الشرح:
قوله: (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها) قال الزين بن المنير: المراد بقوله " أو نحوها " بقية ما تشد إليه الرجال من الحرمين وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء تيمنا بالجوار وتعرضا للرحمة النازلة عليهم اقتداء بموسى عليه السلام، انتهى.
وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض.
وقال المهلب: إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ
الشرح:
حديث أبي هريرة " أرسل ملك الموت إلى موسى " الحديث أورده المصنف بطوله من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه ولم يذكر فيه الرفع، وقد ساقه في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه ثم قال: وعن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقد ساقه مسلم من طريق معمر بالسندين كذلك.
وقوله فيه " رمية بحجر " أي قدر رمية حجر، أي أدنني من مكان إلى الأرض المقدسة هذا القدر، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر، وهذا الثاني أظهر، وعليه شرح ابن بطال وغيره.
وأما الأول فهو وإن رجحه بعضهم فليس بجيد إذ لو كان كذلك لطلب الدنو أكثر من ذلك، ويحتمل أن يكون القدر الذي كان بينه وبين أول الأرض المقدسة كان قدر رمية فلذلك طلبها، لكن حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليعمى موضع قبره لئلا تعبده الجهال من ملته انتهى.
ويحتمل أن يكون سر ذلك أن الله لما منع بنى إسرائيل من دخول بيت المقدس وتركهم في التيه أربعين سنة إلى أن أفناهم الموت فلم يدخل الأرض المقدسة مع يوشع إلا أولادهم، ولم يدخلها معه أحد ممن امتنع أولا أن يدخلها كما سيأتي شرح ذلك في أحاديث الأنبياء ومات هرون ثم موسى عليهما السلام قبل فتح الأرض المقدسة على الصحيح كما سيأتي واضحا أيضا، فكأن موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبارين عليها ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلب القرب منها لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقيل إنما طلب موسى الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت ولا ينقل، وفيه نظر لأن موسى قد نقل يوسف عليهما السلام معه لما خرج من مصر كما سيأتي ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى، وهذا كله بناء على الاحتمال الثاني والله أعلم.
واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين: فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها.
والله أعلم.
*3*
باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ
وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلًا
الشرح:
قوله: (باب الدفن بالليل) أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من منع ذلك محتجا بحديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا إلا أن يضطر إلى ذلك " أخرجه ابن حبان، لكن بين مسلم في روايته السبب في ذلك ولفظه " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا، فزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك.
وقال إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه " فدل على أن النهي بسبب تحسين الكفن.
وقوله "حتى يصلي عليه " مضبوط بكسر اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره، وإلا فلا، وبه جزم الطحاوي.
واستدل المصنف للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس " ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه بالليل، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره " وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر، وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز.
وقد تقدم الكلام على حديث ابن عباس قريبا.
وأما أثر أبي بكر فوصله المصنف في أواخر الجنائز في " باب موت يوم الاثنين " من حديث عائشة وفيه " ودفن أبو بكر قبل أن يصبح " ولابن أبي شيبة من حديث القاسم بن محمد قال " دفن أبو بكر ليلا " ومن حديث عبيد بن السباق " أن عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الآخرة " وصح أن عليا دفن فاطمة ليلا كما سيأتي في مكانه.
*3*
باب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ
الشرح:
قوله: (باب بناء المسجد على القبر) أورد فيه حديث عائشة في لعن من بنى على القبر مسجدا، وقد تقدم الكلام عليه قبل ثمانية أبواب.
قال الزين بن المنير: كأنه قصد بالترجمة الأولى اتخاذ المساجد في المقبرة لأجل القبور بحيث لولا تجدد القبر ما اتخذ المسجد.
ويؤيده بناء المسجد في المقبرة على حدته لئلا يحتاج إلى الصلاة فيوجد مكان يصلى فيه سوى المقبرة، فلذلك نحا به منحى الجواز انتهى.
وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو حال خشية أن يصنع بالقبر كما صنع أولئك الذين لعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع، وقد يقول بالمنع مطلقا من يرى سد الذريعة وهو هنا متجه قوي.
*3*
باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ
الشرح:
قوله: (باب من يدخل قبر المرأة) أورد فيه حديث أنس في دفن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزول أبي طلحة في قبرها، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه".
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لِيَقْتَرِفُوا أَيْ لِيَكْتَسِبُوا
الشرح:
قوله: (قال ابن المبارك) تقضم هناك أن الإسماعيلي وصله من طريقه.
ووقع في رواية أبي الحسن القابسي هنا " قال أبو المبارك " بلفظ الكنية، ونقل أبو علي الجياني عنه أنه قال: أبو المبارك كنية محمد بن سنان يعني راوي الطريق الموصولة، وتعقبه بأن محمد بن سنان يكنى أبا بكر بغير خلاف عند أهل العلم بالحديث، والصواب ابن المبارك كما في بقية الطرق.
قوله: (ليقترفوا: ليكتسبوا) ثبت هذا في رواية الكشميهني، وهذا تفسير ابن عباس أخرجه الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قال في قوله تعالى (وليقترفوا ما هم مقترفون) : ليكتسبوا ما هم مكتسبون.
وفي هذا مصير من البخاري إلى تأييد ما قاله ابن المبارك عن فليح، أو أراد أن يوجه الكلام المذكور، وأن لفظ المقارفة في الحديث أريد به ما هو أخص من ذلك وهو الجماع.