وَقَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ
الشرح:
قوله: (باب الحج على الرحل) بفتح الراء وسكون المهملة وهو للبعير كالسرج للفرس أشار بهذا إلى أن التقشف أفضل من الترفه.
قوله: (وقال أبان) هو ابن يزيد العطار والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق.
وهذه الطريق وصلها أبو نعيم في المستخرج من طريق حرمي بن حفص عن أبان بن يزيد العطار به، وسمعناه بعلو في " فوائد أبي العباس بن نجيح " ولم يخرج البخاري لمالك بن دينار وهو الزاهد المشهور البصري غير هذا الحديث الواحد المعلق والغرض منه قوله فيه " وحملها على قتب " وهو بفتح القاف والمثناة بعدها موحدة رحل صغير على قدر السنام وقد ذكره في آخر الباب موصولا بلفظ " فأحقبها " أي أردفها على الحقيبة وهي الزنار الذي يجعل في مؤخر القتب، فقوله في رواية أبان " على قتب " أي حملها على مؤخر قتب، والحاصل أنه أردفها وكان هو على قتب فإن القصة واحدة.
وسيأتي بسط القول في اعتمار عائشة من التنعيم في أبواب العمرة.
قوله: (وقال عمر شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين) وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة وهو بموحدة ومهملة أنه سمع عمر يقول وهو يخطب " إذا وضعتم السروج فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة فإنه أحد الجهادين " ومعناه إذا فرغتم من الغزو فحجوا واعتمروا، وتسمية الحج جهادا إما من باب التغليب أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس لما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال، وسيأتي في ثاني أحاديث الباب الذي بعده ما يؤيده.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ
الشرح:
قوله: (حدثنا محمد بن أبي بكر) هو المقدمي كذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره " وقال محمد بن أبي بكر " وقد وصله الإسماعيلي قال " حدثنا أبو يعلى والحسن بن سفيان وغيرهما قالوا: حدثنا محمد بن أبي بكر به".
وعزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء تأنيث عزر وهو المنع ومنه قوله تعالى (ويعزروه) ، ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون.
وقد أنكره علي بن المديني لما سئل عنه فقال: ليس هذا من حديث يزيد بن زريع والله أعلم.
قوله: (وكانت زاملته) أي الراحلة التي ركبها، وهي وإن لم يجر لها ذكر لكن دل عليها ذكر الرحل، والزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه بل كان ذلك محمولا معه على راحلته وكانت هي الراحلة والزاملة.
وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال " كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج على رحل وليس تحته شيء عثمان بن عفان " وقوله فيه " ولم يكن شحيحا " إشارة إلى أنه فعل ذلك تواضعا واتباعا لا عن قلة وبخل.
وقد روى ابن ماجه هذا الحديث بلفظ آخر لكن إسناده ضعيف فذكر بعد قوله " على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم - ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة".
الحديث:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ
الشرح:
قوله: (حدثنا عمرو) هو ابن علي الفلاس.
وأبو عاصم هو النبيل شيخ البخاري، وروى عنه هنا بواسطة، ونابل والد أيمن بنون وموحدة.
قوله: (فأحقبها على ناقة) في رواية الكشميهني ناقته، وسيأتي الكلام عليه.
*3*
باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
الشرح:
قوله: (باب فضل الحج المبرور) قال ابن خالويه: المبرور المقبول.
وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي.
وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل والله أعلم.
وقد تقدم في ذلك أقوال أخر مع مباحث الحديث الأول في " باب من قال إن الإيمان هو العمل " من كتاب الإيمان، منها أنه يظهر بآخره فإن رجع خيرا مما كان عرف أنه مبرور.
ولأحمد والحاكم من حديث جابر " قالوا يا رسول الله ما بر الحج؟ قال إطعام الطعام وإفشاء السلام " وفي إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد الرحمن بن المبارك) هو العيشي بالتحتانية والشين المعجمة بصري وليس أخا لعبد الله بن المبارك المروزي الفقيه المشهور، وشيخه خالد هو ابن عبد الله الواسطي.
قوله: (نرى الجهاد أفضل العمل) وهو بفتح النون أي نعتقد ونعلم، وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة.
وقد رواه جرير عن صهيب عند النسائي بلفظ " فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد".
قوله: (لكن أفضل الجهاد) اختلف في ضبط " لكن " فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي.
وفي رواية الحموي لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهادا لما فيه من مجاهدة النفس، وسيأتي بقية الكلام في أواخر كتاب الحج في " باب حج النساء " إن شاء الله تعالى.
والمحتاج إليه هنا كونه جعل الحج أفضل الجهاد.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ
الشرح:
قوله: (سمعت أبا حازم) هو سلمان، وأما أبو حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد فلم يسمع من أبي هريرة، وسيار أبو الحكم الراوي عنه بتقديم المهملة وتشديد التحتانية.
قوله: (من حج لله) في رواية منصور عن أبي حازم الآتية قبيل جزاء الصيد " من حج هذا البيت " ولمسلم من طريق جريح عن منصور " من أتى هذا البيت " وهو يشمل الحج والعمرة.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق الأعمش عن أبي حازم بلفظ " من حج أو اعتمر " لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف.
قوله: (فلم يرفث) الرفث الجماع، ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول.
وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء.
وقال عياض: هذا من قول الله تعالى (فلا رفث ولا فسوق) والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع انتهى.
والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام " فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث".
(فائدة) : فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل والله أعلم.
قوله: (ولم يفسق) أي لم يأت بسيئة ولا معصية، وأغرب ابن الأعرابي فقال: إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهلية ولا في أشعارهم وإنما هو إسلامي، وتعقب بأنه كثر استعماله في القرآن وحكايته عمن قبل الإسلام.
وقال غيره: أصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة فاسقا.
قوله: (رجع كيوم ولدته أمه) أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، قال الطيبي: الفاء في قوله " فلم يرفث " معطوف على الشرط، وجوابه رجع أي صار، والجار والمجرور خبر له، ويجوز أن يكون حالا أي صار مشابها لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه ا ه.
وقد وقع في رواية الدارقطني المذكورة " رجع كهيئته يوم ولدته أمه".
وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر، ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج فيما يظهر من الأدلة، أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين لا يؤثر أيضا.
*3*
باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
الشرح:
قوله: (باب فرض مواقيت الحج والعمرة) المواقيت جمع ميقات كمواعيد وميعاد، ومعنى " فرض " قدر أو أوجب، وهو ظاهر نص المصنف وأنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحا ما سيأتي بعد قليل حيث قال " ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة " وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيده القياس على الميقات الزماني فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدم عليه، وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني فلم يجيزوا التقدم على الزماني وأجازوا في المكاني، وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقدم.
وقال مالك يكره، وسيأتي شيء من ذلك في ترجمة " الحج أشهر معلومات " في قوله " وكره عثمان أن يحرم من خراسان".
الحديث:
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ قَالَ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ
الشرح:
قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي، ورجال هذا الإسناد سوى ابن عمر كوفيون، وجبير والد زيد بالجيم والموحدة مصغر ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وفي الرواة زيد بن جبيرة بفتح الجيم وزيادة هاء في آخره لم يخرج له البخاري شيئا.
قوله: (وله فسطاط وسرادق) الفسطاط معروف وهي الخيمة، وأصله عمود الخباء الذي يقوم عليه، وقيل لا يقال لها ذلك إلا إذا كانت من قطن، وهو أيضا مما يغطى به صحن الدار من الشمس وغيرها، وكل ما أحاط بشيء فهو سرادق ومنه (أحاط بهم سرادقها) .
قوله: (فسألته) فيه التفات لأنه قال أولا إنه أتى ابن عمر فكان السياق يقتضي أن يقول فسأله، لكن وقع عند الإسماعيلي " قال فدخلت عليه فسألته".
قوله: (فرضها) أي قدرها وعينها، ويحتمل أن يكون المراد أوجبها وبه يتم مراد المصنف، ويؤيده قرينة قول السائل " من أين يجوز لي " وسيأتي الكلام على الحديث بعد باب.