*3*
باب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا
وَقَالَ حُمَيْدٌ صَلَّى بِنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ سَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ
الشرح:
قوله: (باب التكبير على الجنازة أربعا) قال الزين بن المنير أشار بهذه الترجمة إلى أن التكبير لا يزيد على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمة أخرى ولا خبرا في الباب، وقد اختلف السلف في ذلك: فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسا ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسا، وروى ابن المنذر وغيره عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا، وروي أيضا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثا.
وسنذكر الاختلاف على أنس في ذلك.
قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر، فذكر ما تقدم.
قال: وذهب بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع.
وقال أحمد مثله لكن قال: لا ينقص من أربع.
وقال ابن مسعود: كبر ما كبر الإمام.
قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال " كان التكبير أربعا وخمسا، فجمع عمر الناس على أربع " وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال " كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وستا وخمسا وأربعا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة".
قوله: (وقال حميد: صلى بنا أنس فكبر ثلاثا ثم سلم، فقيل له فاستقبل القبلة ثم كبر الرابعة ثم سلم) لم أره موصولا من طريق حميد، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أنه كبر على جنازة ثلاثا ثم انصرف ناسيا، فقالوا يا أبا حمزة إنك كبرت ثلاثا فقال: صفوا فصفوا، فكبر الرابعة.
وروي عن أنس الاقتصار على ثلاث.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا معاذ بن معاذ عن عمران ابن حدير قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة فكبر عليها ثلاثا لم يزد عليها.
وروى ابن المنذر من طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن أبي إسحاق قال قيل لأنس إن فلانا كبر ثلاثا فقال: وهل التكبير إلا ثلاثا؟ انتهى قال مغلطاي إحدى الروايتين وهم.
قلت: بل يمكن الجمع بين ما اختلف فيه على أنس إما بأنه كان يرى الثلاث مجزئة والأربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأولى لأنها افتتاح الصلاة كما تقدم في باب سنة الصلاة من طريق ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق أن أنسا قال " أو ليس التكبير ثلاثا؟ فقيل له: يا أبا حمزة التكبير أربعا.
قال: أجل، غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة " وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال: يزيد في التكبير على أربع إلا ابن أبي ليلى انتهى.
وفي المبسوط للحنفية قيل: إن أبا يوسف قال يكبر خمسا.
وقد تقدم القول عن أحمد في ذلك.
ثم أورد المصنف حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي، وقد تقدم الجواب عن إيراد من تعقبه بأن الصلاة على النجاشي صلاة على غائب لا على جنازة، ومحصل الجواب أن ذلك بطريق الأولى.
وقد روى ابن أبي داود في " الأفراد " من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعا وقال: لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمٍ أَصْحَمَةَ وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ
الشرح:
قوله: (وقال يزيد بن هرون وعبد الصمد عن سليم) يعني بإسناده إلى جابر (أصحمة) ووقع في رواية المستملي وقال يزيد عن سليم أصحمة وتابعه عبد الصمد، أما رواية يزيد فوصلها المصنف في هجرة الحبشة عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه، وأما رواية عبد الصمد فوصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن سعيد عنه.
(تنبيه) وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين في المسند والمعلق معا، وفيه نظر لأن إيراد المصنف يشعر بأن يزيد خالف محمد بن سنان، وأن عبد الصمد تابع يزيد، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء فهذا متجه، ويتحصل منه أن الرواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها.
وحكى الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف، قال: وهو غلط فيحتمل أن يكون هذا محل الاختلاف الذي أشار إليه البخاري.
وحكى كثير من الشراح أن رواية يزيد ورفيقه صحمة بالمهملة بغير ألف، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان أصحبة بموحدة بدل الميم.
*3*
باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا
الشرح:
قوله: (باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة) أي مشروعيتها، وهي من المسائل المختلف فيها، ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة مشروعيتها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين.
قوله: (وقال الحسن إلخ) وصله عبد الوهاب بن عطاء في " كتاب الجنائز " له عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا.
وروى عبد الرزاق والنسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال " السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى " إسناده صحيح.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ح حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ
الشرح:
قوله: (عن سعد) هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف الخزاعي كما نسبهما في الإسناد الثاني.
(تنبيه) : ليس في حديث الباب بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر أخرجه الشافعي بلفظ " وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى " أفاده شيخنا في شرح الترمذي وقال إن سنده ضعيف.
قوله: (لتعلموا أنها سنة) قال الإسماعيلي: جمع البخاري بين روايتي شعبة وسفيان، وسياقهما مختلف ا ه.
فأما رواية شعبة فقد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والنسائي جميعا عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه بلفظ " فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي، إنه حق وسنة " وللحاكم من طريق آدم عن شعبة " فسألته فقلت: يقرأ؟ نعم، إنه حق وسنة".
وأما رواية سفيان فأخرجها الترمذي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه بلفظ " فقال: أنه من السنة، أو من تمام السنة " وأخرجه النسائي أيضا من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد بلفظ " فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق " وللحاكم من طريق ابن عجلان أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: " صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة " وقد أجمعوا على أن قول الصحابي " سنة " حديث مسند، كذا نقل الإجماع، مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير، وعلى الحاكم فيه مأخذ آخر وهو استدراكه له وهو في البخاري، وقد روى الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وقال: لا يصح هذا، والصحيح عن ابن عباس قوله " من السنة " وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين، ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال، والله أعلم.
وروى الحاكم أيضا من طريق شرحبيل بن سعد عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبر، ثم قرأ الفاتحة رافعا صوته، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك أصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، إن كان زاكيا فزكه، وإن كان مخطئا فاغفر له.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده.
ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف فقال يا أيها الناس، إني لم أقرأ عليها - أي جهرا - إلا لتعلموا أنها سنة".
قال الحاكم: شرحبيل لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرجته لأنه مفسر للطرق المتقدمة انتهى.
وشرحبيل مختلف في توثيقه، واستدل الطحاوي على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات وبترك التشهد، قال: ولعل قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة.
وقوله "أنها سنة " يحتمل أن يريد أن الدعاء سنة انتهى.
ولا يخفى ما يجيء على كلامه من التعقب، وما يتضمنه استدلاله من التعسف.
*3*
باب الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
الشرح:
قوله: (باب الصلاة على القبر بعدما يدفن) وهذه أيضا من المسائل المختلف فيها، قال ابن المنذر قال بمشروعيته الجمهور، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع إلا فلا.
الحديث:
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
الشرح:
قوله: (قلت من حدثك هذا يا أبا عمرو) القائل هو الشيباني، والمقول له هو الشعبي.
وقد تقدم في " باب الإذن بالجنازة " بأتم من هذا السياق، وفيه عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس، وتكلما هناك على ما ورد في تسمية المقبور المذكور.
ووقع في الأوسط للطبراني من طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن زكريا عن الشيباني أنه صلى عليه بعد دفنه بليلتين.
وقال: إن إسماعيل تفرد بذلك.
ورواه الدارقطني من طريق هريم بن سفيان عن الشيباني فقال " بعد موته بثلاث " ومن طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن الشيباني فقال " بعد شهر " وهذه روايات شاذة، وسياق الطرق الصحيحة يدل على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلَا آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ
الشرح:
قوله في حديث أبي هريرة (فأتى قبره فصلى عليه) زاد ابن حبان في رواية حماد بن سلمة عن ثابت " ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي " وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة وفيها " ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا " قال ابن حبان: في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه.
وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة، واستدل بخبر الباب على رد التفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك.
واختلف من قال بشرع الصلاة لمن لم يصل فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليها من كان لم يصل، وقيل: يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر، وكذا اختلف في أمد ذلك: فعند بعضهم إلى شهر، وقيل ما لم يبل الجسد، وقيل: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته وهو الراجح عند الشافعية، وقيل: يجوز أبدا.
*3*
باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
الشرح:
قوله: (باب الميت يسمع خفق النعال) قال الزين بن المنير: جرد المصنف ما ضمنه هذه الترجمة ليجعله أول آداب الدفن من إلزام الوقار واجتناب اللغط وقرع الأرض بشدة الوطء عليها كما يلزم ذلك مع الحي النائم، وكأنه اقتطع ما هو من سماع الآدميين من سماع ما هو من الملائكة، وترجم بالخفق ولفظ المتن بالقرع إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق وهو ما رواه أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب في أثناء حديث طويل فيه " وأنه ليسمع خفق نعالهم " وروى إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين " أخرجه البزار وابن حبان في صحيحه هكذا مختصرا.
وأخرج ابن حبان أيضا من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم " نحوه في حديث طويل، واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه.
قال ابن الجوزي: ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريما انتهى.
وإنما استدل به من استدل على الإباحة أخذا من كونه صلى الله عليه وسلم قاله وأقره فلو كان مكروها لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي بين القبور وعليه نعلان سبتيتان فقال: يا صاحب السبتيتين ألق نعليك " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم.
وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها، وهو جمود شديد.
وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية ويقول " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها " وهو حديث صحيح كما سيأتي في موضعه.
وقال الطحاوي: يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ
الشرح:
قوله: (حدثنا عياش) هو ابن الوليد الرقام كما جزم به أبو نعيم في " المستخرج " وهو بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى.
وساق حديثه مقرونا برواية خليفة عن يزيد بن زريع على لفظ خليفة، وسيأتي مفردا في عذاب القبر عن عياش بن الوليد بلفظه وما فيه من زيادة، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله.
وقوله هنا " إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه " كذا ثبت في جميع الروايات فقال ابن التين: إنه كرر اللفظ والمعني واحد، ورأيته أنا مضبوطا بخط معتمد " وتولي " بضم أوله وكسر اللام على البناء للمجهول، أي تولي أمره أي الميت، وسيأتي في رواية عياش بلفظ " وتولى عنه أصحابه " وهو الموجود في جميع الروايات عند مسلم وغيره.