يناسب قوله " إن الحائض لا تطوف بالبيت " لأنها إذا أمرت باعتزال المصلى كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام بل للكعبة من باب الأولى.
*3*
باب الْإِهْلَالِ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ
وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالْحَجِّ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَهْلَلْنَا مِنْ الْبَطْحَاءِ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ
الشرح:
قوله: (باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج من منى) كذا في معظم الروايات، وفي نسخة معتمدة من طريق أبي الوقت " إلى منى " وكذا ذكره ابن بطال في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه ولا إشكال فيها، وعلى الأول فلعله أشار إلى الخلاف في ميقات المكي، قال النووي: ميقات من بمكة من أهلها أو غيرهم نفس مكة على الصحيح، وقيل مكة وسائر الحرم ا ه.
والثاني مذهب الحنفية، واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي من المسجد، وحجة الصحيح ما تقدم في أول كتاب الحج من حديث ابن عباس " حتى أهل مكة يهلون منها " وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرما، واختلفوا في الوقت الذي يهل فيه: فذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يكون يوم التروية، وروى مالك وغيره بإسناد منقطع وابن المنذر بإسناد متصل عن عمر أنه قال لأهل مكة " ما لكم يقدم الناس عليكم شعثا وأنتم تنضحون طيبا مدهنين، إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج " وهو قول ابن الزبير ومن أشار إليهم عبيد بن جريج بقوله لابن عمر أهل الناس إذا رأوا الهلال، وقيل إن ذلك محمول على الاستحباب وبه قال مالك وأبو ثور.
وقال ابن المنذر: الأفضل أن يهل يوم التروية إلا المتمتع الذي لا يجد الهدي ويريد الصوم فيعجل الإهلال ليصوم ثلاثة أيام بعد أن يحرم، واحتج الجمهور بحديث أبي الزبير عن جابر وهو الذي علقه المصنف في هذا الباب، وقوله في الترجمة " للمكي " أي إذا أراد الحج، وقوله "الحاج " أي الآفاقي إذا كان قد دخل مكة متمتعا.
قوله: (وسئل عطاء إلخ) وصله سعيد بن منصور من طريقه بلفظ " رأيت ابن عمر في المسجد فقيل له: قد رئي الهلال - فذكر قصة فيها - فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء، فلما استوت به راحلته أحرم " وروى مالك في " الموطأ " أن ابن عمر أهل لهلال ذي الحجة، وذلك أنه كان يرى التوسعة في ذلك.
قوله: (وقال عبد الملك إلخ) الظاهر أن عبد الملك هو ابن أبي سليمان وقد وصله مسلم من طريقه عن عطاء عن جابر قال " أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا " الحديث وفيه " أيها الناس أحلوا، فأحللنا، حتى كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج " وقد روى عبد الملك بن جريج نحو هذه القصة وسيأتي في أثناء حديث.
(تنبيه) : قوله " بظهر " أي وراء ظهورنا، وقوله "أهللنا بالحج " أي جعلنا مكة من ورائنا في يوم التروية حال كوننا مهلين بالحج، فعلم أنهم حين الخروج من مكة كانوا محرمين، ويوضح ذلك ما بعده.
قوله: (وقال أبو الزبير عن جابر أهللنا من البطحاء) وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج عنه عن جابر قال " أمرنا النبي إذا أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح " وأخرجه مسلم مطولا من طريق الليث عن أبي الزبير فذكر قصة فسخهم الحج إلى العمرة، وقصة عائشة لما حاضت وفيه " ثم أهللنا يوم التروية " وزاد من طريق زهير عن أبي الزبير " أهللنا بالحج " وفي حديثه الطويل عنده نحو.
(تنبيه) : يوم التروية سيأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه.
قوله: (وقال عبيد بن جريج لابن عمر إلخ) وصله المؤلف في أوائل الطهارة في اللباس بأتم من سياقه هنا، قال ابن بطال وغيره: وجه احتجاج ابن عمر على ما ذهب إليه أنه يهل يوم التروية إذا كان بمكة بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنما أهل حين انبعثت به راحلته بذي الحليفة، ولم يكن بمكة ولا كان ذلك يوم التروية من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته من حين ابتدائه في عمل حجته واتصل له عمله ولم يكن بينهما مكث ربما انقطع به العمل.
فكذلك المكي إذا أهل يوم التروية اتصل عمله، بخلاف ما لو أهل من أول الشهر، وقد قال ابن عباس: لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى.
*3*
باب أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ
الشرح:
قوله: (باب أين يصلي الظهر يوم التروية) أي يوم الثامن من ذي الحجة وسمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدا واستغنوا عن حمل الماء.
وقد روى الفاكهي في " كتاب مكة " من طريق مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد، إذا رأيت الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشبها، فخذ حذرك.
وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلك.
وقيل في تسميته التروية أقوال أخرى شاذة: منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها.
ومنها أن إبراهيم رأى في ليلته أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا يتروى.
ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج.
ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج.
ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو من الثاني لكان يوم التروي بتشديد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية.
الحديث:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى قُلْتُ فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ
الشرح:
قوله: (حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي.
وإسحاق الأزرق هو ابن يوسف، وسفيان هو الثوري.
قال الترمذي بعد أن أخرجه: صحيح يستغرب من حديث إسحاق الأزرق عن الثوري، يعني أن إسحاق تفرد به وأظن أن لهذه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز، ورواية أبي بكر وإن كان قصر فيها كما سنوضحه لكنها متابعة قوية لطريق إسحاق، وقد وجدنا له شواهد: منها ما وقع في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم " فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر " الحديث.
وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس قال " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات " وله عن ابن عمر أنه " كان يحب - إذا استطاع - أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في " الموطأ " عن نافع عنه موقوفا، ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير قال " من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة".
قوله: (يوم النفر) بفتح النون وسكون الفاء يأتي الكلام عليه في أواخر أبواب الحج.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ لَقِيتُ أَنَسًا ح و حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ
الشرح:
قوله: (حدثنا علي) لم أره منسوبا في شيء من الروايات، والذي يظهر لي أنه ابن المديني، وقد ساق المصنف الحديث على لفظ إسماعيل بن أبان، وإنما قدم طريق علي لتصريحه فيها بالتحديث بين أبي بكر وهو ابن عياش وعبد العزيز وهو ابن رفيع.
قوله: (فلقيت أنسا ذاهبا) في رواية الكشميهني " راكبا".
قوله: (انظر حيث يصلي أمراؤك فصل) هذا فيه اختصار يوضحه رواية سفيان وذلك أنه في رواية سفيان بين له المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية وهو منى كما تقدم، ثم خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له صل مع الأمراء حيث يصلون.
وفيه إشعار بأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز وإن كان الاتباع أفضل، ولما خلت رواية أبي بكر بن عياش عن القدر المرفوع وقع في بعض الطرق عنه وهم فرواه الإسماعيلي من رواية عبد الحميد بن بيان عنه بلفظ " أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر هذا اليوم؟ قال: صلى حيث يصلي أمراؤك " قال الإسماعيلي: قوله " صلى " غلط.
قلت: ويحتمل أن يكون كانت " صل " بصيغة الأمر كغيرها من الروايات فأشبع الناسخ اللام فكتب بعدها باء فقرأها الراوي بفتح اللام.
وأغرب الحميدي في جمعه فحذف لفظ فصل من آخر رواية أبي بكر ابن عياش فصار ظاهره أن أنسا أخبر أنه صلى حيث يصلي الأمراء، وليس كذلك فهذا بعينه الذي أطلق الإسماعيلي أنه غلط.
وقال أبو مسعود في " الأطراف ": جود إسحاق عن سفيان هذا الحديث ولم يجوده أبو بكر بن عياش.
قلت: وهو كما قال، وقد قدمت عذر البخاري في تخريجه وأنه أراد به دفع من يتوقف في تصحيحه لتفرد إسحاق به عن سفيان.
ووقع في رواية عبد الله بن محمد في هذا الباب زيادة لفظة لم يتابعه عليها سائر الرواة عن إسحاق وهي قوله " أين صلى الظهر والعصر "؟ فإن لفظ " العصر " لم يذكره غيره، فسيأتي في أواخر صفة الحج عن أبي موسى محمد بن المثنى عند المصنف، وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أبي موسى، وأخرجه أحمد في مسنده عن إسحاق نفسه، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، وأبو داود عن أحمد بن إبراهيم، والترمذي عن أحمد بن منيع ومحمد بن وزير، والنسائي عن محمد بن إسماعيل بن علية وعبد الرحمن بن محمد بن سلام، والدارمي عن أحمد بن حنبل ومحمد بن أحمد، وأبو عوانة في صحيحه عن سعدان بن يزيد، وابن الجارود في " المنتقى " عن محمد بن وزير، وسمويه في فوائده عن محمد بن بشار بندار، وأخرجه ابن المنذر والإسماعيلي من طريق بندار، زاد الإسماعيلي وزهير بن حرب وعبد الحميد بن بيان وأحمد بن منيع كلهم - وهم اثنا عشر نفسا - عن إسحاق الأزرق، ولم يقل أحد منهم في روايته " والعصر"، وادعى الداودي أن ذكر العصر هنا وهم وإنما ذكر العصر في النفس، وتعقب بأن النصر مذكور في هذه الرواية في الموضعين، وقد تقدم التصريح في حديث جابر عند مسلم بأنه صلى الظهر والعصر وما بعد ذلك إلى صبح يوم عرفة بمنى، فالزيادة في نفس الأمر صحيحة إلا أن عبد الله بن محمد تفرد بذكرها عن إسحاق دون بقية أصحابه والله أعلم.
(تكميل) : ليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد، وله عن غير أنس أحاديث تقدم بعضها في " باب من طاف بعد الصبح " والمراد بالنفر الرجوع من منى بعد انقضاء أعمال الحج، والمراد بالأبطح المحصب كما سيأتي في مكانه.
وفي الحديث أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور، وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار فال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة.
وقد تقدمت رواية القاسم عنه أن السنة أن يصليها بمنى فلعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال " إذا زاغت الشمس فليرح إلى منى " قال ابن المنذر في حديث ابن الزبير: أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا.
ثم روي عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح إلا أن الحسن وعطاء قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين.
وكرهه مالك، وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي إلا إن أدركه وقت الجمعة فعليه أن يصليها قبل أن يخرج.
وفي الحديث أيضا الإشارة إلى متابعة أولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة.