الشرح:
قوله: (باب ليس منا من شق الجيوب) قال الزين بن المنير: أفرد هذا القدر بترجمة ليشعر بأن النفي الذي حاصله التبري يقع بكل واحد من المذكورات لا بمجموعها.
قلت: ويؤيده رواية لمسلم بلفظ " أو شق الجيوب، أو دعا " إلخ.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
الشرح:
قوله: (حدثنا زبيد) بزاي وموحدة مصغر.
قوله: (اليامي) بالتحتانية والميم الخفيفة وفي رواية الكشميهني " الأيامي " بزيادة همزة في أوله.
والإسناد كله كوفيون، ولسفيان وهو الثوري فيه إسناد آخر سيذكر بعد بابين.
قوله: (ليس منا) أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي.
وقال الزين بن المنير ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجودي، وهذا يصان كلام الشارع عن الحمل عليه.
والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له على استصحابه حاله الجاهلية التي قبحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود.
وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر.
وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي.
ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الأتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال " برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم " وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا.
وقال المهلب: قوله أنا بريء أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الإسلام.
قلت: بينهما واسطة تعرف مما تقدم أول الكلام، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره.
وكأن السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم أو التسخط مثلا بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين.
قوله: (لطم الخدود) خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك.
قوله: (وشق الجيوب) جمع جيب بالجيم الموحدة وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التسخط.
قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية، أي من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب.
*3*
باب رِثَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
الشرح:
قوله: (باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم: سعد بن خولة) سعد بالنصب علق المفعولية، وخولة بفتح المعجمة وسكون الواو والرثاء بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدة مدح الميت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث حيث قال الراوي " يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولهذا اعترض الإسماعيلي الترجمة فقال: ليس هذا من مراثي الموتى وإنما هو من التوجع، يقال رثيته إذا مدحته بعد موته ورثيت له إذا تحزنت عليه.
ويمكن أن يكون مراد البخاري هذا بعينه كأنه يقول ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التحزن والتوجع وهو مباح، وليس معارضا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت المباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عيد الله بن أبي أوفى قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي " وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ " نهانا أن نتراثى"، ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجع والتحزن.
ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال من يحضر الميت.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ
الشرح:
قوله: (أن مات) بفتح الهمزة ولا يصح كسرها لأنها تكون شرطية والشرط لما يستقبل وهو قد كان مات، والمعنى أن سعد بن خولة وهو من المهاجرين من مكة إلى المدينة وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى، فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بها، وتوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بها، وأفاد أبو داود الطيالسي في روايته لهذا الحديث عن إبراهيم بن سعد عن الزهري أن القاتل يرثي له إلخ هو الزهري، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد فلم يذكرا ذلك فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها كما سيأتي في كتاب الوصايا مع بقية الكلام عليه وذكر الاختلاف في تسمية البنت المذكورة إن شاء الله تعالى.
*3*
باب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا شَدِيدًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ
الشرح:
قوله: (باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة) تقدم الكلام على هذا التركيب في " باب ما يكره من النياحة على الميت " وعلى الحكمة في اقتصاره على الحلق دون ما ذكر معه في الباب الذي قبله، وقوله "عند المصيبة " مصر للحكم على تلك الحالة ومر واضح.
قوله: (وقال الحكم بن موسى) هو القنطري بقاف مفتوحة ونون ساكنة، ووقع في رواية أبي الوقت " حدثنا الحكم " وهو وهم فإن الذين جمعوا رجال البخاري في صحيحه أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه فدل على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق.
وقد وصله مسلم في صحيحه فقال " حدثنا الحكم بن موسى " وكذا ابن حبان فقال " أخبرنا أبو يعلى حدثنا الحكم".
قوله: (عن عبد الرحمن بن جابر) هو ابن يزيد بن جابر، نسب إلى جده في هذه الرواية وصرح به في رواية مسلم، ومخيمرة بمعجمة وراء مصغر.
قوله: (وجع) بكسر الجيم.
قوله: (في حجر امرأة من أهله) زاد مسلم " فصاحت " وله من وجه آخر من طريق أبي صخرة عن أبي بردة وغيره " قالوا أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة " الحديث.
وللنسائي من طريق يزيد بن أوس عن أم عبد الله امرأة أبي موسى عن أبي موسى فذكر الحديث دون القصة، ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم من طريق ربعي قال " أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة " فحصلنا على أنها أم عبد الله بنت أبي دومة، وأفاد عمر بن شبة في تاريخ البصرة أن اسمها صفية بنت دمون وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى وأن ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميرا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله: (إني بريء) في رواية الكشميهني " أنا بريء " وكذا لمسلم.
قوله: (الصالقة) بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء، ويقال فيه بالسين المهملة بدل الصاد ومنه قوله تعالى (سلقوكم بالسنة حداد) وعن ابن الأعرابي: الصلق ضرب الوجه حكاه صاحب المحكم والأول أشهر، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها، ولفظ أبي صخرة عند مسلم " أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق " أي حلق شعره وسلق صوته - أي رفعه - وخرق ثوبه، وقد تقدم الكلام على المراد بهذه البراءة قبل بباب.
*3*
باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ
الشرح:
قوله: (باب ليس منا من ضرب الخدود) وتقدم الكلام عليه قبل بابين.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
الشرح:
عبد الرحمن المذكور في هذا الإسناد هو ابن مهدي.
*3*
باب مَا يُنْهَى مِنْ الْوَيْلِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
الشرح:
قوله: (باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة) تقدم توجيه هذا التركيب، وهذه الترجمة مع حديثها سقطت للكشميهني وثبتت للباقين.
الحديث:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
الشرح:
حديث ابن مسعود أورده المصنف من وجه آخر وليس فيه ذكر الويل المترجم به، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه وصححه ابن حبان " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور"، والظاهر أن ذكرى دعوى الجاهلية بعد ذكر الويل من العام بعد الخاص.