*3*
باب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
الشرح:
قوله: (باب حمل الرجال الجنازة دون النساء) قال ابن رشيد: ليست الحجة من حديث الباب بظاهرة في منع النساء، لأنه من الحكم المعلق على شرط.
وليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، لو سلم فهو من مفهوم اللقب.
ثم أجاب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع، ويؤيده العدول عن المشاكلة في الكلام حيث قال: إذا وضعت فاحتملها الرجال، ولم يقل فاحتملت، فلما قطع احتملت عن مشاكلة وضعت دل على قصد تخصيص الرجال بذلك، وأيضا فجواز ذلك للنساء وإن كان يؤخذ بالبراءة الأصلية لكنه معارض بأن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالبا، وهو مباين.
للمطلوب منهن من التستر مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالبا فكيف بالحمل، مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه وغير ذلك من وجوه المفاسد انتهى ملخصا.
وقد ورد ما هو أصرح من هذا في منعهن، ولكنه على غير شرط المصنف، ولعله أشار إليه وهو ما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس قال " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا.
قال: أتدفنه؟ قلن: لا.
قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات".
ونقل النووي في " شرح المهذب " أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما تقدم، ولأن الجنازة لا بد أن يشيعها الرجال فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة.
وقال ابن بطال: قد عذر الله النساء لضعفهن حيث قال (إلا المستضعفين من الرجال والنساء) الآية، وتعقبه الزين بن المنير بأن الآية لا تدل على اختصاصهن بالضعف بل على المساواة انتهى.
والأولى أن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل خاص.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ
الشرح:
قوله: (عن أبيه أنه سمع أبا سعيد) لسعيد المقبري فيه إسناد آخر رواه ابن أبي ذئب عنه عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن حبان وقال: الطريقان جميعا محفوظان.
قوله: (إذا وضعت الجنازة) في رواية ابن أبي ذئب المذكورة " إذا وضع الميت على السرير " فدل على أن المراد بالجنازة الميت، وقد تقدم أن هذا اللفظ يطلق على الميت وعلى السرير الذي يحمل عليه أيضا، وسيأتي بقية الكلام عليه بعد باب.
*3*
باب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ وَامْشِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْهَا
الشرح:
قوله: (باب السرعة بالجنازة) أي نعد أن تحمل.
قوله: (وقال أنس: أنتم مشيعون، فامش) وفي رواية الكشميهني " فامشوا " وأثر أنس هذا وصله عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في " كتاب الجنائز " له عن حميد عن أنس بن مالك أنه " سئل عن المشي في الجنازة فقال: أمامها وخلفها، وعن يمينها وشمالها، إنما أنتم مشيعون".
ورويناه عاليا في " رباعيات أبي بكر الشافعي " من طريق يزيد بن هرون عن حميد كذلك، وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش عن حميد، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي عن حميد " سمعت العيزار - يعني ابن حريث - سأل أنس بن مالك - يعني عن المشي مع الجنازة - فقال: إنما أنت مشيع " فذكر نحوه، فاشتمل على فائدتين: تسمية السائل، والتصريح بسماع حميد.
قال الزين بن المنير: مطابقة هذا الأثر للترجمة أن الأثر يتضمن التوسعة على المشيعين وعدم التزامهم جهة معينة، وذلك لما علم من تفاوت أحوالهم في المشي، وقضية الإسراع بالجنازة أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه لئلا يشق على بعضهم ممن يضعف في المشي عمن يقوى عليه، ومحصله أن السرعة لا تتفق غالبا إلا مع عدم التزام المشي في جهة معينة فتناسبا، وقد سبق إلى نحو ذلك أبو عبد الله بن المرابط فقال: قول أنس ليس من معنى الترجمة إلا من وجه أن الناس في مشيهم متفاوتون.
وقال ابن رشيد: ويمكن أن يقال لفظ المشي والتشييع في أثر أنس أعم من الإسراع والبطء، فلعله أراد أن يفسر أثر أنس بالحديث، قال: ويمكن أن يكون أراد أن يبين بقول أنس أن المراد بالإسراع ما لا يخرج عن الوقار لمتبعها بالمقدار الذي يصدق عليه به المصاحبة.
قوله: (وقال غيره قريبا منها) أي قال غير أنس مثل قول أنس وقيد ذلك بالقرب من الجنازة لأن من بعد عنها يصدق عليه أيضا أنه مشى أمامها وخلفها مثلا، والغير المذكور أظنه عبد الرحمن بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها مهملة، قال سعيد بن منصور " حدثنا مسكين بن ميمون حدثني عروة بن رويم قال شهد عبد الرحمن بن قرط جنازة، فرأى ناسا تقدموا وآخرين استأخروا، فأمر بالجنازة فوضعت، ثم رماهم بالحجارة حتى اجتمعوا إليه، ثم أمر بها فحملت ثم قال: بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها " وعبد الرحمن المذكور صحابي ذكر البخاري ويحيي بن معين أنه كان من أهل الصفة وكان واليا على حمص في زمن عمر، ودل إيراد البخاري لأثر أنس المذكور على اختيار هذا المذهب هو التخيير في المشي مع الجنازة، وهو قول الثوري وبه قال ابن حزم لكن قيده بالماشي اتباعا لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعا " الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها " وعن النخعي أنه إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا فخلفها، وفي المسألة مذهبان آخران مشهوران: فالجمهور على أن المشي أمامها أفضل، وفيه حديث لابن عمر أخرجه أصحاب السنن ورجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، ويعارضه ما رواه سعيد بن منصور وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبزى عن علي قال " المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ " إسناده حسن، وهو موقوف له حكم المرفوع، لكن حكى الأثرم عن أحمد أنه تكلم في إسناده، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة ومن تبعهما.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ
الشرح:
قوله: (حفظناه من الزهري) في رواية المستملي " عن " بدل من، والأول أولى لأنه يقتضي سماعه منه بخلاف رواية المستملي، وقد صرح الحميدي في مسنده بسماع سفيان له من الزهري.
قوله: (عن سعيد بن المسيب) كذا قال سفيان وتابعه معمر وابن أبي حفصة عند مسلم، وخالفهم يونس فقال " عن الزهري حدثني أبو أمامة بن سهل عن أبي هريرة " وهو محمول على أن للزهري فيه شيخين.
قوله: (أسرعوا) نقل ابن قدامة أن الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف وهو قول الحنفية.
قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب، وفي المبسوط: ليس فيه شيء مؤقت، غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة، وعن الشافعي والجمهور المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد.
ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل.
والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم، قال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، ولأن التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال.
قوله: (بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها، وقيل المعنى بتجهيزها، فهو أعم من الأول، قال القرطبي: والأول أظهر.
وقال النووي: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث " تضعونه عن رقابكم".
وتعقبه الفاكهي بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته ذنوبا، فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه، قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه انتهى.
ويؤيده حديث ابن عمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره " أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين بن وحوح مرفوعا " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله " الحديث.
قوله: (فإن تك صالحة) أي الجثة المحمولة.
قال الطيبي: جعلت الجنازة عين الميت، وجعلت الجنازة التي هي مكان الميت مقدمة إلى الخير الذي كني به عن عمله الصالح.
قوله: (فخير) هو خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير، أو مبتدأ خبره محذوف أي فلها خير، أو فهناك خير، ويؤيده رواية مسلم بلفظ " قربتموها إلى الخير " ويأتي في قوله بعد ذلك " فشر " نظير ذلك.
قوله: (تقدمونها إليه) الضمير راجع إلى الخير باعتبار الثواب، قال ابن مالك: روي " تقدمونه إليها " فأنث الضمير على تأويل الخير بالرحمة أو الحسنى.
قوله: (تضعونه عن رقابكم) استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للإتيان فيه بضمير المذكر ولا يخفى ما فيه.
وفيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم، نبه على ذلك ابن بزيزة، ويؤخذ من الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين.